بنعوش ملفوفة بعلم الوطن يعود الجنود العلويّون من معاركهم البعيدة الغامضة إلى قراهم الفقيرة والحزينة،وغالباً ما يُمنع ذووهم من رؤية جثثهم، فأغلب
هذه الجثث مشوّهة، ولا يمكن معرفة أصحابها وربّما تعود لقتلى آخرين. هذا مايقدّمه لهم رئيسهم المولع بألعاب (البلاي ستيشن)، والذي يظهر على شاشات التلفزة ليتحدّث طويلاً عن تدقيق استعمال المصطلحات، وعن إصلاحات ـ يعرف أكثر من غيره ـ أنّها لن تتحقّق. لم يعد الوطن يعني لأهالي تلك القرى الموحشة إلّا الموت، موت يصفعهم كلّ يوم بنعوش أبنائهم التي تصل من معركة بعيدة أفهمهم النظام أنه يخوضها ضدّ”مؤامرة “يشترك العالم كلّه فيها من أجل إسقاطه،وضد موت سيجتاح بيوتهم إنْ انتصر “المتطرّفون”. في شباط من عام 2013 استطاعت إحدى مجموعات الجيش الحرّ المعارض للنظام السوريّ أن تقتحم مدينة الطبقة بعد حصارها لمدّة شهر، وتمكّنت من أَسر العشرات من جنود وضباط النظام، نسبة كبيرة منهم كانت من العلويّين.وفي الشهر العاشر تمكّنتُ من اللقاء بهؤلاء الأسرى، كان قد مضى على أسْرهم ما يزيد عن ثمانية أشهر. استغرقتْ السيارة التي تقلّنا من الرقّة إلى مكان أسرهم حوالي الخمسين دقيقة، وفي بناء منفرد ومكوّن من طبقة واحدة يحرسه أربعة شبّان يرتدون ثياباً مدنيّة،كان يعيش هؤلاء الأسرى، كان ممنوعاً تصوير المكان من الخارج، لأنّ النظام قد يقصفهم في حال عرف مكانهم، هكذا برّر قائد المجموعة منعنا من التصوير، بدا التبرير سورياليّاً للوهلة الأولى، لكنّها قد تكون الحقيقة، فالنظام الذي خطّط لتطييف الثورة كان يحتاج إلى مجازر طائفيّة، كي يقنع الآخرين بصحّة روايته. كان الأسرى بصحّة جيّدة، وكان مفاجئاً لي أن يُعامل أسرى للنظام أوّلاً وعلويّين ثانياً، بطريقة جيّدة وسط احتقان طائفيّ واضح ووسط حرب مجنونة يخوضها النظام ضدّ السوريّين بوحشيّة بالغة. كانوا غاضبين من النظام الذي أبلغ أهاليهم أنّهم خونة وأنّهم استسلموا.تحدّثوا عن شراسة المعركة التي خاضوها بعد حصار قاس ، وأكّد قائد المجموعة التي أسرتهم حقيقة ماقالوه، وأشار ضاحكاً إلى أحدهم: انظر إليه، كاد أن يقتلني. لايهتمّ النظام السوريّ كثيراً لجنوده، هم لايعنون له أكثر من وقود لمعركة بقاء سلطته، فإن أُسروا أو قُتلوا أو فَقدت وحدتهم أهمّيتها العسكريّة، أدار لهم ظهره وتركهم لمصيرهم، لم يقبل النظام مبادلة هؤلاء الأسرى بمعتقلين مدنيّين كانوا يتظاهرون ضدّه. المقدّم “تميم هيفا” من اللاذقيّة يقول غاضباً: “لماذا تركونا هنا؟ عليهم أن يعملوا أوّلاً على إطلاق سراحنا ومن ثمّ ليحاكمونا، لنرى من هو المقصِّر؟ أمّا أن نُترك هكذا لشهورٍ طويلة، فهذا لا يجوز”. المساعد أوّل “عروة عبّاس” من طرطوس، والمصاب برصاصتين، واحدة سطحيّة في الرأس تمّت معالجتها، وأخرى في الساق، سبّبت انقطاعاً في الأوردة والأعصاب، ممّا أدّى لحدوث عاهة دائمة له، يقول: “وصلتُ إلى مدينة الطبقة قبل شهر واحد فقط من أسري، لم أكن أعلم أيّ شيء عن المدينة، أعطوني مائة طلقة وزجّوا بي في المعركة، ما أريده فقط أن يُجيبني أحد: لماذا نحن هنا؟ لماذا نحن في الأسر طوال هذه الفترة؟؟ ولماذا لا يهتمّ أحد لمصيرنا…؟؟. هذه الحرب المجنونة، والتي لامنتصر فيها ، دمرت البنية التحتيّة الفقيرة لهذا البلد،وفتكت بمئات الآلاف من المدنيّين والعسكريّين،والأخطر من هذا كلّه أنّها تؤسّس لما هو أقسى وأفدح، إنّها تمزّق نسيج مجتمع يُعدّ من أكثر مجتمعات العالم تنوّعاً في مكوّناته، وتضعه في مواجهة قاسية مع صياغة هويّته القادمة. بعد ما يقارب السنة من لقائي بهؤلاء الأسرى وتحديداً في الشهر السابع 2014، تمّ تحريرهم بخدعة تبادل قام بها النظام،مستغِلّاً خوف قائد المجموعة من وصول تنظيم داعش، الذي كان يقترب من منطقة تواجدهم، والذي سيعدمهم جميعاً لو تمكّن منهم،فتساهل في شروط التبادل وتدابيره وتفاصيله، واضطرّ إلى تسليمهم لجهة وسيطة قبل الموعد، لأنّ داعش كانت تقترب،أخذ النظام الأسرى وألغى الصفقة،وصوّر تحريرهم على أنّه عمليّة عسكريّة نوعيّة. رأيت بعضاً من هؤلاء الأسرى على شاشات تلفزة النظام،كانوا يردّدون بعيونهم المطفأة نفس العبارات التي يعرفها السوريّون جيّداً، والتي لاتدلّ إلّا على عمق المأساة التي أّسّس لها النظام السوريّ داخل روح السوريّين، كانوا عند النظام وبين أهلهم أسرى أكثر مما كانوا في أسْرهم الذي تحرّروا منه قبل أيّام.
المصدر : صفحة فيس بوك لــ: