°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

الحياة تحاور أدونيس (2 من 5 )

أدونيس : القوميّة العربيَّة لم تجذبني إطلاقاً

ومجلة « شِعْـر » هذه أسرارُها

( 2 من 5)

 جزء ثانٍ من الحوار الذي أجرته صحيفة «الحياة» مع الشاعر أدونيس ، وفيه يقدّم الشاعر نفسه ، كما لم يفعل من قبل، في حواراته الكثيرة التي أجراها سابقاً.

إنها المرة الأولى يفتح أدونيس دفاتره التي طالما أخفاها، متحدثاً عن أشخاص دخلوا حياته أو عبروها وكان لهم أثر فيه، إيجابي حيناً وسلبي حيناً آخر.

وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أدونيس على هؤلاء الأشخاص الذين نكتشف من خلالهم وجهاً آخر لهذا الشاعر الكبير، وزوايا لعلها تكشف للمرة الأولى .

إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم .

إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.

هنا الحلقة الثانية من «الحوار» مع أدونيس.

- الشاعر السوري بدوي الجبل،كيف كانت علاقتك به ؟

* علاقة إعجاب ، من جهتي . أما من جهته هو ، فلم يكن مرتاحاً إلى اتجاهَي الحديث في الشعر . ولا أعرف إن كنت تعرف أنه قريبي . فهو ابن خال أمي ، عائلياً .

– بدوي الجبل ، ترك فيك أثراً ؟

* ربما . وقد يكون أثره فيَّ أكيداً. غير أنني لا أعي ذلك ، ولا أعرفُ أن أدلّ عليه. بدوي الجبل هو بالنسبة إليّ ، آخر شاعر كلاسيكي عربي كبير.

– كيف تنظر إلى كمال خير بك ؟

* كان يمثّل في شخصه الوحدة بين الشعر والحياة . كان في عمله شاعراً، وفي شعره عاملاً. كان صديقاً نموذجياً. وقد نذر حياته للنضال في سبيل الحزب والقضية الفلسطينية. ومات في حَلْبة النضال.

– وكيف تراه ، شاعراً ؟

* كان حسّه الشعري عميقاً وعالياً. وقد جسّد وعيه الشعري في كتابه النقدي عن الحداثة في الشعر العربي، أطروحته لنيل الدكتوراه في جامعة جنيف. وهو كتاب – مرجع.

– هل تعرّفت إلى إلياس أبو شبكة ، شخصياً؟

* كلا ، مع الأسف.

– كيف كانت علاقتك مع سعيد عقل الذي كتب، كما يقال، نشيد الحزب القومي ؟ وكيف تنظر الآن إلى شعره؟ في أي موقع تضعه ، هو الشاعر الطالع من صميم اللغة العربية. وما رأيك في دعوته إلى القومية اللبنانية والى الكتابة بالحرف اللاتيني ؟

* لم تكن علاقتي بسعيد عقل الشخص، جيدة. مع أنني رأيته أكثر من مرة. غير أنني أفدت من لغته الشعرية في سنواتي الكتابية الأولى . كانت امتداداً متألقاً للغة شاعرين أحببتهما : أبي تمام ، وأبي نواس . فقد قبضَ فيهما على مفتاحٍ تخييلي – ذهني ، أوصله في النتيجة إلى أن « يسجن » لُغته في « غرفة العناية الفائقة »، مفصولة عن العالم وأشيائه. غير أنه ابتكر القصيدة القصيرة التي تبدو كأنها تتدلى على صدر اللغة كمثل «عقد فريد». أما قيمة هذه القصيدة ، تجربة ومعرفة وكشفاً ، فأمرٌ آخر يصعب الآن الدخول فيه . وقد بالغ في اللعب ، والتقليبِ والصقل ، بحيثُ انحصَر شعره بين عتبتين : «امتلاء» اللغة ، و «فراغ» التجربة. وليست دعوتُه إلى القومية اللبنانية إلا نوعاً من الأصيص الوطني لهذه اللغة – الزهرة. أصيصٌ بلا ماء.

أما دعوته إلى الحرف اللاتيني فدعوة شاعر يُنكِرُ هو بنفسه ما خلق له هويته الشعرية وجعله هو هو. دعوة شاعرٍ يخرجُ من شعره ومن نفسه على السواء. وهي إلى ذلك دعوة من يرى الوجود ، إنساناً وشعراً وفكراً ، في «الحَرف». كأنه يريد أن يُحل الأداة – الآلة، محلَّ خالِقها، الإنسان .

إن مشكلة اللغة ليست لغوية. إنها عقلية – إبداعية. مشكلة اللغة في العقل الذي يستخدمها ، لا في الحروفِ التي تُشكّلها.

– إخوتك هل كانوا حاضرين في حياتك أم أنهم كانوا على هامش هذه الحياة ؟ هل أنت على علاقة بهم تتخطى مسألة الدم والقربى أو كنتَ غريباً حتى في العائلة ؟

* أعترف أن العلاقة معهم يغلب عليها الطابع العائلي . بعضهم يدرك، خصوصاً أخي محمد وأختي فاطمة، يدركان بعمقٍ معنى نشاطي الشعري والإبداعي إذا شئت، فعلاقتي بهما ثقافية، لكن علاقتي بالإخوة الآخرين يغلب عليها الطابع العائلي .

– ماذا عنت لك العلاقة بالأخت ، فهذه العلاقة دار حولها الكثير من الكتابات في الروايات والشعر ؟

* لي أختان : ليلى الكبيرة ماتت. والثانية فاطمة. غيابي عن العائلة منذ طفولتي منذ أن كنت في الثالثة عشرة من عمري، لم يترك لي فسحة أو مجالاً لاكتشاف مثل هذه العلاقة.

العلاقات مع الأخت ومع الأخوة جزء من الثقافة أكثر مما هي جزء من الصلات الحية اليومية وذلك بسبب وضعي الشخصي .

اليوم أحرص على رؤية أختي فاطمة باستمرار . خصوصاً أنها فنانة تتمتع بموهبة كبيرة في الرسم .

– فوجئ القراء وأصدقاؤك بأنك بنيت لك مقبرة في القرية وكأنك تريد أن تعود ، بعد عمر طويل ، إلى القرية. ماذا يعني خط العودة هذا ؟

* أظن أن الرغبة في العودة إلى التراب الذي مسته قدماي للمرة الأولى، هو نوع من الاعتراف بالأمومة، نوع من العودة إلى الأمومة لا إلى الأبوّة . طبعاً لم أبنِ قبراً كما قيل وإنما أشرت إلى أنني أحب أن أقبر في زاوية من مكان معين ، في حديقة البيت.

– بعد هذا التطواف الأوليسي الذي عشته ستعود إلى القرية. هل تحلم الآن بأن تقضي جزءاً من حياتك في القرية ؟

*الحقيقة ، هناك مشكلة ، من جهة أنا كائن متغرّب منفصل غير مرتبط، مدينيّ . من جهة ثانية لم أعش كما ينبغي مرحلة الطفولة ، ومرحلة العلاقة بالأمومة ، ومرحلة العلاقة بالأبوة . هل رغبتي في العودة إلى القرية نوع من الثأر تقوم به الطبيعة فيّ ضد المدينة، ويقوم به الاستقرار الطبيعي ضد الترحل المديني ؟ أعترف بهذه المشكلة ، ولا أعرف كيف أحلّلها.

– أسألك كشاعر ومثقف، ألم تجذبك فكرة القومية العربية ؟

* لم تجذبني إطلاقاً .

– هل قرأت الفكر القومي العربي، كما تجلّى على أقلام روّاده ؟

* قرأت الفكر القومي العربي كله تقريباً بدءاً من زكي الأرسوزي إلى ميشال عفلق مروراً بالأشخاص الذين بينهما. بدا لي، وهذا ما تزداد قناعتي به، أن القومية العربية، كما نظّر لها كانت مشكلة تضاف إلى المشكلات التي يجب الخلاص منها.

كانت القومية العربية في هذا التنظير نوعاً من الدعوة الدينية. كانت تزعم أن الحقيقة كامنة فيها، وأنها تجسّد هذه الحقيقة في الوحدة، وفي الدولة الواحدة. وهذا حجابٌ على حقائق الواقع.

حقائق الواقع تؤكد أن هناك عناصر كبرى متعددة ومتنوعة ومتباينة تشكل المجتمع العربي . فكرياً وإنسانياً ، لا يمكن أن نكون إلا ضد نظريات تتيح في المجتمع الواحد، أن تهيمن عليه الكثرة العددية الدينية، وأن ينظر إلى ما عداها من الجماعات، بوصفهم أقليات. أكره هذه الكلمة، ويجب أن تُلغى . العناصر الموجودة في المجتمع سواء كانت مسيحية ، عربية الأصل ، أو مسيحية غير عربية الأصل ، وسواء كانت عناصر تتحدر من التاريخ القديم كالآشوريين والسريان والصابئة أو من عناصر الإثنيات الأخرى كالأرمن والأكراد وغيرهم ، هؤلاء جميعاً عناصر تكوينية في المجتمع العربي، ولا يمكن النظر إليها بوصفها أقليات والعروبة نفسها جزء من هذا التكوين وليست كله. إذاً نظرية القومية العربية نظرية حَجب واختزال، تحمل الكثير من العنصرية، وكان طرحها في الماضي يبدو كأن العرب غزاة ومحتلّون ، قاموا بالغزو الديني الإسلامي لهذه المنطقة.

الإسلام هو أيضاً يجب أن يُنظر إليه بوصفه جزءاً من ثقافة المنطقة وليس كلها . لذلك كنت ضد القومية العربية باستمرار ولا أزال، ضِدّها ، في صيغتها العنصرية السائدة.

– هل تعرفت إلى ميشال عفلق ؟

* مباشرة ً، لا. لكن تعرفت إليه مرة بطريقة مداورة. كان يأتي إلى فندق «بلازا» في الحمرا لأن صاحبه كان صديقاً له، كما كان يقال. مرة قال لي يوسف الخال: ميشال عفلق هنا. ما رأيك أن نجتمع به ونسأله لماذا سورية البعثية القومية التقدمية الاشتراكية تمنع مجلة كمجلة «شعر»؟ على الأقل نعرف منه لماذا تُمنع هذه المجلة. فقلت له أنا شخصياً أستطيع أن أقول لك الجواب سلَفاً. إنما سأنتظرك في مقهى «الهورس شو». اذهب أنت إليه إلى الفندق واسأله أنت بنفسك. بعد ترداد وإصرار قلت لن أذهب معك. سأنتظرك هنا. ذهب وحده، وبعد اجتماعه به، جاء إلى المقهى حزيناً. قال لي ميشال عفلق بعد نقاش طويل : إذا كان الحزب في دمشق يمنع هذه المجلة فالحق معه ، كانت نظرته أيديولوجية ضيقة لا يتحمل أي نوع من الخلاف ولا يفهم أي نوع من التعدد. هذا دليل آخر على الفساد والفاشية في نظرية القومية العربية. بنية حزب البعث العربي نفسه، والأحزاب القومية العربية التي سبقته، بنية دينية، وليست بنية علمانية، عقلانية تعددية.

– ولكن ألم يكن الحزب القومي أيضاً مماثلاً لحزب البعث العربي ؟

* طبعاً. أكرر أن جميع الأحزاب القومية واليسارية ذات بنى دينية بجميع أشكالها. أعتقد أن هذا من العلل الكبرى في العمل السياسي العربي. ونتيجة لانغلاق هذه النظريات، وعدم تطورها، فقد تحوّلت أفكارها إلى طقوس ومظاهر. وبدلاً من أن يعيد أصحابها النظر فيها فتتكيف مع التطورات الاجتماعية، فقد بقيت كمثل الأديان ترى أن على الواقع أن يتكيف معها هي. فهي مطلقة لا تتغيّر، رغم أن الواقع يتغير.

– ألم يحاول البعث أن يجذبك إليه ؟

* لا. منذ البداية قطعت كل علاقة معه. يكرهني حزب البعث – المؤسسة ، ولا يزال ، لكن ، لي صداقات كبيرة مع بعض الأشخاص الذين ينتمون إليه ، أو يتعاطفون معه.

– والحزب الشيوعي ؟

* أميل كثيراً إلى بعض الأفكار الماركسية، وكفكرة الشيوعية بالذات، فهي فكرة عظيمة. غير أنني ، بالمقابل، كنت ضد جميع الأفكار الشائعة في الأوساط الشيوعية العربية ، حول الأدب والفن ، باسم الواقعية الاشتراكية.

– لكنك ، على علاقة طيبة مع بعض الشعراء الماركسيين والشيوعيين، مثل سعدي يوسف وغيره.

* طبعاً.

– هل تركت لبنان في بداية الحرب الأهلية اللبنانية ؟

* لا ، أبداً. عشتها بكاملها حتى عام 1983.

– هل وجدت لنفسك موقعاً في هذه الحرب؟ كنت تركت الحزب السوري القومي ؟

– تركته قبل ذلك بمدة طويلة. منذ 1961. وهذه الحرب لم تكن حرباً. كانت فتكاً ونهشاً ونهباً ووحشية.

– بالنسبة إلى القيادات السورية ، هل كنت على علاقة بأحدهم ؟

* أبداً. ولم أعرف أي شخص قيادي كبير معرفة شخصية .

– حتى حافظ الأسد لم تتعرّف إليه ؟

* أبداً. لم أجتمع به في حياتي كلها. مع أنه كان يلتقي أدباء وكتّاباً كثيرين. ومنهم نزار قباني ، محمود درويش وآخرون.

– كيف تنظر إلى حافظ الأسد ؟

* لا أستطيع أن أتحدث عنه إلا من خارج ، فكراً وعملاً، خصوصاً أنني لم أعرفه شخصياً. ولهذا يظل رأيي فيه جزئياً و «بعيداً». هكذا أعجبت بسياسته الخارجية ، غالباً. كانت تدل على رؤية عميقة، تاريخية واستراتيجية. أعجبت كذلك بقضائه على الطفولة اليسارية، البطّاشة والجاهلة ، في حزب البعث ، فقد دمّر « قادتها » سورية ، على جميع المستويات.

ذهبت إلى سورية وأقمت فيها فترة خلال الحرب اللبنانية، وأصدرت ملحقاً أدبياً لجريدة «الثورة» ، ماذا عنى لك هذا الانتقال من بيروت إلى دمشق، وكم دام ؟

* أولاً، ذهبت وحدي. خالدة، بقيت في بيروت مع أرواد ونينار. لم يكن عندنا بيت، بعد طردنا من بيتنا في الأشرفية. لكن خالدة وأرواد ونينار بقينَ في مدرسة «الكارميل سان – جوزيف»، وكانت خالدة أستاذة الأدب العربي فيها ولم يكن في مقدور المدرسة أن تستقبلني معهن. لهذا ذهبت إلى دمشق، وبقيت إلى أن تمكنّا من استئجار شقة، قرب مبنى اليونسكو، لا نزال نسكنها حتى الآن.

ثانياً، لست أنا من أصدر ملحقاً أدبياً. أصدره الصديق الشاعر علي سليمان، وكان رئيساً لتحرير جريدة «الثورة». فطلب مني أن أشارك في التخطيط لهذا الملحق، وفي تحريره، مع الصديق الشاعر محمد عمران الذي رئس تحريره. فوافقت تحية له. وكان ملحقاً ممتازاً لم تعرف الصحافة السورية حتى الآن ما يرتقي إلى مستواه. غير أن علي سليمان دفع ثمن ذلك غالياً، فقد نُحّي عن رئاسة تحرير الجريدة. ثمّ هُمِّش. ولهذا قصة طويلة.

– كنت ممنوعاً من الذهاب إلى سورية ، أو غير مرحبٍ بك ؟

* لم أدخل سورية طوال عشرين عاماً بين 1956 و1976. ولم أبق فيها إلا فترة سنة جامعية، هي سنة 1976. أقول ذلك، لأنني عندما وصلت إلى دمشق، كان الدكتور محمد الفاضل قد أسندت إليه رئاسة الجامعة السورية، وكان صديقاً عزيزاً، فأحببت أن أقوم بزيارته. سُرّ كثيراً بزيارتي له، وطلب مني أن أكون أستاذاً في الجامعة، قائلاً: السيد الرئيس أعطاني ثقته الكاملة وكلّفني أن أبني جامعة مثالية، إدارة وكفاءة ومعرفة. ويسعدني أن تتعاون معي، وتنضم إلى هيئة التعليم في الجامعة السورية.

تأثّرتُ كثيراً بحرارة استقباله ، وبعرضه الكريم، واعياً، استناداً إلى خُبرتي، أن السلطات العليا سترفض قطعياً دخولي إلى الجامعة، علماً أنني سأرفض أنا شخصياً هذا الدخول لو افترضنا أنها طلبت مني ذلك، خصوصاً أنني حريصٌ جداً على بقائي كما أنا أستاذاً في الجامعة اللبنانية.

غير أنني لم أشأ أن أصدمه. وقلت له بلطف : أنا شخصٌ غير مرغوبٍ به في سورية ، إلا إلى حدٍّ معين وضمنه. ولا أتصوّر أن الجامعة تدخل في هذا الحد. قال مؤكداً: السيد الرئيس أعطاني الصلاحية الكاملة في التخطيط والاختيار، وفي جميع الشؤون المتعلقة بهما. لذلك أرجوك أن تقدّم، شكلياً، طلباً للتعليم في الجامعة السورية.

قلت تأدّباً : آمل أن أكون مخطئاً، وأن تكون أنت المُصيب. وأردفت ممازحاً: سأقدّم لك طلباً، ولعله أن يكون مناسبة، لكي تعرف عملياً مدى قُدراتِك التنفيذية.

قدّمت طلباً. وبعد شهر أو شهرين اتصل بي وقال أحب أن أراك. أتيتُ، فرأيته حزيناً. قال: معك الحق . رفضت الطلب جميع المؤسسات الأمنية، وذكرها. كانت أربعاً أو خمساً بين عسكرية ومدنية. لكن، لا بد من الإشارة إلى أن بعض أعضاء القيادة في الحزب كانوا إلى جانبك. كنت صامتاً، أصغي إليه دون أية مفاجأة. ثم قال لي: سأدعوك أستاذاً زائراً، لهذه السنة 1976، ومثل هذه الدعوة من حقّي ، ولا يقدر أحدٌ أن يُبطلها. أرجوك أن تقبلها. قبلتُ، تحية له أيضاً. لكن، لم تنته السنة حتى اغتالَه من اغتالُوه. فهم لا يزالون مجهولين. وقيل إنهم أشخاصٌ مُتديّنون أصوليون، اختفوا. ولم أفاجأ أن يكون المسؤولون في الجامعة أَنهوا دعوتي، قبل نهاية السنة، ولم يتيحوا لي تبعاً للتقاليد الجامعية واحتراماً لها أن أمتحنَ الطلاب الذين تابعوا محاضراتي، وكان عددهم كبيراً.

– ماذا أفادتك هذه الإقامة القصيرة في سورية بعد طول هجر ؟

* عرفت في هذه الفترة القصيرة التي أمضيتها في جامعة دمشق، أشياء كنت أجهلها، وتعلّمت أشياء كثيرة.

– هل ما زلت تحتفظ بهويتك السورية ؟

* قانونياً، لا تسقط الهوية عن المواطن السوري.

– اذكر إحدى مقولاتك الشهيرة: «لا أستطيع أن أكون لبنانياً، ولا أستطيع إلا أن أكون لبنانياً». ما قصدت بهذه العبارة ؟

– الإنسان في لبنان مُمتهَنٌ، فهو يُقَوَّم في الدولة، في الحياة المدنية، بمعيار طائفي، وبانتمائه الطائفي، لا بمعيار إنسانيته ومواطنيته، وكفاءته. بعض البلدان العربية أقل سوءاً على هذا الصعيد. الإنسان فيها يقوّم إجمالاً، بحسب ولائه للنظام القائم، أو عدم ولائه، في معزل، إجمالاً، عن انتمائه المذهبي أو الطائفي. ويزداد الأمر سوءاً في لبنان بتقويم اللبناني، داخل طائفته نفسها، بمدى قربه أو بعده من زعيمها. على هذا المستوى، لا أستطيع أن أكون لبنانياً.

غير أن لبنان، من جهة ثانية، خلافاً للبلدان العربية أو لمعظمها، يتكوّن من مادة بشرية فريدة: إثنيات، وأديان، وثقافات متنوعة. وهذا يقدّم مكاناً لبناء مجتمع تعددي أو تنوعيّ يندرُ مثيله في العالم. وهو، إذاً، مشروعٌ منفتح يبدو فيه لبنان، كمثل الحب أو كمثل الشعر، لا نهاية له، يُبتكر ويُعاد ابتكاره باستمرار. ويبدو في إطار العالم العربي ضروري الوجود، ضرورة مطلقة. وعلى هذا المستوى، لا أستطيع إلا أن أكون لبنانياً.

– هل حصلت على الجنسية اللبنانية بسهولة، أم خضت معركة ؟

* كان الأمر سهلاً. اكتشفت، بفضل بعض الأصدقاء، خصوصاً المحامي الراحل نعمة حمادة، والنائب الراحل أحمد إسبر، أنّ لي أرومة عائلية في قرية حجولا، قضاء جبيل. وقد ساعدني كثيراً في هذه المسألة الراحل الصديق ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية. هكذا أخذت الجنسية اللبنانية استناداً إلى هذه الأرومة. كانت بمثابة استعادة.

– نعود إلى بيروت التي كانت مدينتك، وبالذات إلى الستينات، كيف تحدد علاقتك بشخص مثل ميشال أسمر عرفته أنت عن كثب ؟

* كنت سعيداً بمعرفته. وقد عملتُ معه في نشاطه الثقافي الذي كان عالياً، وحراً، ومتنوعاً، ومنفتحاً. وفي مُناخ هذا النشاط تعرّفت إلى عددٍ من الأشخاص الذين كانوا آنذاك من أهم الوجوه الثقافية في لبنان.

لعب ميشال أسمر دوراً عظيماً في حركة الثقافة اللبنانية، أتمنى، للمناسبة، أن يُقدَّر كما يجدرُ، وكما يقتضي لبنان – الثقافة.

– والإمام موسى الصدر الذي كان أحد نجوم الندوة اللبنانية ؟

* تعرفت إليه في إطار نشاطها. كان ذا هيبة وجاذبية وتأثير. غير أن علاقتي به كانت محدودة، لأنني لم أكن أعمل أو أنشط في سياق ديني. وكنت ألتقي به، بوصفه رجل دينٍ، يحمل قضيته، على نحوٍ منفتح، ومحبٍ.

– مثل رجال دين آخرين…

* مثل الشيخ عبدالله العلايلي، والشيخ صبحي الصالح، والمطران جورج خضر، والمطران غريغوار حداد والأب يواكيم مبارك، والأب ميشال حايك، تمثيلاً لا حصراً. فهؤلاء جميعاً كانت لي معهم صداقات، ومشاركات في أعمالٍ ثقافية متنوعة. ولا بد هنا، في هذا الإطار، من ذكر أشخاصٍ آخرين، مثل رينه حبشي، وسلوى نصار، وخليل رامز سركيس، وجواد بولس، ومنوال يونس، وحسن صعب، وبهيج طبارة، وكمال الحاج، وجوزيف زعرور، وفؤاد كنعان، وموريس صقر، تمثيلاً لا حصراً.

– خلال هذه الفترة، بدأتم بإنشاء مجلة «شعر». الآن، يقال إن المؤسس هو يوسف الخال. وأحياناً يقال أدونيس يوسف الخال. أو يوسف الخال وأدونيس.

* صدر العدد الأول من المجلة، شتاء 1957. والتقيته في بيروت للمرة الأولى، في تشرين الأول (اكتوبر) 1956. كان يعمل في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك ضمن البعثة اللبنانية التي كان يرئسها أستاذه شارل مالك. كنت أعرفه بالاسم، ولم أكن قرأت له شيئاً. في سنة 1954، نشرت قصيدة طويلة في جريدة «البناء» التي كانت تصدر في دمشق، بعنوان «الفراغ»، نشرت، في ما بعد في مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عن دار مجلة «شعر»، بعنوان «قصائد أولى». قرأ القصيدة وهو في نيويورك، ويبدو أنها أعجبته. اتصل بي، وكان كما بدا لي، من حديثه، أنه يفكّر بإنشاء مجلة خاصة بالشعر. وقال إنه فرح بالقصيدة، خصوصاً بخروجها على التقاليد الوزنية. واتفقنا على أن نلتقي في بيروت. هكذا التقينا في أواسط تشرين الأول 1956، في «مقهى نصر» وحدّثني عن مشروع المجلة.

هو، إذاً، صاحب الفكرة، والعامل الأول على تأسيسها. غير أننا عملنا سوياً، بوصفنا فريقاً واحداً، منذ العدد الأول الذي صدر بعد حوالى شهرين أو أكثر قليلاً، في شتاء 1957. وعندما نتصفح العدد الأول نرى أنني هيّأت شخصياً حوالى نصف صفحات العدد، وتحديداً 42 صفحة من أصل 109 صفحات. وقد حرصتُ، خلافاً لرغبته، على ألا يظهر اسمي في هيئة تحرير المجلة، وأن يكتفى باسمه وحده، لأسبابٍ خاصة متنوّعة.

– وهو كان صاحب الامتياز؟

* لا. كمال الغريّب كان صاحب الامتياز.

– لم يظهر اسمك في العدد الأول! لماذا ؟

* لم يظهر، في هيئة التحرير، كما أشرت. لكن ظهرت لي في العدد قصيدة «مجنون بين الموتى»، وهي ذات شكل مسرحي، كتبتها في سجن القنيطرة العسكري، في سورية، عام 1955، وكان أشدَّ قسوة من سجن المزّة في دمشق. إضافة إلى كثير من المواد الشعرية الأخرى، وبخاصة المواد المترجمة التي لم أوقعها باسمي الشخصي.

– سجنت بتهمة سياسية ؟

* نعم. ولكن دون جرم، إلا إذا كان يُعد انتمائي آنذاك إلى الحزب السوري القومي جرماً. غير أنني خرجت من السجن، دون محاكمة، كما كان الشأن في خروجي من سجن المزّة.

– متى ظهر اسمك في هيئة تحرير مجلة «شعر»، رسمياً ؟

* بعد صدور العدد الأول، كان يوسف يصرّ باستمرار على وضع اسمي إلى جانب اسمه، قائلاً: هذا حق، وضروري. والأفضل أن يظهر اسمانا معاً رئيسين أو مديرين للتحرير، وصاحبي المجلة. وكنت دائماً أجيبه: ننتظر قليلاً. أخيراً، بدءاً من العدد الرابع الذي ظهرت فيه ترجمة «ضيّقةٌ هي المراكب»، قبلت أن يظهر اسمي سكرتيراً للتحرير. وفي بداية السنة الرابعة، العدد 14، قبلت أن يظهر اسمي مديراً للتحرير. وحلّ شوقي أبي شقرا محلي، سكرتيراً لهيئة التحرير. وفي هذا العدد نفسه نشرت المجلة، للمرة الأولى، ثلاث قصائد نثر لأنسي الحاج. ثم انضمّ في بداية السنة الخامسة، العدد 17، 1961، إلى هيئة تحريرها. وبدءاً من شتاء 1962، العدد 21، صار اسمانا يوسف الخال وأنا يظهران مقترنين على هذا النحو: «صاحبا المجلة ورئيسا تحريرها: يوسف الخال وأدونيس». تلك هي الوقائع. ولا أقدر، مع ذلك، أن أمنع الآخرين نقاداً ومؤرخين وشعراء، من أن يتحدثوا عن المجلة وتأسيسها، كما يَحلو لهم.

– كيف تنظر الآن إلى يوسف الخال؟ ما العلاقة التي ربطتك به، علماً أنكما شخصان مختلفان تمام الاختلاف؟

* عن الشق الثاني من سؤالك أقول كنا متفقين، على الرغم من اختلافنا في أشياء حول إعادة النظر في الثقافة العربية، والشعر بخاصة، والتأسيس لصورة جديدة لهما، وحول الحرية الكاملة في النظر والتأسيس. ولم تكن آراؤنا في التفاصيل متطابقة دائماً. وقد ارتقى اتفاقنا هذا في الممارسة إلى مُستوى الصداقة. كنا صديقين، بالمعنى العميق لكلمة صداقة. وقد أعطت لهذه الصداقة بعداً عملياً واجتماعياً وسياسياً، قناعتنا المشتركة بالعلمنة، ومدنية المجتمع، والتعددية الثقافية والانفتاح على الآخر وثقافاته. أما عن الشق الأول من السؤال، فأرى أن ليوسف الخال أهمية كبيرة أوجزها في ثلاثة أمور:

الأمر الأول شعري، وهو أنه أول شاعر عربي حديث كتب قصيدة موزونة مدوَّرة، وغير مقفّاة. وكتبها بشعر قريب إلى النثر، أو كأنه النثر – أعني قريب إلى الحياة اليومية ولغة الحياة اليومية، دون انفعالية أو حماسية متضخمة وفضفاضة. هكذا كسر للمرة الأولى، فنياً، لغة التأنق الشعري اللبناني : لغة سعيد عقل وأمين نخلة، على سبيل المثال، والتي وصلت إلى درجة قتَلت الشعر، وأصبحت رنرنة لفظية.

الأمر الثاني ثقافي ، وهو أنه، من ناحية أولى، صدر في كتابة الشعر عن رؤية توحد بين الشعر والفكر. خلافاً للنظرة التقليدية السائدة التي تفصل بينهما فصلاً كاملاً. وأنه، من ناحية ثانية، أدخل البُعْدَ المسيحي في الشعر، بوصفه عنصراً مكوناً من عناصر الثقافة العربية، وجزءاً عضوياً منها، جمالياً وفكرياً وأن فهم الثقافة العربية، في معزل عن هذا البعد، إنما هو فهمٌ ناقصٌ وسطحيٌ.

والأمر الثالث لغوي، فهو يقترح أن نكتب اللغة كما ننطقها. لا يتبنَّى اللغة الدارجة، ولا الحرف اللاتيني، وإنما يتبنّى اللغة الفُصحى نفسها لكن من دون حركاتها الإعرابية.

وهو اقتراحٌ متقدمٌ ورائدٌ، إذا قيس بالمقترحات الأخرى في هذا الإطار. وأنا شخصياً، لا أوافق عليه. لأنني أرى باختصار أن ما يسمى بمشكلة اللغة العربية من حيث تراجعها، لا تُحلّ لغوياً. المشكلة اللغوية هنا هي، في المقام الأول، عقلية – ثقافية. حين يموتُ عَقْلُ أمة تموت لغتها. واستخدام اللغة الدارجة أو المبسّطة أو الخالية من الحركات الإعرابية، لا يُعيدُ لها عقلها. كيف نستيقظ عقلياً؟ تلك هي المسألة.

– ولكن، ألم يسبقه جبران في ما يتعلّق بالمسيحية ؟

* لا. رؤية جبران كونية، غير أن المسيحية جزءٌ منها. ويُعبّر عن هذه الرؤية من شُرفة كونية، تتخطى الثقافات الوطنية أو القومية. يوسف الخال نظر إلى المسيحية العربية، بوصفها جزءاً عضوياً من الثقافة العربية، شعراً وفكراً ولغة. وهو في ذلك يصحح النظرة العربية السائدة التي تُهمل المسيحية على هذا الصعيد وتنظر إليها كأنها غير موجودة. لا تكتمل القراءة الثقافية العربية إلا إذا اقترنت فيها عضوياً قراءة الكتب السماوية بقراءة الكتب الأرضية. والمسيحية العربية ليست مجرّد كنيسة، وإنما هي كذلك ثقافة وفن، ورؤية ثقافية وفنية.

يتبع ( حلقة ثالثة ) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* حاوره : عبده وازن . نشر هذا الحوار في صحيفة الحياة ، بيروت ، يوم الأحد بتاريخ 21 مارس 2010.