°
, April 16, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

الأخلاق عند الحيوان: بقلم طريف سردست

يعتقد البعض أن الأخلاق نزلت على الانسان من السماء، غير أن الحقيقة إن الأخلاق هي القواعد التي لا غنى عنها في العلاقة مع الأخر، ليس فقط عند الانسان بل عند الحيوان أيضاً. وجود الأخلاق عند الحيوانات يشير الى أن قواعد السلوك نشأت في وقت مبكر وأنها ضرورة في التكوينات الجماعية من أجل خلق الانسجام في التعامل مع الأخرين ومع البيئة لتحسين حظوظ التنافس والقدرة على البقاء حياًً.

القرد المسمى capuchin monkeys, يبدأ بقذف الأحجار وكل مايقع تحت يده عندما يشعر أنه قد خُدع من قبل المشرف في حديقة الحيوان، في حين يقوم القرد الجار بإلتقاط حبات العنب المقدمة له. هذا الأمر جرى في تجربة قادتها البيلوجية Sarah Brosnan, من مركز يركيس للتجارب على القرود في اتلنتا، وبمساعدة من عالم علم النفس Dr. Frans B. M. de Waal, حيث أعطت كلا القردين أحجاراً صغيرة وعلمتهم أن يبادلوا الأحجار مقابل قضمات من الخيار.

قرود الكابوتشين ذكية للغاية، وكلا القردين وافقوا على أن عملية التبادل كانت فكرة رائعة، إذ تمكنهم من تبديل الاحجار الغير نافعة بقضمات من الطعام الطيب. في نهاية يوم التجربة قامت الباحثة، فجأة، بتغيير قواعد عملية التبادل. الآن صارت تعطي لأحد القرود عنقوداً من العنب مقابل أحجاره، والقرود تفضل العنب على الخيار، في حين استمرت على اعطاء الخيار للقرد الثاني. النتائج كان غضب القرد الثاني الذي اعتبر أن عملية التبادل غير عادلة.

العدالة، أحد المفاهيم الأخلاقية. والأخلاق قواعد العلاقة الاجتماعية لكيفية السلوك في التعامل مع الأخر. الأخلاق تتضمن الواجبات والحقوق التي ينتظرها أطراف العلاقة من بعضهم البعض والتي تسري على جميع أفراد القطيع. الى فترة قصيرة كان علماء الاجتماع وعلماء الحيوان يعتقدون أن الإنسان وحده يستطيع إنتاج قواعد أخلاقية، ولكن في السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة كبيرة من العلائم تشير الى أن أنواع متعددة من عالم الحيوان تملك أسس بدائية للأخلاق، مثل التفضيل، المساعدة، العدالة وحتى اللاانانية. من هنا نرى أن الأخلاق ليست حكراً على الانسان، بل هي مرحلة تطور انسيابية تختلف درجاته من النوع الأدنى الى الاعلى حسب سلم التطور البيلوجي.

في أبحاث قام بها العالم البيلوجي والبسيكولوجي Darby Proctor, من جامعة اموري الامريكية، أظهرت ان الشمبانزي يغضب عندما يجري خداعه. قام الباحثون بتدريب قردين من الشمبانزي على لعبة، حيث كل منهما سيقوم باعطاء الأخر غرض واحد ملون من غرضين، وبعد ذلك سيعطى الغرض للباحث. ايصال غرض محدد الغرضين، الى الباحث، سيؤدي الى مبادلة بخمس قطع من الموز الى كل واحد من القرود، في حين إن ايصال الغرض الثاني سيؤدي خمسة قطع لواحد منهم في حين سيأخذ الثاني قطعة واحدة فقط.
غالبا اختار القردة الغرض الذي يؤدي الى تبادل متساو لكلا منهما. في الحالات التي اختار فيها أحد القردة الخيار الاناني نرى أن القرد الثاني أصبح غاضباً وبدأ بالصراخ والصفير وقذف البصاق على زميله البخيل.

وسلوك القرود يتشابه مع سلوك الانسان في الكثير من النقاط الاخرى. صغار قرود الشمبانزي والغوريللا تصرخ ضاحكة عند دغدغتها، وأمهات البونوبو تلوح برأسها بعدم رضى عندما تقوم الصغار باللعب بالطعام، عوضا عن أكله. وفي اختبار على قطيع من قرود rhesus وضعت لهم العاب من السيارات الصغيرة ودبب من قماش أصبح القرود مثل الأطفال. الذكور هرعوا الى السيارات في حين أن الإناث فضلوا اللعب بالدببة القماشية.
قرود في حديقة الحيوانات الانكليزية جرى ملاحظتها وهي تضع أيديها على أعينها في محاولة منها للاشارة الى أنها غير راغبة بالاختلاط مع البقية وانها ترغب بالبقاء وحيدة.

 

الأخلاق تحفظ وحدة الجماعة:

البيلوجيين يسعون اليوم الى تحديد منابع الحاجة للأخلاق في عالم الحيوان ولتحديد السلوك الذي يصدر عن حاجات أخلاقية. يمكن ان تكون الاخلاق لاغنى عنها عند الأنواع التي تحيا حياة اجتماعية جماعية، وحجر الأساس في الاخلاق متصل مباشرة بالسلوك الاجتماعي اليومي. هذا السلوك المقونن في اطار مسبق يقرر النظام السائد في القطيع للمحافظة على التوازن الاجتماعي لفائدة القطيع بأسره.

البحث في أخلاق الحيوانات لا زال خاضعا للجدل. البيلوجيين والفلاسفة يناقشون بعمق في إطار أي المفاهيم علينا فهم السلوك الحيواني. هذا يمس مايقف خلف ردود الفعل الفطرية للسلوك الحيواني. مثلاً، رفض القرد للخيارة لأن جاره حصل على عنب، هل يعتبر احتجاج على اللاعدالة أم أنه طريقة للحصول على العنب؟
العديد من الفلاسفة يشيرون في مداخلاتهم الى أن وصف سلوك الحيوان على أنه ” أخلاقي” يمكن أن يكون صحيح أو خاطئ فقط بالارتباط مع مسيار ظهور الفعل المشار اليه، أي في إطار العالم الاجتماعي للنوع المعني، ومن حيث ان الباحثين بشر، لذلك لن يكون بإمكانهم معرفة الاطر الاجتماعية للأنواع الأخرى بصورة جيدة.

على العكس، نجد أن العديد من البيلوجيين يؤكدون أن الأخلاق الانسانية تمتد جذورها في العالم الحيواني، ولهذا السبب بالذات تنشارك بالكثير من الخصائص مع الحيوان. هذا التشارك يلاحظ بوضوح بالمقارنة مع أقرب الاقرباء الينا: الشمبانزي، والشمبانزي القزم. في قطيع الشمبانزي يوجد ذكر وانثى مهيمنين، يقفون في أعلى الهرم الاجتماعي، ومع أن هذه القاعدة متفق عليها من القطيع إلا أنها لاتعني الحيازة سلطة بدون شروط. السلطة والقوة لاتعطي الحق بالتصرف بدون التفكير بالمصالح العليا للقطيع، وبدون المحافظة على القواعد الأخلاقية الاساسية المعمول فيها في القطيع.

 

القواعد تلزم حتى القائد/القائدة:

القواعد الاخلاقية السائدة في القطيع تصبح سارية المفعول عندما يجد الشمبانزي، مثلا، كمية كبيرة من الطعام. من حيث المبدأ يستطيع القرد الذي يعثر على الطعام ان يبقي الطعام لنفسه، ولكن في القطيع يجب الالتزام بقواعد الحياة الجماعية المتعارف عليها. بقية أفراد القطيع ينطلقون من أن الواجد سيقوم بتقاسم اللقية مع الاخرين، على شكل “صدقة”، ولذلك لا يتورعون عن المطالبة بحصتهم. القرد المهيمن لديه السلطة والقوة على أخذ الطعام من صاحبه ولكن ليس لديه “الحق” بذلك. وحتى لو كان القرد الذي وجد الطعام من أضعف القردة ومن اقلها شأناً في الهرم الاجتماعي لمجتمع القرود، نجد أن القرد المهيمن يتجاوز انه الاقوى ويقف في صف المطالبين بالتقسيم. لذلك نرى وكأن الشمبانزي يُقر “حق” الملكية وتوزيع الملكية، التي هي أيضاً أحد المفاهيم الاخلاقية في عالمنا الانساني.

 

الخفاش شارب الدم، يتصدق بالدم:

وجبة واحدة لن تكون بالتأكيد الخط الفاصل بين الموت والحياة عند الشمبانزي، ولكن ستكون كذلك بالنسبة لطائفة من الحيوانات الأخرى. الخفاش شارب الدم الذي يطير ليلا باحثاً عن ضحاياه النيام، حساس للغاية. خفاش مصاص الدم هو الثدييات الوحيدة التي تعيش بهذه الطريقة الدم يملك قيمة غذائية كبيرة ولكن مصدره غير مضمون يوميا، ولذلك نجد أن كل عاشر خفاش يعود الى المأوى المشترك ببطن خاوي. الخفاش يحتاج يوميا الى دم بما مقدار نصف وزن جسمه على الأقل ، وبالتالي فيومين الى ثلاثة أيام بدون دم تعني الموت المؤكد. لحسن حظ الخفاش فأن للقطيع مشاعر تضامنية ويقومون بالتصدق بالدم على من لم يتوفق بالحصول على رزقه في ذلك اليوم. هذه المشاعر الاجتماعية تصدر عن جميع افراد القطيع تجاه جميع افراد القطيع، وليست بسبب القرابة.

التشارك بالطعام جزء لا يتجزء من السلوك اليومي للخفاش مصّاص الدم، وهو يشبه شبكة حماية اجتماعية، إذ أن المُتصدّق ينطلق من أنه أيضاً سيحصل على نفس المساعدة عندما يفشل في الصيد. يلاحظ أن الخفافيش تمارس هذه العادة يومياً كشعيرة لا يشذّ عنها أحد. عند الشمبانزي نجد أنه يسود اخلاق التبادل التجاري، حيث التبادل يعتمد على مستوى العلاقة الفردية بين الطرفين. مثلاً، إذا كان الشحاذ منهم قد قدم سابقاً خدمة ممائلة أو خدمة أخرى تجعل المانح يتذكرها برضى، فأن حظه بالحصول على منحة من الطعام تتزايد.

قرود الكابوتشي، الذي سبق أن تكلمنا عنهم، يقومون بوزن سلوكهم، أيضاً، بمعيار الفائدة المتبادلة. في احدى الابحاث الامريكية وضع الباحث طبقين أمام قردين، كل منهم في قفصه المنفرد. الباحث جعل أن القردين يستطيعون الوصول الى الطبق فقط إذا تعاونوا سوياً. أحد الطبقين كان ممتلئ بقطع التفاح في حين كان الثاني فارغ. كلا الطبقين كانوا شفافين حتى يتمكن القردة من الرؤية والمعرفة المسبقة بالتوزيع الغير عادل الذي ينتظرهم. وبالرغم ذلك، نجد أن القرد صاحب الطبق الفارغ عاون جاره على الوصول الى طبقه، آملاً بأن الجار سيقوم بتقسيم الطعام معه. وبالفعل قام الجار بالتعبير عن شكره من خلال إرسال بضعة قطع من التفاح الى قفص الاخر. أظهرت التجربة أيضاً أنه وبدون التعويض المادي على المساعدة فأن المساعدة لن تتكرر.

 

الفأر قادر على تصور وضع الأخرين:

مساعدة الجيران لبعضهم عند الشمبانزي والكابوتشي متوقف على الرغبة برد الجميل، وهي حجر أساسي في البناء الاخلاقي. احدى القواعد الدينية في الكثير من الأديان تقول أن على المرء التعامل مع جاره كما يحب أن يعامله جاره. هذه القاعدة الأخلاقية الأساسية توحد مفهوم التعاون مع مشاعر القبول. بمعنى أخر تلزمنا بتصور مشاعر الأخر تجاهنا (التعاطف والرضى) وإتخاذ القرار إنطلاقاً من مشاعر الأخر.

الاخلاق الانسانية لا يمكن تصور وجودها بدون التعامل الثنائي القائم على القبول المتبادل والشعور بالرضى والتعاطف المتبادل. منذ فترة قصيرة برهن العلماء الكنديين على ان حتى الفأر يتعامل إنطلاقاً من المشاعر. الفئران اظهرت ردة فعل واضحة عندما تعرض جيرانهم أو إخوانهم/أخواتهم الى الألم، في حين لم يعيروا أدنى اهتمام بمشاعر الالم الصادرة عن فئران أخرى.

الظاهرة نفسها نجدها موجودة عند الانسان، والرضى والتعاطف أيضاً ظاهرة شائعة وسط القرود. نرى مثلاً انه بعد عركة دامية بين قردين، يقوم عضو ثالث من القطيع بمعانقة وتقبيل القرد الخاسر في محاولة للتسرية عنه. هذا السلوك يخفف عن الخاسر ويجعله يتوقف عن الصراخ.

تماما كما نحاول أن نعلم الطفل السلوك الأخلاقي، يظهر وكأن الاخلاق أيضاً شيء يمكن أن تتعلمه القرود. Rhesus Monkey, قرود معروفة بعدائيتها وإصرارها، في حين قريبها البيلوجي Macaca, يسعى أكثر الى التفاهم والسلام، وهو سلوك يؤسس على التعاطف والرضى. الباحثين وضعوا صغار النوع الأول العدائي عند النوع الثاني المسالم، لينمو وتجري مقارنة سلوكهم مع سلوك اقرانهم الذين نمو عند قطيعهم الاصلي. سلوك الذين نمو عند القطيع المسالم تغير تغييرا ثورياً، فأصبحوا يسعون الى المسالمة وحل المشاكل بالروية بمعدل ثلاثة الى اربع مرات عن المعدل الطبيعي لنوعهم. وحتى الافراد التي أعيدت الى قطيعها الاصلي قبل أن تنضج تماماً حافظت على سلوكها المسالم والساعي لحل المشاكل سلمياً. البحث أظهر أن السلوك العدائية سلوك مكتسب في مرحلة النمو، من الأهل، تماماً كما هو الأمر عند البشر.

بالتأكيد أن مفاهيم الاخلاق عند الانسان أكثر تعقيداً منها عند القرود، التي بدورها أكثر تعقيداً منها عند بقية الحيوانات. ومع ذلك فالكثير من التصرفات الأخلاقية تطورت عن تصرفات اخلاقية خام لا زالت جذورها موجودة في عالم الحيوان. وحتى ارقى المفاهيم الاخلاقية تملك جذورا خام في اساسنا الحيواني. الانسان ليس الحيوان الوحيد الذي يملك مفاهيم العدالة والتضامن والتعاون والتكافل والحرص على المساعدة.

مصادر:

Sarah Brosnan
Monkeys show sense of justice
Monkeys demand equitable exchanges
Sense Of Fairness In Nonhuman Primates
Nonhuman primates discovered to have a sense of fairness

 

عن صفحة فيس بوك الصديقAli Dayoub