°
, April 20, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

الياس مرقص : الإنسان والمفكر . أسد غندور

   

المفكر الذي لا يجد القارئ في كتاباته اي انتماء لكعبة ما

الياس دانيال مرقص، كاتب وباحث ومترجم، مفكر وفيلسوف.

عشق العمل وكان يشتغل بلا كلل، وأعطاهما المساحة الأوسع من حياته على حساب جملة من الأمور التي يتطلع إليها أي إنسان يحلم أن يحيا سعيداً كلما تتوفر له المناخات التي تعطيه السعادة.
عناصر مختلفة ساهمت في تكوين شخصية المفكر والفيلسوف: الياس مرقص: مدينة اللاذقية التي ولد وعاش فيها، المجتمع المديني، المدرسة والجامعة اللتين تعلم فيهما، الطائفة الأرثوذوكسية التي تنتمي إليها العائلة، التجربة الحزينة القصيرة التي عاشها، صداقاته الواسعة، مطالعاته الغنية، وشغفه بالمعرفة والوقوف على آخر المنطلقات الفكرية والفلسفية في العالم، صدقه في نقل المعلومة، جرأته في قول الحقيقة، اعترافه بالآخر وتعامله مع الآخرين بروح نقدية عالية.

من مدينة اللاذقية المتعددة الطوائف والمذاهب، وحيث تشكل طائفة الروم الأرثوذوكس فيها 80 في المئة من المسيحيين، وفي إطار العائلة البرجوازية الصغيرة التي ينتمي إليها، الميسورة إلى حدٍ ما بالمقارنة مع غالبية الشعب السوري، هذه العائلة – الأسرة – المدنية التي «لم تعطِ إنساناً لا للسلك العسكري ولا للسلك الديني»، وعمل معظم أفرادها في حقلي التربية والتعليم، ومن خلال مهنته بالتدريس لمواد كثيرة، وبشكل أساسي: مادة التربية العملية والتربية النظرية وعلم نفس الطفل، من هذه الأطر مجتمعة تكوّن لديه ميدان فلسفي مهم كان له الأثر الواضح في كتابته وطريقة تعاطيه في الشأن العام.

المؤثرات الأولى

ومن خلال مدرسة «الفرير» في اللاذقية، وهي إرسالية كاثوليكية – فرنسية، اكتسب أشياء مهمة في حياته: عادات النظام والترتيب والمواظبة والمثابرة والدِّقة وإتقان العمل، وكان لها، ولجامعة «بروكسل الحرة» في بلجيكا، (التي درس فيها مادتي العلوم الإجتماعية والتربية، والتي تعتبر بنظره ركيزة للإستقلال البلجيكي وللحزب الليبرالي بالتحديد)، الدور الأبرز في تكوين اتجاهاته السياسية القومية والعلمانية، على الرغم من أنه يرى من «الصعوبة وضع الأمور في هذه الحدود والقوالب، ولا يميل إلى ذلك»، فهو لم يقل إن منطلقه كان في يومٍ من الأيام «علمانياً» أو «قومياً» أو «ناصرياً» أو «ماركسياً»، أو أي منطلق آخر…

 وإذا كان الياس مرقص قد تلقى تأثيرات معينة من المدرسة والأصدقاء والأسرة والرفاق الذين كانوا متنوعين في الدين والمذهب، إلاّ أن ميله إلى مطالعة كتب التاريخ مذ كان مراهقاً أسس لطريقته في النظر إلى الدنيا، ظهر ذلك من خلال تعاطفه مع الثورة الفرنسية رغم كتاب تاريخ فرنسا أو تاريخ العالم الذي كان معتمداً في المناهج الدراسية، كما أن من أهم العوامل التي كان لها فعلها في تكوين شخصيته وشخصية أبناء جيله، هو التسامح الديني، إذ لو لا «التسامح الذي كان منتشراً في بيته وفي المدينة وفي أجواء الحركة الوطنية التي ينتمي إليها»، لكانت شخصيته قد اتسمت بصفات أخرى غير تلك التي عُرفت عنه: المستمع الجيد الذي يحترم رأي الآخر، والديمقراطي الذي يرفض ظُلم النفس وظلم الآخرين.
في جامعة بروكسل في بلجيكا، كانت أولى الإرهاصات السياسية والفكرية للمفكر الراحل الياس مرقص. بين الطلاب الذين كانوا معه من كان ينتمي إلى حزب البعث، أو يتعاطفون معه، إلاّ أنه لم يكن بينهم من ينتمي إلى «حركة القوميين العرب» ولا إلى «الإخوان المسلمين». وبالرغم من ذلك فلقد تأثر في حينه بحلقة دراسات ماركسية، «المنظمة الطلابية الوحيدة المتأنية ذات المستوى الجيّد»، كما كان يصفها، وأن المناقشات التي كانت تدور بين أعضاء هذه الحلقة عاد ووجدها فيما بعد عند كاتبٍ مثل «ستيورات شرام» أي بعد 15 سنة، بخصوص مسألة «ماوتسي تونغ والصين«، ثم عالج هذه المسألة مطولاً في كتابه «الماركسية والشرق» (صدر عن دار الطليعة – بيروت – عام 1968 – 704 صفحات)، حيث أوضح في هذا الكتاب عكس ما قيل عن ماوتسي تونغ وعن دور الإستعمار في ضرب البيئة الصينية التقليدية وتغييرها مما ساهم بالتحول. إذ يرى أن «ماو» يكتفي بتأكيد دور الإمبريالية الأجنبية في التحريك والتسريع، «لأن الصين، قبل مجيء الإمبريالية، كان فيها اختمارات كبيرة …».

أبرز أعماله

 
هذه الظاهرة من الحلقات الدراسية الفكرية، كان لها التأثير الرئيسي، حيث كوَّنت له أرضية ثقافية – ماركسية جيدة، واعتبرها ثابتة للفترة اللاحقة من حياته. وخدمته في تلمس مسألة التاريخ العربي.
كذلك في سوريا، في مدينة اللاذقية، بعد عودته من بلجيكا، كان له أصدقاء جدد، هم في معظمهم «شباب مدرّسون عازبون ونصفهم أو أكثرهم بعثيون»، وكانوا برأيه من «أفضل الناس أخلاقاً وثقافة، ولهم فضل كبير عليه»، وأثناء خدمة العلم تعرَّف إلى المفكر العربي الراحل: «ياسين الحافظ» الذي بدأت صداقته معه في أواخر عام 1953، وبقيت هذه الصداقة مستمرة فكرياً وروحياً إلى ما بعد وفاة الحافظ في خريف عام 1978، لقد بدأت صلته بياسين الحافظ قوية وبلا «مقدمات». مع أن إقامته معه في مدينة واحدة، وأحياناً في بيت واحد، لم تكن طويلة. لكن «بيتهما الواحد كان وجدانهما، وعيهما، وعالمهما، العالم، الوطن والشعب».

بين الماركسية والعروبة

من خلال كتبه، وحواراته، نكتشف أن الياس مرقص لم يكن بعثياً، ولم يلتزم في إطار تنظيمي ناصري أو قومي عربي… بل انتظم في الحزب الشيوعي السوري بعد زيارته للصين في أواخر عام 1955، دخل بدون طلب، وبقي لمدة خمسة أشهر، كان خلالها مسؤولاً عن حلقة ثقافية للكوادر، وله مسؤولية تنظيمية إضافية معينة، لكن سمعته كانت على العموم أكبر من منصبه الحزبي، وهذا يعود إلى أنه في سنة 1955 ترجم كتاب «ماوتسي تونغ» الشهير، ثم ترجم بعد ذلك (1957) ثلاثة كتب صغيرة، وكانت الكتب الماركسية في تلك الفترة نادرة جداً. بالإضافة إلى أوضاع الحزب الشيوعي السوري كما لمسها خلال تجربته القصيرة، والتي تناولها فيما بعد بعدة أبحاث ومقالات، ونشر حول الحزب في سوريا والأحزاب الشيوعية العربية عدة كتب. عدة أسباب دفعته إلى ترك الحزب الشيوعي السوري، وأهمها ما حدث عام 1956 من تطورات: إنعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي وكشوفات هذا المؤتمر الذي شكل السبب الأول، أما السبب الثاني فهو «القومية العربية التحررية أو الثورية كما يصفها».
في شباط 1956، عقد مؤتمر للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي، وكان لهذا المؤتمر أثر هام على العالم الإشتراكي وعلى الفكر الإشتراكي والفكر الماركسي. كان للمفكر الياس مرقص موقف نقدي من المناقشات والمقررات التي خرج بها المؤتمر، موقف سبق فيه الأحداث اللاحقة والعديد من المفكرين الذين حددوا فيما بعد موقفهم من الحزب الشيوعي السوري والأحزاب الشيوعية العربية على أساس المؤتمر العشرين. وبعد ذلك بأربع سنوات برزت طلائع الخلاف الصيني – السوفياتي وكان لها انعكاسات هامة على الأحزاب الشيوعية في العالم بشكل عام، في بلدان المشرق بشكل خاص.
في تقييمه للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، رأى مرقص أن الحزب خرج بأربعة مبادئ أساسية:
1 – التعايش السلمي.
2 – عدم حتمية الحرب.
3 – تنوع سبل الإنتقال إلى الإشتراكية وقبول الطريق البرلماني إلى الإشتراكية.
4 – المسألة التي سُميت «بعبادة الفرد».
هذا ما كان في العلن، أما في الباطن، فقد كان إحساس مرقص منذ اللحظة الأولى أن الشيء الأكثر دوياً بين القضايا المطروحة هو «هذا الشيء الذي دُعي عبادة الفرد»، وهذا الأمر كان من أهم عناصر الخلاف الصيني – الروسي.
أما مسألة القومية العربية التحررية، فبعدما حدثت «ثورة» 23 حزيران/يوليو 1952، كان في مصر سبع أو ثمان منظمات شيوعية أهمها وأكبرها وأخطرها هو تنظيم «حدتو» أو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني . محور هذا التنظيم ومؤسسه «هنري كرييل» الذي «أُلصقت به عشرات التهم خلال تاريخ الحركة الشيوعية العالمية والعربية،
لقد استقبلت »حدتو« إنقلاب 23 تموز/يوليو بالتأييد وليس بالمعارضة والتشنيع، وقد فعلت جريدة الحزب الشيوعي البريطاني الشيء نفسه أيضاً بإيحاء من شيوعيين مصريين من «حدتو» بالذات. كما أيدته أيضاً «إذاعة بوخارست» وكانت يومها بوخارست «مركزاً للكومنترن» (الاممية الشيوعية)، فيما عدا ذلك كانت الأرجحية في مواقف الأحزاب الشيوعية تميل إلى السلبية.

سقوط «الكعبة»

بعد صدور المبادئ الستة لثورة 23 تموز/يوليو، وبعد مسألة الإصلاح الزراعي، وحصول بعض الحوادث المأساوية المبهمة، تغلب الإتجاه الشيوعي المعادي لثورة 23 تموز/يوليو على مناخ الحركةالشيوعية المصرية بإستثناء فريق قليل جداً ظل مثابراً على تأييد الحكم العسكري الثوري المصري وعلى عدم مناورته ومناوشته بشكل سلبي، لكن هذا الصوت صار مبحوحاً في جو رد الفعل الشيوعي الشامل، وبدأت تصدر بعض المقالات التي توجه مواقف اتهامية وإدانة جذرية للإنقلاب المصري موقّعة من قبل بعض «المنظرين» الذين لهم سطوتهم في الأحزاب الشيوعية،

والتي تعطيها القوة لخنق أو سحق كل صوت معارض لها وكأنها مقالات من الإنجيل أو القرآن. هذا الجو الساخن بملامحه يشير إلى أنه ما كان بوسع أحدٍ في عامي 1953 – 1954 أن يعارض كاتباً سوفياتياً. والكاتب الأكثر حذراً كان يبحث عن مخرجٍ ما لوجهة نظره حتى لا تظهر وكأنها خارجة عن الخط السائد والمكرَّس، لكن في عام 1956 مع المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي، اختلف الأمر كثيراً عند شخص مثل الياس مرقص، ليس مسؤولاً في حزب وغير منهمك بما يسمى السياسة العربية، ومشكلته في الحزب الشيوعي السوري عامي 56 – 57 حصلت حين كانت المنظمات والأحزاب الشيوعية المصرية تتجه نحو الوحدة التنظيمية للشيوعية المصرية، وحين وصل نفوذ القيادة الشيوعية السورية إلى ذروته في كل المشرق العربي، وأيضاً في ظل تنامي الصداقة السوفياتية – العربية، وفي ظل تنامي الحركة القومية العربية التحررية. كان مرقص يواكب التطورات المصرية والعربية جزئياً وبقدر ما يتاح له من منشورات، أما القضايا العالمية أو النظرية فكان يواكبها بكل دقة، وعلى هذا الأساس رأى أن المؤتمر العشرين كان له دور في تفجير الموقف داخل الحزب الشيوعي السوري على مسائل تنظيمية وسياسية، عادت وظهرت برأيه عام 1968 على نطاق الحزب الشيوعي اللبناني، ثم في أوائل السبعينات على نطاق الحزب الشيوعي السوري من جديد.
وبوعي مبكر، واجه الياس مرقص مع ياسين الحافظ هذه التأثيرات معلناً سقوط «الكعبة» ولن تكون  هناك كعبة ثانية. الكعبة الحقيقية في نظره هي «الوجدان أو الوعي»، ولا يمكن له أن يبحث عن «موضة» بديلة أو عن كعبة بديلة سواء كانت «بكين» أو «كوبا» أو حتى «فيتنام». فلن يجد القارئ في كتابات مرقص أي إنتماء لكعبة ما.

المد الناصري

إن ظهور عبد الناصر والناصرية أحدث تطوراً هاماً في حياة الياس مرقص. هذا المناخ السياسي الذي أسس لمناخ القومية العربية التقدمية، والذي حرَّك الملايين من البشر، وكانت مختلف التيارات السياسية منسجمة إلى هذا الحد أو ذاك معه، ساهم في إحداث تحولات في خط الياس مرقص الفكري والسياسي . لقد كان مد القومية العربية كاسحاً في سنوات 1955 – 1957، وكان يشمل مئات الألوف من الناس الذين كانوا يعبرون عن عواطفهم بالمظاهرات، ولقد تداخلت – بنظره – في هذا المد عناصر كثيرة: «من النضال ضد الإستعمار في الجزائر إلى الإستقلال في المغرب إلى الأحداث العراقية وحلف بغداد وإسقاط نوري السعيد… إلى الوحدة العربية».
وفي عام 1956، بدأت تتكون لديه قناعة بأن الحزب الشيوعي السوري «أعجز من أن يقوم بالثورة الإشتراكية، لأن هذه الثورة لا بد أن يصنعها الشعب، وموقع الحزب كان بسيطاً وهزيلاً ضمن صفوف الشعب» ولو تمّ جمع كل الدوائر السياسية، خارج المد الناصري، لم تكوِّن بأجمعها إلاّ دائرة بسيطة في صفوف الشعب.
قبل آذار/مارس 1963، شكَّل مع ثلاثة آخرين ما سمي آنذاك بفريق الأربعة: جمال الآتاسي، ياسين الحافظ، عبد الكريم زهور، والياس مرقص، وساهموا مجتمعين في إصدار كتاب «في الفكر السياسي»، كتاب في جزءين، ساهم كل منهم فيه بعدة مقالات. في الأول، كتب الياس مرقص مقالة تحت عنوان «الستالينيه والمسألة القومية» وفي الثاني مقالة حول «تداعي النظام البرلماني» وساهم ياسين الحافظ بمقالة حول «التجربة الناصرية». وقد راودته في ذلك الحين فكرة «مجالس سوفيات شعبية»، وقد نجد ذلك في مقدمة الجزء الثاني من كتاب «في الفكر السياسي» التي عنوانها «موضوعات إلى مؤتمر اشتراكي عربي». وما بين 8 شباط/فبراير و 8 آذار/مارس 1963، زار الحافظ العراق وتعرّف إلى «علي صالح السعدي» حيث كانت فكرة القومية العربية والوحدة في ذروتها الثانية، وهناك تكونت لديه فكرة عن الوضع السائد وساعدته الزيارة على تكوين «تصور احتمالي للراهن والمستقبل». وبعد المؤتمر القومي السادس لحزب البعث العربي الاشتراكي، حيث كتب ياسين الحافظ المنطلقات النظرية للحزب، خرجت مجموعة يسارية من الحزب وأطلقت على نفسها »بعث يساري« ثم تحوَّلت إلى «حزب العمال الثوري العربي». ولقد ضمّت: سوريين ولبنانيين وعراقيين وأردنيين، وكان للمفكر الياس مرقص علاقة جيدة وكبيرة مع «حزب العمال الثوري العربي» ولكن هذه العلاقة لن يراها أي متابع لأنها »ليست شيئية أو جسمية أو مادية«. ومن خلال علاقته الوثيقة مع ياسين الحافظ – أحد أهم رموز ومفكري «حزب العمال الثوري العربي» ارتبط اسم الياس مرقص بحزب العمال، الذي لم يكن عضواً فيه يوماً، إلاّ أنه ساهم في كتابة عددٍ من المقالات في نشرته «الثورة العربية». وتظهر طبيعة العلاقة بالحزب من خلال كتابه «نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن». ولقد وجد نفسه متفقاً مع ياسين الحافظ وحزب العمال في موقفهم النقدي إزاء الحرب الأهلية في لبنان منذ بدايتها، وبقيت هذه العلاقة الفكرية الحميمة بعد وفاة الحافظ وحتى بعد وفاة الياس مرقص. وقد ساهم عدد من شباب حزب العمال في جمع بعض مخطوطاته واصدارها بعد وفاته: كتاب «المذهب الجدلي والمذهب الوضعي»، وكتاب «نقد العقلانية العربية». ومحاولة إصدار باقي مخطوطاته.

بعث لينين

إن أهم من اصطدم معهم في حياته كانوا من اليسار الجديد، وكان بينه وبينهم مناظرات: ناجي علوش، صادق جلال العظم، قيس الشامي أو «مجنون التوسير» (لويس التوسير: فيلسوف فرنسي) كما كان يسميه. وتناول كتاباتهم عبر مقالات في كتب عدة: «عقوبة النظرية في العمل الفدائي» – «ضد التوسير»… وغيرها. ومن خلال هذه الكتب يؤكد أن الأزمة العربية تكمن عند «المثقف العربي» وليس عند النظام وأهل النظام أو الحزب الحاكم… وهو يؤكد في معظم كتبه على موضوع الفكر والمفكرين والمثقفين، وخاصة الثوريين أو التقدميين منهم.
وعلى الرغم من أن كتب الياس مرقص مجتمعة، ومعظم ترجماته ومقدماتها لم تخلُ من مسحة ماركسية وعودة إلى ماركس وأنجلز وكافة المفكرين الماركسيين، إلاّ أنه لم يصنف نفسه «كماركسي» وإن وصف نفسه أحياناً بأنه ماركسي، فالجذر عنده هو الوجدان، وهذا الجذر السيكولوجي أو الروحي يتجلى في الفلسفة فوراً، وذلك عبر تبنيه المطلق والجوهري لكتاب هيغل «المنطق» وتأييد لينين لهذا الكتاب، وينطلق هذا الموقف الوجداني من نقطة الأمية أو البدئية، أو في منطق هيغل من مقولة الكينونة المتعادلة مع مقولة العدم، وفي مجال الاقتصاد السياسي ينطلق من مقولة الشغل المجرد، وهو لا يميز بين مسألة: «النفس» و «نظرية المعرفة»، بل يعتقد بوجود مستويين: نفسي وفكري، والثاني مرتكز على الأول، والتجرد طريق لازم إلى الحقيقة وإلى الشعب. ويظهر هذا الموقف جلياً في مخطوطته التي لم تصدر بعد والتي يرد فيها على «التوسير» الذي يعتقد أنه طرح أجوبة خاطئة عن مسائل صحيحة، أو تبنى (التوسير) ردود فعل خاطئة على ماركسية قاصرة وضبابية ومتسرعة، واختلف معه حول قضية الدين.
وفي نقده للماركسيين في العالم وعدم إجرائهم مراجعة نقدية لتجاربهم خلال فترة تفوق 130 سنة، طرح الأسئلة التالية: ما هي الماركسية، ما هو خطأها الأول؟ والثاني؟ لماذا لم تعد الماركسية عند شباب اليوم ضوءاً على الواقع بل صارت ظلاماً عليه؟ هل يتحمل مسؤولية ذلك نايف حواتمة مثلاً، أو آخرون في العالم الكبير.
»إن الماركسية تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة شاملة ليس من أجل تصنيم كارل ماركس، ولينين ولكن من اجل معرفة ماذا قال ماركس وما الذي قاله لينين دون تزييف أو تحوير«.
لقد تركز عمله فلسفياً ونظرياً منذ عام 1969 على بعث لينين سنة 1916 ضد أولئك الذين بعثوا لينين سنة 1917. وأن هؤلاء يجهلون لينين جهلاً تاماً، ويجهلون عبارة كارل ماركس الشهيرة التي تقول: أنا لست ماركسياً: «Je ne suispas Marcsiste» هذا القول العميق هو كل مبدأ كارل ماركس. وأنه حدث انحراف اقتصادي بعد كارل ماركس، وهنا لفت إلى أن الماركسية ركزت على التشكيلة الإقتصادية، وعلى الطبقات، وأكدت على الايديولوجيا وهي على حق في كل ذلك، ولكن بعد ماركس ولأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية وبسبب إحلال أوغست كونت وهربربت سبنسر محل هيغل وماركس، لتلك الأسباب مجتمعة حصل الإنحراف في الماركسية.

معنى التاريخ

إن الماركسية الحاكمة والماركسية المشغولة بالثورة وبأشياء أخرى: «اعتبرت أن الإنسان يساوي تشكيلة إقتصادية – طبقية، وهذا خطأ ». لأنّ الإنسان هو الإنسان الصانع والعاقل، هو الفاعل والعارف والمفكر، هو الوعي والشغل والكدح، هو الوجدان والعقل والعلاقة، وبالتالي هو إنسان المنطق، بمعنى هيغل وأنجلز وماركس ولينين.
إن هناك سؤالاً أساسياً لم يطرحه الماركسيون: «ما معنى التاريخ؟ ما معنى الطبيعة. ما معنى الروح؟ ما معنى الكينونة؟». الماركسيون يتصرفون تجاه هذه المفاهيم وكأنها ألفاظ. لقد اختصروا المسألة التاريخية على الشكل التالي: هناك الإنسان وهناك التاريخ، والإنسان له تاريخ، فخرجوا بذلك عن الماركسية ووقعوا في «الأوغست كونتيه» (نسبة إلى أوغست كونت) ووقعوا في «السبنسرية» (نسبة إلى هربرت سبنسر(.
أما الطبيعة فقد اختزلها ستالين إلى فكرة «الشروط الطبيعية الجغرافية للتاريخ والتقدم» في حين اعتبر كارل ماركس أن تاريخ الإنسان يبدأ باللاتاريخ ويستمر مئات الألوف من السنين بلا تاريخ، وقال أيضاً إن تاريخ الإنسان يبدأ بالطبيعة وبالجماعة الطبيعية.
وهكذا، بقي الياس مرقص يصارع فكراً وفلسفة، معتبراً أن النوع البشري يقف أمام منعطف كبير، واستلهاماً لماركس، وأنجلز يقول: «هناك ثورتان في تاريخ الإنسان: ثورة نشوء الإنسان كنوع بيولوجي، أي إنسان الشغل والمنطق، وثورة نشوء الإنسان المجتمع أو المجتمع الإنساني والمؤنسن».
وبنظره، التجربة الإشتراكية العالمية حدودها باتت معلومة مبدئياً، ويجب أن تُعرَّف وتُدرَّس وهذا ما أراد أن يعمل عليه قبل وفاته.
أما المجتمع الغربي فإن ذروته وبهرجته قد انتهت، وهو يعاني أزمة كبيرة، ولا يعتقد أنه سيخرج منها حتى لو طالت الأزمة إلى ما يقارب الـ 50 سنة، ولا يقصد بذلك الأزمة الصناعية أو المالية، بل أزمة هذا المجتمع الكبيرة والمتنوعة والشاملة.
أما العالم الثالث، فيراه قد أصيب بفشل كبير، ويؤكد أن فشله هو الفشل العالمي نفسه، وفي النهاية آن الأوان لكي تتجدد الماركسية.

 

أبرز أعماله غير التي نشرنا غلافاتها:
I – المؤلفات.
– صحفات مجهولة من تاريخ الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، دار الدراسات العربية (1960) (مع علي الزرقا)
– نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري، دار الطليعة (1966).
– الماركسية اللينينية والتطور العالمي والعربي، دار الحقيقة (1970(
– في الأمة والمسألة القومية، دار الحقيقة (1971)  (مرقص، رودنسون، توما).
II – الترجمات.
– بليخانوف: فلسفة التاريخ والمفهوم المادي للتاريخ، دار دمشق (1957).
– لودفيغ فيورباخ: مبادئ فلسفة المستقبل، دار الحقيقة (1975(
– روجيه غارودي: فكر هيغل، دار الحقيقة (1975ط 1) (1983ط2(
– هيغل: مختارات (ج1 + ج2)، دار الطليعة (1978 ط1) (1989ط2)
– مكسيم رودنسون: جاذبية الإسلام، دار التنوير (1982(
III – المخطوطات.

– ضد التوسير: كتاب كبير عنوانه «الممارسة ونظرية المعرفة وعملية التوسير ضد الماركسية.»
– المغايرة، الكون والتاريخ.
– اليمين الجديد.
– العبودية: مقدمة وشروح.

 

الياس مرقص
* ولد المفكر العربي الياس مرقص في مدينة اللاذقية 25/9/1929.
* درس في اللاذقية. مدرسة الفرير، وحصل على شهادة البكالوريا قسم ثاني 1945.
* سافر إلى بلجيكا ضمن  أول بعثة سورية في عصر الاستقلال حيث درس في جامعة بروكسل الحرة.
*حصل على شهادة مجاز في علم الاجتماع والتربية.
* عمل في مجال التعليم منذ عام 1952 – 1979 في اللاذقية.
* ساهم في مجلة دراسات عربية وإنشاء دار الحقيقة وإصدار مجلة الواقع وتأسيس مجلة الوحدة والعديد من الندوات الفكرية عربياً وعالمياً.
* صدر له ثمانية عشر كتاباً في موضوعات مختلفة. وترجم أكثر من ثلاثين كتاباً. وله العديد من المخطوطات والترجمات والمقالات التي لم تنشر بعد.
* أتقن الانكليزية والفرنسية والروسية بالإضافة إلى العربية.
* توفي بتاريخ 26/1/1991

1 – عن الثورة الصينية يقول:
«عقب الثورة الصينية مباشرة ناقشنا يومها قضية ماو تسي تونغ وهي كما يلي: يصف ماو تسي تونغ المجتمع الصيني في كتابه «الثورة الصينية والحزب الشيوعي الصيني» بانه كان مجتمعاً اقطاعياً استمر على حاله مدة 3000 سنة رغم مئة أو مئتي ثورة فلاحية، وهذا المجتمع لا ينطوي على علاقات رأسمالية أو على نواة مجتمع رأسمالي جديد. ولكن جاء الإستعمار وجاءت الرأسمالية فضربت البنية التقليدية وغيرتها»…  «ما كان باستطاعة الصين ان تتحول بدون تدخل الامبريالية العالمية…»
2 – إدانة المثقف.
«نحن العرب نميل إلى إدانة الأنظمة والأحزاب وغيرها ولكننا لا ندين المثقف نفسه، وأريد ان أشير هنا إلى ان أياً من جان جاك روسو وفولتير وديدرو لم يأت على ذكر  كلمة «ثورة» مع اعتقادي ان كلاً منهم حمل في قلبه قناعة بان الثورة الفرنسية قادمة قربياً.
نحن بخلاف ذلك، نتصور بأنه اذا علقت صورنا ووزعت كلماتنا الخطابية نكون قد حققنا النصر . وهذا أحد وجوه مأساتنا».
3 – المطلق والنسبي.
«في ما يتعلق ببلادنا العربية أعتقد أنه يجب ان يكون عندنا الكثير من الشموخ والتواضع ورفض الأصنام، وأنا أعمل على إيجاد الجذر بين المسيحية والإسلام والماركسية وسأنطلق في ذلك من مسألة «المطلق والنسبي في المعرفة» واذا قال لي أحدهم  «النسبي موجود ولكن المطلق غير موجود»سأضحك لأنه لا وجود «للنسبي» بدون «المطلق».
5 – العودة إلى التراث.
«لقد تعامل الجميع مع الدين بوصفه «تراثاً» والجناح اليساري في النهضة منذ مئة سنة اعتبر أن الدين ينتسب إلى «التراث الماضي» واعتبر ان العلم والتقدم يتكفلان بهذه المسألة في حين اعتبر الأفغاني وجماعته بانه تجب العودة فعلاً إلى التراث. وفي السنوات الأخيرة لاحظنا التفاتاً كبيراً إلى التراث من الماركسيين إلى الثوريين اللبيراليين إلى آخرين وتوزعت اهتماماتهم على الدين وعلى الفلسفة العربية والإسلامية».
6 – فكرة العالم.
«إن الذين يريدون أن يصنعوا عالماً جديداً يحتاجون إلى «فكرة العالم». ألم يقل لينين  مرة إن فكرة العالم هي الله»؟
واعتقد أن الماركسيين الذين تخلوا عن اللاهوت تخلوا بنفس الوقت عن الفلسفة وبالتالي استغنوا عن العلمية بتحويلهم العلم  إلى وثنية».

أسد غندور

 

http://www.rai-akhar.com