“فلنخرجْ إذاً إليه خارج المحلَّة حاملين عاره
لأنَّ ليس لنا هنا مدينة باقية لكنّنا نطلب العتيدة”
لعلّ ما يربط عيد الأقمار الثلاثة بهذه العبارة التي لبولس الرسول هو ما ذكره الرسول نفسه في بداية النصّ حين بدأ يوصي بطاعة المدبّرين والاقتداء بهم: “يا إخوة اذكروا مدبّريكم الذين كلَّموكم بكلمة الله. تأمّلوا في نتائج تصرّفهم واقتدوا بإيمانهم” (عب 13، 7).
ظهر الأقمار الثلاثة، وآباء القرن الرابع، على مفصل حسّاس جدّاً من تاريخ الكنيسة، خرجت منه هذه الأخيرة بمجدٍ وزهوٍ كسفينةٍ جبّارةٍ مبحرة في محيطات الدهر بلا خوف حاملةً على متنها رسالة السلامة.
كانت الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى، قبل هذه الحقبة التاريخية كنيسة دياميس، كنيسة صيّادين بسطاء. كانت جماعاتٍ صغيرة، وكانت حكمتها مخفية في الضعفاء وذلك كي يخزي الله حكمة الأقوياء.
شكّل المنعطف التاريخي في القرن الرابع، تحدّياً رهيباً للكنيسة. هل كان بإمكان الكنيسة أن تقود كلّ هذا العالم الواسع حين تنصّرت الدولة! أين هم الرجال الذين سيتبوّؤون المناصب ويعظون أباطرة، ويقودون دولاً وإمبراطوريات؟ هل في كنيسة الصيّادين قامات عظام لهذه المراكز؟ لهذه المهمة الشاقة الخطرة انبرى آباءُ القرن الرابع لا سيّما الأقمار الثلاثة. كانوا فعلاً كالأقمار، هداة لعالم واسع، كانوا رجالاً في الروح والعلم. هذا هو دورهم الفريد. الكنيسة اليوم حرّة. والحريّة الدينيّة متاحة لها في كلّ مكان، وهي فرصة ليست أقلّ شأناً من تنصير قسطنطين الكبير آنذاك. ويُطرح السؤال من جديد! أين هم القادة الذين سيحملون كلّ هذه المسؤوليّة؟ أين الكاهن الذي سيعظ عالِماً أو وزيراً، فيشعر هذا الأخير أن هذا الكاهن هو أب له؟ أين رجل الدين الذي يستطيع أن يقود ويوجه المجتمعات المحيطة به؟ أين المبشِّر الذي يحبّ الناسُ كلامَه؟ أين الكنيسة التي تشدُّ الناس إليها؟
إذا أردنا ذلك فلنخرجْ إليه حاملين عاره. أي عار هو؟ إنّها أتعاب الفضيلة. من أين يخرج؟ من ذاتنا، من رقادنا، من رغباتنا التي تشدنا إلى تلك الذات، من مصلحتنا، من أنانيتنا. وإلى أين؟ إلى حياة المسافر نحو المدينة الباقية. كيف؟ تتابع الرسالة: أن نقرّب إذاً ذبيحة التسبيح كلّ حين وهي ثمار شفاه معترفة لاسمه.
هذا هو سلاح المسيحيّ، وهو نفسه كان سلاحَ آبائنا الأقمار الثلاثة، “أن نقرّب على الدوام ذبيحة التسبيح”، أي أن نذكر الكلمة الإلهيّة، ونلهج بها، ولا ننطق بغيرها. نحن مجرّد أوانٍ خزفيّة، لكن مخصصة للنعمة.
إنَّ ترداد صلاة يسوع، وجعل الربّ أمامنا في كلّ حين، هو رياضة روحيّة مطلوبة إذا أردنا أن نكون رجالاً للكنيسة. فلندربْ ذواتنا روحيّاً وتقنيّاً على ترداد الاسم الجميل، وعلى السير، والوقوف، والدرس والعمل في جوّ الحضرة الإلهيّة. لنخرجْ عن رغباتنا، لنخرجْ من عاداتنا، ومن كلّ كسلٍ… حاملين إليه أتعاب الفضيلة، مؤمنين أنّ الله عجيبٌ في قدّيسيه. ولنكن لأجله وله، أبواقاً للكلمة، مطيعين مدبّرينا إذ نسير في إثرهم مقتدين بهم، وخارجين على الدوام إليه.
فأين لنا بمن يحذو حذو باسيليوس،
ويخترق عالم اللاهوت في الحبّ الإلهيّ كغريغوريوس،
وتفيض شفتاه عسلاً كالذهبيّ الفم؟
فيبحرون بسفينة الكنيسة اليوم في بحر الإيديولوجيات والاستهلاك إلى شاطئ المحبة والسلام.
من كتاب سفر الكلمة – الجزء الثاني
للمطران بولص يازجي
29كانون ثاني 2015
المصدر : https://paulyazigi.wordpress.com
مدونة المطران بولص يازجي