°
, December 7, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

زكريا عباس ..

عاطف عفيف – سيريانيوز شباب – اللاذقية
2/6/2010
زكريا فقد بصره في السنوات الأولى من طفولته، (بالصف الثاني)، حلت الظلمة مكان النور، واستحال على طفل بعمره التكيف مع حالته الجديدة، فعزل نفسه وانقطع عن التواصل مع الآخرين لمدة أحد عشر عاماً، ثم فجأة قرر العودة الى العالم الذي اعتزله،
وخلال ثلاث سنوات فقط حصل على شهادة الابتدائية والشهادتين الإعدادية والثانوية ليدخل فرع علم الاجتماع في جامعة تشرين وليحصل على أعلى المعدلات متفوقا على زملائه.

عزلة قاتلة

يعيش زكريا عباس (23 عاماً) في أسرة مكونة من سبعة أفراد في حي الرميلة بجبلة، في بيت بسيط ومتواضع، محتوياته تدل على ضعف الإمكانيات، فالأب تجاوز عمره الخمسين ومازال يعمل في ورشة بناء يرفع البيتون على كتفه همه الأول تأمين قوت يوم أفراد أسرته.

في الثالثة من عمره فقد زكريا النور من عينه اليسرى نتيجة إصابته بالمياه السوداء، وبعد سنوات وفي الصف الثاني الابتدائي تعرض لصدمة قوية على عينه اليمنى من أحد زملائه بينما كانا يلعبان في باحة المدرسة، بدأ على إثرها نظره يضعف ويخف تدريجياً، فعل الأهل أقصى ما يستطيعون لمعالجة ولدهم.

ويقول الأب غياث: “كنت مستعداً لبيع كل ما أملك، حتى ثيابي ولفعل المستحيل لمعالجته، لكن القدر كان أقوى من الجميع، طرقنا أبواب الأطباء وأجُريت له عمليات عديدة في اللاذقية ودمشق لكن دون جدوى ليفقد البصر أيضاً بعينه اليمنى نتيجة انفصال كامل للشبكية”.

وكانت النتيجة أن “ودع مقاعد الدراسة بمرحلة مبكرة من طفولته ما ترك في قلبه حرقة وغصة، ويصاب بعدها بحالة من الإحباط والتشاؤم نتيجة الظلام واللون الأسود الذي حل بكل تفاصيل حياته ليدخل بعدها في حالة من العزلة القاتلة استمرت ما يقارب 11 سنة”.

يضيف الأب: “حاولنا أنا وكافة المقربين من حوله وبجميع الوسائل لإخراجه من حالة العزلة التي وضع نفسه فيها لكن باءت كل جهودنا بالفشل، وأصبح همي الوحيد كسر طوق عزلته، إلا أن زوجة عمه والتي تعمل مدرسة استطاعت بحنكتها وأسلوبها المتمكن في الحوار والنقاش من إقناع زكريا بالخروج من القوقعة التي بناها حول نفسه”.

“كان اقتراح المدرسة -زوجة عمه- بالعودة الى الدراسة بادئ الأمر ضرب من الخيال بسبب وضعه كمكفوف” -يقول الاب- “فكيف يعود بعد أن ترك المدرسة في السابعة من عمره، لكنه لاحقاً اقتنع بالفكرة خاصة وأنه افتقد للحياة المدرسية مبكراً وكانت مقاعد الدراسة تداعب خياله و يحلم دوماً بالعودة إليها”.

الخروج من الشرنقة

يقول زكريا :”في عام 2005 كنت قد بلغت الثامنة عشر من عمري حينها خرجت من شرنقة العزلة وبدأت رحلة التقصي والبحث والمراسلات لمتابعة الدراسة تواصلت مع جمعية المكفوفين في اللاذقية للإجابة على تساؤلاتي وكانت النتيجة بأنه يتوجب علي الحصول أولاً على شهادة محو الأمية ويمكن اعتبار السادس الابتدائي كبديل”.

واختار زكريا أن يدخل حلبة التحدي يقول: “بدأت في عام 2006 مرحلة التحضير للصف السادس الابتدائي بمساعدة الأهل والمقربين فقط دون أن أتبع أي دورات أو دروس خصوصية، واستمرت مرحلة التحضير ما يقارب أربعة أشهر، ثم تقدمت إلى الامتحان بحضور مندوبة من وزارة التربية”.

نجح في الامتحان وحصل على (معدل 82%) يضيف “لقد كان نجاح الخطوة الأولى بمثابة الشمعة التي أنارت بداية الطريق لتحقيق الحلم”.

فهذه الخطوة أعادت ثقته بنفسه وأنه قادر على فعل ما يريد، وهذا ما جعله يرمي بكل ثقله للمرحلة التالية وهي التحضير للشهادة الإعدادية، “بدأ منذ الأيام الأولى لبداية العام الدراسي 2006-2007 بالمتابعة والتحضير بنهم وقراءة المنهاج في المنزل وبدون معلم بمساعدة الأصدقاء والمقربين لأن الحالة المادية لا تسمح أيضاً بأي تكاليف إضافية للدورات الخاصة”.

ويروي الأب “كان التحدي بالنسبة له أن يفهم المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء إضافة للغة الإنكليزية، وهنا يكمن مربط الفرس لأنه ليس لدى زكريا أي خلفية أو أرضية ممهدة أو معلومات مسبقة عن تلك المواد، واعتمد بشكل رئيسي على الشرح الذي قدمه بعض المقربين والأصدقاء وخياله الخصب في فهم تلك المواد فقط، تابع بعض الدروس الخصوصية بمادة اللغة العربية فقط عند إحدى المدرسات من المعارف حيث تبرعت بإعطائه بعض الدروس المجانية”.

فرحة لا توصف

تقدم زكريا للامتحان من خلال لجنة من التربية حيث كانت تتلى عليه الأسئلة ويقوم أحد أفراد اللجنة بتدوين دقيق لما يقوله حصراً.

وعندما تكللت جهوده بالنجاح وحصل على 257 علامة، كانت فرحته لا توصف ولكل من حوله من أهله وأصدقائه، وكان ذلك بمثابة جواز السفر للمرحلة القادمة، اشترى له احد الأصدقاء نسخة من الكتب للشهادة الثانوية للفرع الأدبي وراح البعض يقرأ له المواد ويقوم بتسجيلها على أشرطة كاسيت.

يقول زكريا: “في هذه المرحلة تحولت إلى أستاذ وطالب كنت أشرح لنفسي ما أسمعه من التسجيل، وتحول شريط الكاسيت إلى مرافقي الخاص بدلاً من الكتاب”.

بعد اجتيازه للامتحان عام 2007- 2008 وحصوله على علامة 190 علامة، دخل إلى المفاضلة الجامعية كغيره من الطلاب، يقول “كانت رغبتي الصحافة أو العلوم السياسية لكن إعاقتي كانت لي بالمرصاد نصحني البعض باللغة العربية كأغلب المكفوفين، لكني رفضت وأردت أن أكون مختلفاً، فوقع اختياري على علم الاجتماع”.

وتحدث عن إعجابه به لاحقاً لكونه يدرس ويحلل ظواهر المجتمع وأمراضه، كما ساعدته مواد علم النفس في حياته العملية، حيث علمته كيف يتقبل ويتفهم إعاقته وكيف يتجاوزها.

وتفوق في الجامعة

واستطاع زكريا من خلال إرادته الصلبة وتصميمه أن يتفوق على زملائه في الجامعة، ويحصل على أعلى معدل 82.35 في السنة الأولى، وكذلك تابع مسيرة التفوق في الفصل الأول من السنة الثانية وحالياً يحضر لامتحانات الفصل الثاني.

يقول زكريا: “إن الجامعة غيرت حياتي ونظرتي لنفسي وللمجتمع ما فقدته خلال عزلتي شعرت أني عوضته في الحياة الجامعية عشت الطفولة والمراهقة والوعي في آن معاً، وأجمل شيء أحسسته في بداية الحياة الجامعية هو الرجوع إلى مقاعد الدراسة والتي لطالما افتقدتها طوال سنوات اعتزالي في المنزل وانقطاعي عن الدراسة والعالم، وأحاول أن أعيش وأستفيد من كل لحظة تمر في حياتي”.

هنا يتدخل والد زكريا ليقول “الفضل الكبير لما وصل إليه زكريا، يعود لأمه رغدة أسعد والتي رافقته في كل لحظة وتحملت كافة الصعوبات مهما بلغت شدتها، وكانت الدافع والمحرك لنجاح زكريا، وفي كل مرة كان ينجح في اختبار أو امتحان كانت تشعر وكأنها هي التي تنجح وكانت الدنيا لا تسعها من فرحتها وتنسى كل ما لاقته من معاناة ومواقف مزعجة ومؤلمة”.

وتقول والدة زكريا: “لم أتعامل معه على أنه كفيف، فهو يقوم بكل أموره الشخصية بنفسه، بل يساعدني في الكثير من أمور المنزل” وتضيف مبتسمة “زكريا طباخ ماهر”.

هموم يومية

أما المشكلة التي يعاني منها زكريا هي مسألة التنقل في وسائط النقل للوصول إلى الجامعة، في السابق وما قبل الجامعة كانت الأم مرافقه الخاص في كل تحركاته إلى الامتحانات، لكن بعد الدخول إلى الجامعة أصبح الأمر أكثر تعقيداً لأن الحضور كان شبه يومي ولم تعد الأم قادرة على المتابعة بمرافقته بسبب التزاماتها المنزلية ومرضها واقتصرت مرافقتها له إلى الطريق العام والذي يبعد أكثر من 500م عن المنزل في البداية كان يرافقه أحد الأصدقاء فيما بعد ابن عمه لكن انشغالهما حال دون ذلك، فأضطر لوحده أن يستقل السرفيس المتجه من جبلة إلى اللاذقية وعند الجامعة يكون أحد زملائه بانتظاره، وفي طريق العودة يساعده زميله في أن يستقل السرفيس المتجه إلى جبلة وتكون الأم أو أحد أخوته بانتظاره في نفس المكان الذي ذهب منه، طبعاً الخليوي سهل عملية التواصل والحركة من خلال إشارات معينة متفق عليها، ولقد أتقن استخدام الخليوي بطريقته الخاصة فالحاجة أم الاختراع: “بكل بساطة أحفظ ترتيب الأرقام والأسماء حسب الأحرف الأبجدية وعدد الخطوات لكل اسم محفوظ في الجهاز”.

ولكي يختصر عناء ومشقة التنقل والتخفيف من تكاليفه يقول زكريا: “بأنه اختار الحضور يومين بالأسبوع فقط للمواد التي تحتاج إلى حضور، أما باقي المواد الأخرى فاضطر لترميمها من زملائي الذي يحضرون من خلال النقاش والحوار معهم عبر الهاتف”.

ومن الصعوبات التي تواجه زكريا أيضاً الحصول على المراجع التي تدعم اختصاصه:
“احتاج دائماً لمراجع ومصادر معلومات جديدة لأنها تساهم إغناء الفكر والوعي والمعلومات، لكن وللأسف أغلب المراجع غالية الثمن ولا يمكنني اقتنائها، كذلك يمكن الحصول على الكثير من المصادر من شبكة الانترنيت لكن للأسف لا أملك كمبيوتر فالوضع المادي للأهل لا يسمح بذلك، وحتى لو وجد الكمبيوتر فأنا بحاجة إلى برنامج قارئ خاص للمكفوفين يحول أي حركة على الكمبيوتر إلى كلام منطوق وهذا البرنامج باهظ الثمن، ولا يمكن الحصول عليه إلا من الجهة المصنعة ولا يمكن نسخه أبداً”.

والعزف على العود

والجدير ذكره بأن زكريا تعلم لغة البرايل للمكفوفين من أجل الفضول لكنه شعر بأنها ستحد من إمكانياته وقدراته لذلك فضل التعلم بطريقته الخاصة وبمساعدة شريط الكاسيت، يطمح زكريا بعد الانتهاء من الدراسة الجامعية إكمال الدراسات العليا ولتحقيق ذلك سيضطر للذهاب إلى جامعة دمشق أو إلى جامعة حلب وقد تشكل إعاقته عائقاً أمام ذلك، لكنه يعتقد كما تخطى المشاكل والصعاب سابقاً سيتخطاها لاحقاً. كما ويحاول حالياً أن يتعلم العزف على العود بدون معلم.

المصدر : صفحة فيس بوك  الصحفي السوري  :

Atef Afif‎‏.