°
, March 29, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

شعر – الموت يدخِّن سيجار تشارلز بوكوفسكي

 

لوحة لرولا شريم.

 

 

8 شباط 2014

تقصّر المكتبة العربية، إلى جانب ما تقصِّر، في نقل منجز الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 – 1994) إلى لغة الضاد. لقد أتى معظم تعرّف القارئ العربي إلى كتاباته من طريق جهود فردية مدفوعة غالباً بالذائقة الشخصية للمترجم وليس للأسف الشديد نتيجة توجه دار نشر أو أي مؤسسة ثقافية تعنى بنقل كل ذلك الأثر الكبير لشاعر ستُثري ترجمته إلى لغتنا من دون أدنى شك، الشعريتين، السائدة منها والمقبلة.
قد تبقى تجربةٌ ملهمةٌ كتجربة بوكوفسكي أسيرةَ الإهمال ليس فقط لابتعادها عن “التطريب” بل لوجودها خارج مدار ما يريده الديكتاتور لي أن أقرأ كفردٍ عربي. مثل هذا التقصير ليس بجديد على هذا الشاعر الذي نبذته الحياة الأدبية الأميركية لأكثر من عقدين مريرين من حياته القاحلة، لتشدّه في ما بعد إلى حضنها بعدما خانها مع الغريمة أوروبا التي رحّبت به وترجمت أعماله كاملة قبل أن يأخذ أيٌّ منها مساحة محترمة في الصحافة الأميركية. ككل قامة عالية، جاء سقف المرحلة التي عاش فيها بوكوفسكي واطئاً، فعانى ما عاناه من رفض وإهمال وأحياناً إقصاء، وهذا شأنٌ دأب بوكوفسكي على ذكره إما في رواياته الست (ولا سيما “مكتب البريد” 1971) وإما في مجموعاته الشعرية التي فاقت الثلاثين، وإما في مجموعاته القصصية الإثنتي عشرة. يكاد متتبع أثر بوكوفسكي أن يجزم أن تلك المحنة مصحوبة أو ربما مشحونة بالكَرَب الذي عاشه في طفولته على يد أبيه وما تبع ذلك من هامشية وعلاقات فاشلة وتشرد وأزمات مالية وعاطفية شكّلت الجوهر المتكرر لروح وثَّابة سخَّرت كل ذلك الخليط لخدمتها في متن النص الذي أدار بوكوفسكي دفته بإتقان، وإن بدا ذلك غير مقصود في أكثر من عمل. يجوز الإدعاء أن بوكوفسكي هو آخر شعراء أميركا الصعاليك الذي لم يتوقف لحظة واحدة، لا حياةً ولا كتابةً، عن نبذ المؤسسة الإجتماعية المحيطة، بل وحتى عن محاولة تفخيخها بجسارة من الداخل، سواءً تجلّى حضورها في عمل أو ارتباط أو صيغة لغة أو حتى نمط تحركات وتموضعات يومية وخيارات حياة. رافقت ذلك صيحات منثورة هنا وهناك ضد الحرمان والفقر والعسف، لكنها في المجمل ملامح مائزة لكتابة بوكوفسكي التي احتفت بالعابر اليوميّ وجرَّت الهامشي مرة أخرى من أذنه إلى منتصف الدائرة. من مجموعته الشعرية الأخيرة التي صدرت قبل عامين من وفاته بسبب اللوكيميا “قصائد ليلة الأرض الأخيرة – 1992” قصيدتان تجسّدان لمحةً خاطفةً إلى شعرية فذّة وباردة، إنما مدهشة:

الموت يدخّن سيجاري
لا جديدَ
أنا في حالة سُكْر مرةً أخرى
هنا
أستمعُ إلى تشايكوفسكي
عبر الراديو
يا إلهي، استمعتُ إليه منذ أربعة وسبعين عاماً
عندما كنتُ كاتبا يتضور جوعاً
وهو هنا
ثانيةً
أنا الآن كاتبٌ شبهُ ناجحٍ
والموتُ يتهادى ماشياً في الغرفة
يدخّن سيجاري
يأخذ رشفاتٍ من نبيذي
بينما يعمل تشايكوفسكي
على سمفونيته السادسة
كانتْ رحلةً رهيبةً
وكل ما أتاني من حظ
كان بسبب أني
رميتُ نردي جيداً:
تضورتُ جوعاً من أجل فني، تضورتُ جوعاً من أجل
أن أحصلَ على خمسِ دقائقَ لعينةٍ، خمسِ ساعاتٍ،
خمسةِ أيامٍ-
أردتُ فقط أن أكتبَ ما في رأسي
لم تهمني الشهرة
لم أكترث للمال
أردتُ فقط أن أكتبَ ما في رأسي
بينما كان كل ما أرادوه مني هو أن أكون في مطبعةٍ
صبياً في خط التغليف
أرادوني صبياً يرتّب البضائعَ
في متجر.

حسناً، يقول الموتُ، بينما يخطو بجانبي،
سأقتلكَ على كل حال
لن يهمني ما كُنْتَهُ من قبل:
كاتباً، سائقَ سيارة أجرة، قوّاداً، لحّاماً،
غوّاصَ سماءٍ، سأقتلكَ…

أقولُ له حسناً حبيبي…

نشرب الآن معاً
بينما تنزلق الساعةُ من الأولى فجراً إلى الثانية فجراً
وهو وحده يعرف متى تحين اللحظة، لكني راوغته:
حصلتُ على دقائقي الخمس اللعينة
وعلى أشياءَ أخرى
كثيرة.

* * *

العمّ جاك
العمّ جاك
فأئرٌ
بيتٌ يحترق
حربٌ على وشك أن تبدأ
العمّ جاك
رجلٌ يركضُ في الشارع وفي ظهره سكِّين.

العم جاك
كورنيشُ سانتا مونيكا
وسادةٌ زرقاء مغبرَّة
كلبٌ أسود وأبيض يهرش جلده

العمّ جاك
رجلٌ بذراعٍ واحدة يشعل سيجارةً بيدٍ واحدة.

العمّ جاك
قطعةُ خبزٍ محروقة
المكان حيث نسيتَ أن تبحث عن المفتاح
هو سعادتكَ برؤية ثلاثِ بكرات محارم حمَّام في الخزانة
هو أسوأ حلم حلمته ولا تستطيع أن تتذكره.

العمّ جاك
هو الألعابُ النارية التي فرقعتْ في يديكَ
قطَّتكَ المدهوسة تواً أمام بيتكَ في تمام العاشرة والنصف صباحاً
اللعبةُ الرديئة التي ربحت فيها في موقف سيارات سانتا آنيتا
الرجلُ الذي تركتْك امرأتكَ من أجله في غرفةِ فندقٍ رخيص.

العمّ جاك
هو عمّكَ
الموتُ القادمُ كقطار نقل البضائع
المهرِّجُ ذو العينين الباكيتين
هو رافعةُ سيارتكَ وأظفاركَ وصرخةُ أكبرِ جبلٍ
الآن.

 

المصدر : http://newspaper.annahar.com