°
, March 29, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

السلطان الحديث: المنابع السياسية والاجتماعية للطائفية في سوريا2 ياسين الحاج صالح

بشار الأسد مؤدياً صلاة العيد.

بشار الأسد مؤدياً صلاة العيد.

هذا القسم الثاني من ثلاثية” السلطان الحديث ” يتناول بالتحليل الطوائف كشبكات محسوبية، تنتظم حول «أعيان جدد»، في إطار الاجتماع السلطاني المحدّث، المحروس بوظيفة قمعية إذلالية.

قضاء الحاجات ونظام القيم

في الثمانينات، صار السلطان، كشخص وكنظام، أهم شيء في البلد. حافظ الأسد هو عاصمة سوريا، مجدها وفخرها، كما كان يُقال فعلاً. التبعية الشخصية لهذا الإقطاعي الكبير، وليس المواطنة، ولا العلاقات القانونية المجردة، هي نمط العلاقة الذي تُنتجه وتُعمّمه وتَحرسه «الدولة» بينها وبين عموم السكان. كان الولاء لحافظ هو المفتاح العام لكل باب مغلق، والقيم العليا هي أولاً السلطة، ويتنافس المال والقرابة على الموقع الثاني، أما العمل، والمعرفة، والكفاءة، والثقافة، فوزنها العام منحدر ومتراجع.

كيف يقضي الناس حاجاتهم المتنامية في مثل هذه الأوضاع؟ الحاجات كلها سياسية في كل مجتمع حديث، تمرّ عبر الدولة وأجهزتها وقواعدها وعلاقاتها الدولية. فكيف تُلبّى الحاجات في «سوريا الأسد»؟

أولاً بأن يكون أصحاب الحاجات هم السلطة أو مقرّبين منها. هذا فعال جداً، لكنه متاح لقليلين. لا يمكن للجميع أن يكونوا ضباط مخابرات نافذي الكلمة أو ضباط جيش مقررين، أو وزراء مقرّبين، أو مسؤولين بعثيين كباراً. هذه المواقع محكومة بشرط الندرة بفعل الطابع الهرمي والمغلق للنظام. النظام واسع من حيث الرقابة والإشراف على كل ما يجري في المجتمع، ويُسخّر موارد ثمينة لهذا الغرض، لكنه ضيّق من حيث قضاء الحاجات وتوفير الواسطة.

ثانياً بالمال. يدفع صاحب الحاجة رشوة لأصحاب النفوذ من أجل تأمين وظيفة أو الحصول على جواز سفر أو تسهيل معاملة عالقة في جهاز حكومي ما، أو السماح ببناء غرفة إضافية على سطح المسكن لابن يتزوج، أو حفر بئر ارتوازي، أو السماح بالغناء باللغة الأرمنية في حفل زفاف أرمني لا يُسمح فيه بغير خمس أغاني باللغة الأم للعروسَين، أو الغناء بالكردية الممنوع بتاتاً، أو فتح دكّان لبيع الفلافل، أو محلّ للحلاقة، أو الحصول على هاتف أرضي… وهذه أمثلة واقعية جداً، وليس فيها ذرة مبالغة.

لكن غالب أهل الحاجات محتاجون إلى المال أصلاً، وهم يجدون أنفسهم في وضع مكشوف، بلا حماية قانونية، وبلا رعاية اجتماعية. يعبّرون عن ذلك بلغة بسيطة: هذا ظلم! الظلم هو الافتقار إلى المال وفقدان الواسطة معاً: الفقر والانكشاف الاجتماعي. هناك قادرون على الرشوة، وهؤلاء أمورهم تسير وحاجاتهم تُقضى بقدر ما يملكون من مال.

وعبر قضاء الحاجات بالمال، يتشكل نظام لتحويل الثروات لمصلحة مالكي السلطة النافذين على حساب عموم أهل الحاجات.

وسيلة قضاء الحاجات الثالثة هي القرابة: يتوسّط لك أخوك الضابط أو ابن عمك البعثي المهم أو ابن خال والدتك الوزير… أو رجل الدين البارز (السنّي أو المسيحي أو الدرزي…) الذي يريد «النظام» أن يقدم له «أفضالاً» مقابل ولائه، أو شيخ عشيرة مهم يقابل تسهيلات «النظام» بولائه الشخصي وولاء محاسيبه في العشيرة. تتفاوت المراتب اللازمة للواسطة بتفاوت الحاجات وأوزان طالبي الحاجات. طلب الحصول على هاتف أرضي قد يؤمّنه استثناء من وزير المواصلات، يتوسّط فيه عضو في الحزب الشيوعي التابع الذي غالباً كان الوزير منه (هكذا حصلتُ شخصياً على استثناء لنقل هاتفي الأرضي من الرقة إلى دمشق عام 2001، توسّطت لمصلحتي صديقة من الحزب المذكور). أما الإفراج عن معتقل سياسي فيلزمه «واسطة ثقيلة جداً» (أُفرج عن رفيقنا الشيعي الوحيد بعد عام ونصف من الاعتقال عام 1982، إثر نجاح والده بمقابلة حافظ الأسد، وقد كان الوالد من حزب تابع للنظام في الجبهة الوطنية التقدمية). ورَفعُ منع السفر عن كاتب أو ناشط حقوقي أو معتقل سابق يلزمه واسطة من ضابط مهم في المخابرات. الوزراء لا يتجاسرون على التدخل في هذه القضايا «السياسية» و«الأمنية».

هناك طبعاً من يرفضون الاستعانة بواسطة. هؤلاء لا تُقضى حاجاتهم بكل بساطة. كنتُ بلا واسطة، ومرتين، في 2004 و2007، رُفض طلبي الحصول على جواز سفر من قبل «فرع شؤون الضباط» في دمشق، الجهة التي أُحلت إليها عند منعي من السفر إلى لبنان في 2004.

ومن المفهوم أن السلطة والمال والقرابة كمفاتيح للحاجات والخيرات، تشغل المواقع العليا في سلم القيم على نحو يُترجِم البنية الاجتماعي: أهل السلطة فوق، يتلوهم أهل المال والقرابة، وفي القاع من لا مال لهم ولا قرابة. هؤلاء خارج النظام، لا يُرَون ولا يُسمَعون. أما قيم العمل والمعرفة والكفاءة والثقافة فلا تفتح باباً مغلقاً، ولا تعود بخير على الغير، وليس بين مسهّلي قضاء الحاجات مثقفون أو علماء أو قادة أحزاب سياسة مستقلّة أو معارضة. هؤلاء، وبدرجة تتناسب مع استقلالهم السياسي والفكري، موقعهم خارج شبكات المحسوبية التي تربط طالبي الحاجات بمن يتوسطون لهم عند مراكز السلطة المحلية والمركزية. الواقع أنهم مهمّشون، بل مطرودون خارج نظام المحسوبية العام، لا يتوسط لهم أحد ولا يملكون التوسط لأحد. وهم يعيشون عموماً في هوامش خاصة، لا تأثير لهم على سير الأوضاع العامة في البلد. بهذا تكون المحسوبية آلية لخنق المعارضين والمستقلين، تُضاف إلى آلية القمع المباشر، والإفساد.

والواقع أنه لا يكاد يوجد موقع مستقل فعلاً: هناك موالون، وبالأصح تابعون؛ وهناك معارضون يتعرضون للقمع؛ لكن ليس هناك مستقلون، ولا حتى بين المثقفين المعروفين. الأمر ممتنع بنيوياً، وإن يكن ممكناً أيديولوجياً، وفي سنوات حافظ لم يستطع مثقف واحد التعبير عن استقلاله علانية في الفضاء العام. هذا في حين التعبير عن الاستقلال وتحمّل تبعاته هو الاستقلال عينه.

ولا يقع خارج آلية الاستتباع والإفساد مثقفون لم يستعصيْ عليهم يوماً «تدبير أنفسهم»، بخاصة التغلب على منع السفر عن طريق شبكات ضباط المخابرات، لكن مقابل التضحية باستقلالهم. كان من بين ضبّاط المخابرات من يصادقون المثقفين، ويتبادلون الولائم والأفكار. لا يقع خارجها أيضا صنف من «معارضين» أليفين، يحتفظون بأرقام هواتف ضباط المخابرات المهمّين (يعرضها هؤلاء على الناشطين والمعارضين والكتّاب حين يستدعونهم لأمر ما)، فيقومون بأدوار وساطة بين «طوائفهم» الحزبية وبين أجهزة المخابرات (التي لا يتعاطى النظام معهم إلا عن طريقها).

بحكم دور هؤلاء «المعارضين» كوسطاء، واندراجهم في نظام المحسوبية، وعلاقتهم الزبونية مع ضابط المخابرات، هم عملياً جزء من النظام، خلافاً لما يجاهر به خطابهم. هنا أيضا نجد البنية المزدوجة ظاهر/باطن: فكما تتوارى الدولة الباطنة الطائفية وراء الدولة الظاهرة العامة، يتوارى الموقع التابع عند هذا الجناح المسود من «الأعيان الجدد» وراء خطاب معارض شكلي. وهذا الواقع يُلقي ضوءاً لا بأس به على انقسامات المعارضة السورية، القديمة منها والجديدة.

القصد أن علاقات التبعية كانت تشمل قبل الثورة قطاعات من المعارضة، هي القطاعات الأقل تمرّداً على النظام. ومثلما فرّق لينين قبل الثورة البلشفية <معارضة صاحب الجلالة> عن <المعارضة لصاحب الجلالة>، يتعين التمييز في سوريا بين <معارضة سيادته> و<المعارضة لسيادته>.

مثال عن أنماط إبداء الولاء

مثال عن أنماط إبداء الولاء

دوائر القرابة أوسع من دائرة المال، وكلاهما أوسع من دائرة السلطة. لكن دوائر القرابة ليست واسعة جداً رغم كل شي. وهي فوق ذلك لا تتوزع في المجتمع على نحو متكافئ. هناك مثلاً ضبّاط مخابرات وجيش ورجال سلطة نافذون في الوسط العلوي (10- 12% من السكان) أكثر من غيره. الواقعة لا جدال فيها، ولها أثر اجتماعي أكيد. كثافة شبكة المحسوبية العلوية هي مصدر ديناميكي للانفعالات الطائفية، لأنها، حين تتساوى الأوضاع الاقتصادية، توفّر تسهيلات وخدمات لا تُتاح لمكافئين من جماعات أخرى، من بيئات الأرخبيل السني بصورة خاصة. سبق القول إن «الظلم» هو الفقر إلى المال وإلى الواسطة على خلفية من انعدام العدالة القانونية. تَوفّر الواسطة في البيئة العلوية يعدّل جزئياً من قلة المال، وتالياً من حدّة الظلم.

ليس معلوماً بالضبط كم تبلغ نسبة ضباط المخابرات والجيش العلويين من مجموع الضباط، لكنها أعلى بأضعاف من نسبتهم في السكان، ونفوذ الواحد منهم أقوى من غيره حين تتساوى الرتب. هذه واقعة معروفة بدورها في سوريا، وتحيل إلى تسلسل مواقع وأوامر باطن لا يتعارض مع التسلسل الظاهر فقط، بل هو مصدر لتقويضه، وتقويض الدولة العامة معه.

وهناك مطارنة ورجال مال يحرص النظام على تأليف قلوبهم في الوسط المسيحي (نحو 5% من السكان – قبل الثورة)، وهم يتوسّطون لأصحاب الحاجات من جماعتهم. ويبذل النظام عناية خاصة بالمسيحيين من باب توسيع قاعدته الاجتماعية، ولتعزيز شرعيته «الدولية»، أو الغربية في الواقع، بالظهور حامياً للأقليات والمسيحيين.

وهناك «شيوخ عقل» وأصحاب نفوذ سياسي أو أمني في الوسط الدرزي (3% من السوريين)، يتوسطون بدورهم لقضاء حاجات قاصديهم من جماعتهم.

هناك في الوسط السنّي أيضاً رجال مال ونافذون ورجال دين وشيوخ عشائر يتوسطون لذوي قرباهم. غير أن نسبة النافذين هنا، بين نحو 70% من السكان، أقل من أن توفر واسطات كافية لطالبي حاجات كثيرين. لكن في البيئات السنية بيئات فرعية، تتمتع بشبكة محسوبية كثيفة نسبياً، منها بخاصة الشبكة الشامية المكونة أساساً من أصحاب مال ورجال ودين (أحيل إلى مقالتي: «جماعة ما تبقى: السنيون السوريون والسياسة»، 2012)، وتتكون حولها «الطائفة الشامية». الحرمان الواسع والتمييزي من الواسطة في بيئات سنّيّة غير مدينية، مع اتساع نسبة الفقراء فيها («الظلم») يضيء واقع أن التعبئة السياسية في الوسط السنّي العربي تأخذ شكلاً إسلامياً.

وفي الوسط الكردي أيضاً (8- 10%) هناك كذلك نافذون، قلّة بدورهم، ولا يغطون بشبكة الوساطة الجمهور الكردي العام. وهذا منبع أساسي لمستوى التعبئة السياسية العالي في الوسط الكردي – ولأخذه طابعاً قومياً.

هذا الواقع يشرح حقيقة أن سرديات المظلومية الأقوى في سوريا اليوم هي السردية الكردية من جهة، والسردية السنّيّة من جهة ثانية. في الوسط العلوي سردية التفوق أقوى حضوراً اليوم من سردية المظلومية، وهي تنسب نفسها إلى «الحداثة» و«العلمانية» بخاصة.

وخلاصة هذه الفقرة أن الجماعات الدينية والمذهبية، بفعل النظام السطاني، تحوز مقادير متفاوتة من الرأسمال الاجتماعي المستقل عن الرأسمال المادّي بقدر كبير، والذي يسهّل لأفرادها تسيير شؤونهم أو بعضِها. الطائفية هي مسألة تفاوت في الرأسمال الاجتماعي مرتبط بالبنية التمييزية للنظام السياسي. في «الواسطة»، في القبول في تشكيلات عسكرية وأمنية، أو في الإيفاد الخارجي، في تجنب أسوأ الإهانات وأسوأ العقاب أو القتل، لديك فرصة أكبر حين تنحدر من جماعة أو جماعات مخصوصة من فرصة شخص يعادلك في الرأسمال المادي. هذه هي الطائفية، وهذا الوضع المسكوت عنه بقدر كبير هو ما يجب وضعه في البال عند الكلام على الأوضاع الطبقية والتفاوتات الاجتماعية في سوريا.

وزارة الأوقاف

 صناعة القرابات 

من المفيد التذكير هنا بثلاث نقاط مهمة.

الأولى أنه لا تكاد تكون ثمة طرق عامة وروتينية لتلبية الحاجات. الإدارة فاسدة وكفاءتها تدنّت باطراد، مع احتلال الولاء أولوية عليا في اختيار الموظفين. ولا يحتاج الناس إلى واسطات كي يُستثنَوا من قوانين عامة، بل كي يقضوا مصالحهم المشروعة دون تعطيل و«مطمطة». والقضاء مثل الإدارة عاطل وفاسد وبطيء الإجراءات. التلبية الروتينية للحاجات، في المحصلة، هي الاستثناء، وليست القاعدة. هذا واقع متصاعد منذ سبعينات القرن العشرين، وجهه الآخر هو ما سبق ذكره من تمركز الحياة العامة حول السلطان.

وتتمثل النقطة الثانية في أن المال يقوم بوظائف المحسوبية نفسها، لكنه محكوم أيضاً بمبدأ الندرة، والكفاية منه ليست متاحة إلا لقلة. شرط كفاية المال هو ألا يكف عن الازدياد، وهو ما يقتضي انتزاعه من آخرين، وحماية هذا الانتزاع. وهذا «نادر»، متاح لقليلين فقط.

النقطة الثالثة أن المرء يبحث عن واسطة بين ذوي قرباه، وليس بين الأباعد. وهؤلاء الأخيرون على كل حال لن يُلبّوا طلبه، لأن في الواسطة حَرَجاً وحساباً وتبادل منافع في الغالب. فلماذا أتوسط لمصلحة من لا أعرف، وقد «أُخَجَّل»، ولا يستجاب لوساطتي؟ وسيتعيّن عليّ فوق ذلك ردّ «الجميل» بمثله أو بأحسن منه يوماً، وهذا غير مضمون، فما العمل؟ الاستعانة بالأقارب وحدهم والتوسط للأقارب وحدهم. النظام نفسه مصمّم على استنكار تدخل غرباء لمصلحة غرباء: ما دخلك أنت حتى تتوسّط له؟ الأرمني الذي قد يُعتقَل أو يُستدعى إلى جهاز أمني، ربما يقال له: أنت أرمني، لماذا تهتم بشؤون غيرك؟ أو يقال لمسيحي: لماذا تعمل في السياسة؟ نحن نحميكم من «المتعصّبين»، ولولانا لقتلوكم! أو يقال لدرزي: إن أهل مدينة حماه يكرهونكم، ويريدون القضاء عليكم! (هذه خلاصة كلام سمعته من معنيّين أو قرأته في نصوص لهم). محصّلة ذلك دفع الناس إلى الانكفاء نحو مجتمعاتهم الأضيق، وبعيداً عن المجموع السوري العام الذي لا يشكّل إطاراً جامعا للثقة. هذا بالطبع يُضعِف الروابط التطوعية والصُنعيّة، «المجتمع المدني»، بقدر ما يشجّع تلاحم روابط القربى، «المجتمع الأهلي». وأولاً قرابة الدم، أي الأسرة والعشيرة؛ ثم القرابة المعنوية، أي من هم من جماعتي الدينية أو المذهبية. فإذا كانت هذه الجماعة صغيرة شكّلت شبكة محسوبية موحدة متماسكة، وتقلّ فرصة أن تشكل شبكة متماسة كلما كبرت.

«المجتمع الأهلي» وحده هو ما تشكله الدولة السلطانية، وليس بحال «مجتمع الدولة المكون من أفراد» (على ما يظنّ عزيز العظمة) ولا مجتمع الروابط الطوعية المستقلة، أو «المجتمع المدني». الواقع أن مجتمع الدولة السلطانية هو بالضبط لاغيْ للأفراد، وأن هؤلاء لم يظهروا قط في سوريا إلا عبر الاعتراض عليها ومقاومتها – مقاومات وَجَدَ نفسَه داعية «الدولة» ومجتمعها «المكوّن من أفراد» في موقع الخصومة لها على الدوام.

وليس مجتمع الدولة السلطانية المحدثة الأهلي «مجتمعا تقليدياً» بحال، مكوناً من عشائر وأحياء وجماعات اعتقادية، في علاقة «تخارج» بالدولة السلطانية؛ إنه مجتمع مصنّع كإطار لعلاقات استتباع، علاقته بالدولة السلطانية المحدّثة علاقة تداخل واعتماد متبادل وترابط وجودي. التخارج هنا هو نصيب العلاقات بين الجماعات الأهلية، وليس بين هذه الجماعات والحكم السلطاني. وحدهم المعارضون للحكم السلطاني كانوا يكسرون خطوط الفصل، لكنهم كانوا محاصرين بالسلطانية وأجهزتها وأيديولوجيّيها، المأجورين منهم والمتطوّعين.

عالم الواسطة هو عالم مجزّأ، مكوّن من جماعات منكفئة عن غيرها ومنغقلة على نفسها. وليس وارداً في إطاره أن يتوسط أرمني لعربي سنّي مثلاً عند النظام، أو سنّي عربي لكردي مسلم أو إيزيدي، أو درزي لشيعي، أو فلسطيني لشركسي. عالم الواسطة هو عالم قرابات تدير ظهرها لبعضها. وتحرس تخارجها وإدارة الظهر لبعضها الأجهزة السلطانية.

وهو ما يلقى التعزيز من حقيقة أن انبناء نظام الواسطة أو المحسوبية على لجوء المرء إلى أهل القُرَب يتسبب في انشداد الأفراد إلى رابطة القرابة، دموية كانت أم معنوية. فهي إطار الوساطة الضروري لالتماس الحاجات وتلبيتها. على هذا النحو، تكتسب الأسرة والعشيرة، والطائفة، وظائف عامة، وتقوم بدور منظمات سياسية تلبّي حاجات المحتاجين منها. بل يُحتمل أن ارتفاع قيمة القرابة مع الزمن يحوّل روابط اعتقادية عارضة، تماسكها ضعيف، إلى ما يقارب إثنيات أكثر تماسكاً، تشكل أُطُراً للارتباط بمركز السلطة وبتنظيم حصول منسوبيها على منافع خاصة وعامة.

المؤدى العام لتقوية أثر القرابة هو، مرة أخرى، أن الدولة الأسدية مِضخّة لعلاقات التبعية والروابط العضوية، ومهندس نكوص اجتماعي كبير إلى الوراء، معاكس للمسار العام لتاريخ سوريا منذ ظهور كيانها الحديث في نهاية الحرب العالمية الأولى.

العلاقة الطائفية

كأطر قرابة فعلية أو مصنّعة، الطوائف شبكات محسوبية مغلقة، تتكثف حول نافذين فيها، يقومون بالواسطة بين عموم الناس في جماعاتهم من أصحاب الحاجات وبين جهات السلطة المحلية والمركزية. هذا يُذكِّر بنظام الأعيان الذي كان قائماً في زمن التنظيمات في العقود الأخيرة من الحكم العثماني، حين كان وجهاء نافذون في جماعاتهم المحلية أو الدينية أو القرابية يقومون بالوساطة بين هذه الجماعات ومركز الولاية، أو المركز العثماني العام. دَرَسَ أكثر من مؤرخ باحث هذا النظام، مثل ألبرت حوراني وفيليب خوري.

الطوائف هي الأجسام الوسيطة المتكوّنة حول وسطاء أو أعيان جدد، وتربط قطاعات السكان بمراكز السلطة العامة. وبمجموعها، تشكل هذه الأجسام «المجتمع الأهلي» المتخارجَ المكوّنات، والمتخارج أيضاً عن الدولة السلطانية التقليدية التي تستتبع الجماعات من خارجها وفوقها، أو من رؤوسها.

ويُبيح الدور الوسيط للطوائف، بين أشياء أخرى، وصف الدولة الأسدية بأنها دولة سلطانية محدّثة، تقوم على هذه الأجسام الوسيطة، وعلى «البيعة» والولاء، وعلى توريث السلطة و«الأبد» (وهو مناقض لمنطق الدولة الوطنية التعاقدي والدستوري)، وعلى مصادرة السياسة وسحق الاحتجاجات الاجتماعية بالعنف، وعلى الطابع الانتقامي المفعم بالكراهية لعنف الدولة، وعلى نشر أيديولوجيا تحرّم الاحتجاج الاجتماعي باسم الخوف من الحرب الأهلية أو الفتنة، وعلى «المَكرُمات» و«العطايا» في العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وما يُضمره ذلك من امتلاك الحاكم للبلد، ومن اعتبار المواد العامة ممتلكات خاصة له. توريث الحكم في السلالة الأسدية هو أخطر ما أصاب الجمهورية السورية منذ الاستقلال، وما كان له أن يتمّ لولا أن الأب قَتَلَ عشرات الألوف في ثمانينات القرن العشرين، واعتقل وعذّب وحَبَسَ عشرات الألوف، ونجح في بناء «دولة» قائمة على التبعية.

ما أريد الخلوص إليه هو أن الطوائف تتشكل حول علاقة تبعية تجمع بين ثلاثة أطراف في بنية اجتماعية هرمية:
في الأسفل حشد واسع، يشمل جميع السكان من أصحاب حاجات ليس متاحاً لهم العيش خارج الدولة أو بعيداً عنها، والدولة لا توفّر لهم آليات عامة لتلبية حاجاتهم المشروعة؛
وتحت القمة حشد ضيق من الأعيان والوجهاء الجدد من ضبّاط ورجال دين ورجال مال وشيوخ عشائر وبعثيين كبار ورجال حكومة، وهؤلاء يحوزون نفوذاً وسلطة تمكنهم من قضاء حاجات من هم أدنى منهم أو التوسط لهم عند من هم أعلى، ويحصلون على تسهيلات وامتيازات متنوعة مقابل ولائهم للأعلى: تسهيلات مالية، خدمات خاصة لهم ولأبنائهم في مجال السكن أو البزنس، فرص أكبر للإيفاد إلى الخارج في البعثات الدبلوماسية أو للتعليم (وقطاع الإيفاد الخارجي هو الأكثر تطييفاً في سوريا بعد المخابرات والجيش)، وكالات شركات أجنبية ومصارف؛
وفي الأعلى، في القمة، مجموعة أضيق كثيراً كانت تتمثل بحافظ الأسد شخصياً في أيامه، واليوم بالأسرة الأسدية وكبار رجال الأمن والمال. القلة تُحاسِب ولا تُحاسَب، ليست مسؤولة أمام أحد.

وينبغي تصور بنيات هرمية فرعية ضمن البنية الهرمية الكلية من أجل تمثيل البنية الاجتماعية للدولة السلطانية المحدثة. فعلى مستوى كل منطقة في البلد، وكل شريحة اجتماعية، تظهر هذه البنية ذاتها، المحتاجون الكثيرون والوسطاء الأقل عدداُ والمركز الفرعي، لتلبية الحاجات على مستوى المنطقة أو الشريحة. الشرائح الأعلى حاجاتها أعلى بالطبع، وواسطاتها يلزم أن تكون نافذة أكثر. أما الشرائح الأدنى فيقع أكثرها خارج عالم المحسوبيات، لا واسطة لهم، ولا تلبى حاجاتهم. هذه نقطة أساسية: النظام القائم على الواسطة يحرم شرائح واسعة من السكان من الواسطة.

ويقتضي النظام أن يكون اختلاطُ الجماعات محدوداً، ومستوى الثقة بينها متدنّياً. التخارج الذي هو سمة العلاقة بين الدول السلطانية التقليدية ومحكوميها، يتحول في السلطانية المحدثة إلى تخارج المكونات الأهلية عن بعضها، مع تداخلها مع هياكل الحكم السلطاني. لسنا هنا أبداً حيال استقلال بنيوي للدولة عن المجتمع حسب دوغما عزيز العظمة العابدة للدولة، بل حيال علاقة تداخل غير متكافئة، عبرت عنها فوق بمفاهيم مثل التماهي المتفاوت ووضع الطائفة السياسية العامة.

وينقسم الأعيان الجدد إلى فئتين: فئة أهلية مكونة من رجال دين أو شيوخ عشائر أو رجال مال كبار؛ وفئة رسمية مكونة من ضباط وحكوميين وبعثيين كبار. الواسطة داخلية حصراً بخصوص المكون الأهلي: يتوسط الحسيب لمحاسيب من جماعته، الجهوية و/أو العشائرية و/أو الطائفية، لكن حزب البعث شكّل إطاراً للواسطة في سنوات حافظ الأسد، وأتاح قدراً متراجعاً من اختلاط، قد يكون تلاشى تماماً مع قدوم بشار.

 زمن بشار: نيولبرالية وتدهور الشعبوية البعثية

سجّلت الممارسات الطائفية حضوراً علنياً متزايداً في سنوات بشار أكثر من أبيه، بفعل تدهور أجهزة التعبئة الاجتماعية البعثية، ’حزب البعث‘ نفسه و«المنظمات الشعبية»، مثل ’اتحاد شبيبة الثورة‘ التابع لـ’حزب البعث‘، وكان يستوعب أعداداً كبيرة من الشباب، و’الاتحاد الوطني لطلبة سوريا‘، المنظمة الوحيدة المتاحة لطلاب الجامعات، وكذلك اتحادي ’العمال‘ و’الفلاحين‘، ونقابات المهن العلمية التي أُعيد بناءها عام 1981 بعد أن أخذت مجالسها مواقف معارضة للنظام وطرحت مطالب ديمقراطية في بيانات للعموم في العام الذي سبق (1980). كانت هذه المنظمات مترهّلة، لكنها منتشرة في عموم البلد، وتقوم بدور وساطة اجتماعية بين قطاعات واسعة من السكان وبين مراكز السلطة. تدهورت هذه المنظمات في سنوات «التحديثي» بشار الذي اعتمد على البرجوازية التابعة (سأتكلم على تكوينها لاحقاً) والتي أخذت في النشوء في كنف والده، واعتمد صيغة ليبرالية جديدة من تحرير الاقتصاد، وفي عهده سجّلت الثروة حضوراً متقدماً في سلّم القيم العامة أكثر من أبيه.

جدير بالإشارة أن تراجع البعث ومنظماته في عهد بشار هو الموجة الثانية من التراجع. الموجة الأولى أطلقها والده منذ بدايات حكمه لحساب أجهزة المخابرات والدولة الباطنة، وإن يكن احتفظ بتلك المنظمات كأدوات للرقابة والضبط الاجتماعي، وللوساطة. في عهد الابن، أُزيحت الأجسام البعثية مرة ثانية لمصلحة البرجوازية الجديدة ومنظماتها مثل ’الأمانة السورية للتنمية‘. كان حزب البعث جثة هامدة من قبل، ولم «يكشّ أو ينشّ» حين ألغيت المادة الدستورية التي تُقيله من «قيادة الدولة والمجتمع» عام 2012. لم يكن في القيادة يوماً. كان شاهد زور على نفسه وعلى السوريين.

ومن العوامل المعزّزة لصعود الطائفية في زمن الابن واقعة التوريث نفسها، كتأسيس لسلالة وكارتِسَام لدستور باطن يقضي بأن الحكم وراثي في البلد، وأن بشار كوريث لأبيه لا يمكن أن يكون رئيساً دستورياً منتخباً، وأن واجبه كوريث هو أن يورّث الحكم لابنه من بعده.

وعرضت عوامل معززة أيضاً، منها انتشار مناخ ثقافوي و«حضاروي» عالمي، طائفي في الواقع، يرتبط هو ذاته بهزيمة الشيوعية وأيديولوجيات العمل والمساواة والتحرر الاجتماعي والوطني، وصعود الليبرالية الجديدة والتعددية الثقافية، وأيديولوجيات الهوية والاختلاف، وما بعد الحداثة. وهو مناخ رَكَنَ إليه أكثر المثقفين السوريين بدءاً من تسعينات القرن العشرين، مَن تمسّك منهم ببلاغة يسارية شكلية أو مَن تخلى عنها. نحن في زمن ما بعد 11 أيلول الذي وضع «الإسلام»، والإسلام السنّي أكثر من غيره، في موضع الشرير العالمي. في زمن الاحتلال الأميركي للعراق وصعود الشيعية السياسية والهيمنة الإيرانية وظهور ’القاعدة‘ والجهادية السنية في العراق، ولعب أجهزة نظام بشار بها ومعها.

ومع تراجع وظائف الدولة الاجتماعية (وليس سلطتها القمعية) وصعود دور الثروة بفعل لبرلة الاقتصاد، صعدت القرابة والطائفية أيضاً، وبرزت أشكال شديدة من الحرمان (37% من السوريين تحت خطر الفقر الأعلى، 2$ في اليوم عام 2007، و11% تحت خطر الفقر الأدنى، 1$ في اليوم عام 2004)، وتراجع أجهزة التعبئة الشعبوية كما سبق القول، وهذا مع استمرار الإفقار السياسي المفرط للمجتمع السوري، أعني منع السوريين من التعبير عن أنفسهم وحاجاتهم في الفضاء العام من جهة، ومنعهم من التجمع والتنظيم المستقل من جهة ثانية. غير كونها شبكات محسوبية موجهة نحو قضاء حاجات محتاجين، أضحت الطوائف حدوداً للفقر السياسي، تضامنات اجتماعية تكفل «الثقة» و«الأمان» بين قطاعات من السكان، وامتلاك كلام جامع، وتنجح في وظيفتها أكثر كلما كانت أصغر. يبدو النظام مصمّماً بحيث يجزّئ المجموعات الأكبر، وتستفيد منه أعظمياً المجموعات الأصغر والأكثر تماسكاً.

في البيئات السنّية السورية كان الدين المُمَارَس هو حد الفقر السياسي، أعني تجمعات المصلين في المساجد والنص الديني المقدّس والمأثورات الكلامية الدينية. ولالتقاء الدين بالسياسة على هذا النحو فاعلية تطييفية بديهية، وإن كانت قطاعية وغير شاملة. تنوّع البيئات السنية من جهة، والرقابة المتشددة على النشاط السنّي العام من جهة ثانية، كانا يَحُولان دون مستوى أعلى من التشكل الطائفي السني.

فاعلية الطوائف، أيا تكن كثافة شبكة المحسوبية الخاصة بها، ليست مضمونة، أقل حتى من «المنظمات الشعبية». الآلة الطائفية ليست مصمّمة لقضاء حاجات عموم المحتاجين، بل لتبعية العموم لقمة السلطة أولاً، ولنفوذ الأعيان الجدد ثانياً. ويحصل أن تفشل الواسطة. الأعيان ليسوا كلهم بالقوة نفسها، وليسوا نافذين إلى مراكز سلطة قوية بالدرجة نفسها. ولا تُتاح الواسطة لنسبة متزايدة من السكان المحرومين أيضاً من المال. الأشد فقراً لا واسطة لهم ولا سند. هذا أحد مكامن توترات النظام. أكثر من هم تحت لا تُلبى حاجاتهم، ولا يصلون إلى «مفاتيح» قادرة على تلبية الحاجات، وهذا مصدر للنقمة والتمرد.

مصدر للثورة أيضاً. تفجرت الثورة السورية بفعل التقاء فشل مُزمِن للنظام كانت مفاعليه مقموعة بفعل الدرع الأمني للنظام مع مثال إيجابي ناجح من تونس ومصر أعطى الانطباع بإمكانية التغلب على أجهزة الحراسة السلطانية.

 شارك في الثورة بصورة أساسية قطاعان: «مجتمع العمل» الذي يريد عدالة قانونية وعلاقات مواطنة و«حرية»، ثم القطاعات المفقرة، المحرومة من العدالة الاجتماعية والقانونية، والتي لا «ظهْر» لها ولا «فيتامين واو». انضم لهما متأخرين عموماً بعض «الأعيان» الفرعيين الأضعف، ممن لم تكن دوائر نفوذهم تتجاوز الدولة الظاهرة، أو مواقع محدودة التأثير فيها.

مثلاً كان رياض حجاب، رئيس الوزراء لبعض الوقت عام 2012، يشغل نظرياً الموقع الثاني في «الدولة» بعد بشار الأسد. لكن ضابط مخابرات عالي الرتبة مثل جميل حسن (رئيس جهاز الأمن الجوي، أكثر الأجهزة وحشية في سوريا أثناء الثورة) يشغل موقعاً مفتاحياً في الدولة أهم منه بكثير. حسن «ابن النظام»، وهو يأمر أكثر مما يتوسط، فيما الأول يستطيع بالكاد التوسط في أشياء محدودة الأهمية مثل تعيين موظف. لكن حتى قوائم فصل الموظفين كانت تأتيه من المخابرات. نحتاج أن ننظر في «ما وراء الدولة» من دولة ظاهرة ودولة باطنة حتى نستطيع فهم هذا الواقع.

وإنما بفعل الوزن الأدنى لرجال الدولة الظاهرة، من وزراء وموظفين وضباط جيش عام (خارج وحدات النخبة ذات الوظائف الأمنية)، رأينا انشقاقات متعددة في مراتبها أثناء الثورة السورية، فيما لم تعرض أية انشقاقات على الدولة الباطنة – المركب السياسي الأمني المالي الذي يملك سوريا ويحكمها.

على المستوى الرمزي جرى تحديث السلطانية المحدثة في عهد بشار قبل الثورة وتخفيف مظاهرها العسكرية. مثلاً لم تعد المسيرات الشعبية العفوية باللباس الموحد، بل بلباس مدني أو بقمصان «كوول» (cool)؛ والمنصّة الرئيسية التي تُنصب قبل يوم أو يومين، يقف عليها كبار مسؤولي الدولة الظاهرة والحزب في المنطقة، وتمر أمامها مسيرات المدارس والدوائر والنقابات، حلّ محلها التجمع في ساحات أو شوارع كبرى. وبدل صور حافظ المتجهمة، ومنها أشرطة قماشية تتكرر عليها الصورة نفسها عشرين مرة مثلاً، وبعد شعارات «قومية» و«اشتراكية» ولافتات تحيّي القائد تُعَدّ خصوصاً للمناسبة ولها ميزانية خاصة من الميزانية المجملة لكل مؤسسة، ظهرت صور بشار المبتسمة مصنوعة من مواد أثمن، وقد تمتد على كامل جانب بناء متعدد الطبقات، وعليها كلمات بالعامية مثل: منحبك! أو: السوريون أدرى ببشارهم! وجرت خصخصة حب القائد، بعد أن كان شأناً لـ’حزب البعث‘ والنقابات و’اتحاد شبيبة الثورة‘ والمدارس، دخلت استعراضات الحب بقوة مؤسسات اقتصادية وشركات خاصة ورجال أعمال. ودخلت ’الأمانة السورية للتنمية‘ برئاسة أسماء الأخرس، زوجة بشار، السوق الرمزية، وحلت بقدر كبير محل منظمات ’حزب البعث‘ الشعبية.

لم نغادر السلطانية بحال، بالعكس ترسخت وتطعمت بأذواق الطبقة المُثرِية الجديدة، المكونة من أبناء ضباط ووزراء وبعثيين كبار. كان الآباء أبناء فلاحين غالباً، أو وجهاء صغار، منحدرين من الريف وبلداته المتوسطة، حسب حنّا بطاطو.

وحدات الحكم السلطاني

الملاحظة المهمة من الوجهة النظرية والعملية هي أن العلاقة الطائفية تشتغل في هرم اجتماعي قاعدته الفقيرة واسعة جداً، في مواقع أعلى منه وجهاء وأعيان جدد يتوسطون لبعض شاغلي قاعدة الهرم عند محتلي القمة. أريد من ذلك القول أن العلاقة الطائفية، التي تربط عمودياً نافِذِين أو أعياناً مع جمهور عام تحت، ومركز قرار فوق، لا تجري في عالم مستقل، أو خارج العلاقات الطبقية الأفقية. فالأعيان والوجهاء الجدد يشغلون موقع «الطبقة الوسطى» في هذا الاجتماع السلطاني المحدث، وعلاقتهم فيما بينهم أوسع وأكثف من علاقات التحت الذي يحرسون انقسامه. ويشغل عموم أصحاب الحاجات موقع العامة المنقسمة على نفسها، التي تتراجع تفاعلاتها الداخلية، فيما يشغل القمة السلطان الحديث، حافظ، ثم اليوم بشار والأسرة. وإذا استقر الأمر لبشار فلا ريب أنه سيورّث المنصب لابنه، واسمه حافظ أيضاً. «الدستور» العميق للحكم السلطاني هو التوريث. وهو لا يقع في عالم بعيد عن عالم العلاقة الطائفية الثلاثية (سلطان، أعيان، عامة)؛ إنهما وجهان للحكم السلطان المحدّث.

والخلاصة أن الطوائف هي وحدات سياسية للحكم السلطاني المحدّث عبر كونها ممرات إجبارية لقضاء حاجات عامة السكان. النظام السلطاني لا يقوم دون استتباع السكان وتجريدهم من الأهلية السياسية. والطوائف هي أُطُر الاستتباع الممتازة التي تحرم السكان من السياسة (political agency) وتحوّلهم إلى رعايا وتابعين.

ولذلك فإن الثورة ضد الحكم السلطاني لا تكتمل إن لم تحطم الطوائف كوحدات سياسية، وتحرر السكان من حالة الرعية وروابط الاستتباع.

بالمقابل، يعمل الحكم السلطاني على تحويل الصراعات الاجتماعية إلى فتنة دينية أو صراع طائفي، لترهيب السكان من فوضى تدوم، ووضع نفسه فوق الجميع.

في الأصل، «الفتنة» (وقد استخدم بشار الأسد الكلمة 16 مرة في أول خطاب له بعد الثورة) هي الوجه الآخر للبيعة والحكم السلطاني. الدولة السلطانية في الجوهر إدارة للفتنة، تنوِّمها وتوقظها حسب حاجات بقائها. أو هي احتكار للفتنة، مع تأميمها عندما يقتضيها الحال، على ما جرى أثناء الثورة السورية.

 الطائفية والطبقات 

عالم الطوائف لا يقع في مجرة بعيدة منفصلة عن عالم الطبقات، وعالم الامتيازات الاجتماعية والسياسية غير العادلة. إنه جزء من هذا العالم، على ما تُظهر صورة الهرم الاجتماعي التي أحلتُ إليها قبل قليل. في أعلى الهرم تتركز سلطة كلية (كممثل للأسرة المالكة الحاكمة، بشار يأمر فيَنال، لا يطلب وساطة لأنه لا أحد فوقه، ولا يخضع لقانون أي كان، غير أن يحمي بقاء الحكم في أسرته)، وثروة هائلة (رامي مخلوف هو خازن مال العائلة الأسدية)، ووحدة تامة. في حوار أجراه معه المرحوم أنتوني شديد في 10 أيار 2011، قال رامي مخلوف: «نحن نؤمن أنه لا استمرارية لنا دون وحدتنا، وكل واحد منا يعرف أننا لا نستطيع الاستمرار دون أن نبقى متحدين». في أسفل الهرم إملاق سياسي واقتصادي، وتفرّق وتخارج وتنازع، وارتياب وعدم ثقة. وفي الوسط قدر أكبر من الثروة والسلطة، ودرجة من التقارب. الأعيان الجدد أكثر تقارباً وتبادلاً للمنافع فيما بينهم، مما يوحي المشهد المنقسم للقاعدة المجتمعية العامة، لكنهم واقعون بدورهم تحت رقابة وإشراف القمة، التي لا تسمح لهم بالتصرف المستقل. الأعيان الجدد هم الشريحة التي تتوحد بتبعيتها لفوق، وتسهر على انقسام تحت. إنهم شريحة بوجهين: وجه عام يُطلّ على المركز السلطاني، ووجه خاص يُطلّ على الجماعات الأهلية. وأقرب منتدى لائتلاف هذه الشريحة هو «مجلس الشعب»، وإن تكن أوسع منه طبعاً، تشمل أيضا الوزراء كلهم والمحافظين ونافذين كباراً، مدنيين وعسكريين.

كي يبقى الأعلى السلطاني موحداً ينبغي أن يكون الأدنى العامي منقسماً ومتنازعاً، وأن يكون الأعيان الجدد أعواناً مِطواعِين مقابل ما يحصلون عليه من امتيازات وتسهيلات. خطط الحكم السلطاني المحدّث تقوم على أن يجري ضرب المحكومين ببعضهم، كي يبقى هو متعالياً فوق الجميع.

وإذ هو قريب من عالم الطبقات، يقع عالم الطوائف بعيداً عن عالم الأديان والمعتقدات. أمام الطائفية، نحن في قلب عالم السياسة والسلطة والثروة والنفوذ، والامتيازات الاجتماعية والحرمانات الاجتماعية. الطائفية ليست أيديولوجيا هوية، إنها أيديولوجيا طبقة، مثلها في ذلك مثل العنصرية كما رآها بنديكت أندرسون. أو لنقل إنه يعاد بناء الهويات وتوجيهها لخدمة علاقات السلطة والامتياز القائمة، وتمويه هذه العلاقات. لا ترتد الطائفية (ولا العنصرية) إلى أيديولوجيا، إنها نظام من الأوضاع والممارسات القائمة على التمييز بين السكان حسب منابتهم الدينية أو المذهبية، وعلى تسمية ووصف مجموعات السكان بصورة تسوغ التمييز لبعضهم أو ضد بعضهم. لكن خصوصية الطائفية كأيديولوجيا تتمثل في أنها مصممة لإخفاء واقع الامتياز والتمييز الاجتماعي وراء التمايز الثقافي الموروث. الطائفية لا تخفي الطوائف، إنها تخفي الطبقات. ولا تخفي التمايزات الثقافية، إنها تخفي الامتيازات الاجتماعية والسياسية.

والطائفية شكل من أشكال العنصرية من حيث أنها نظام تمييزي للتسمية والوصف والتصنيف، وإن كانت لا تعيد امتياز طرف ونقص طرف إلى العرق، بل إلى العقيدة أو الثقافة، لتبدو الأوضاع العامة للجماعات نتاجاً لعقائدها وثقافتها الخاصة، شيئاً مستقلاً عن قضايا السلطة والسياسة والنفاذ إلى مواقع القرار والموارد العامة. الطائفية من صنف «العنصرية التفاضلية» التي تكلم عليها أنطونيو نغري ومايكل هارت في «الإمبراطورية»، عنصرية ثقافية أو حضارية. ولا تقع خارج عالم العنصرية التفاضلية عقيدة «صراع الحضارات» التي لا تعدو كونها صراعاً طائفياً على الصعيد العالمي. لكن الطائفية العالمية، مثل الطائفية المحلية، أوثق صلةً بالطبقة منها بالهوية، وبفضل القيمة منها بالقيم الفاضلة.

ومن هذا الباب تلائم الأيديولوجيا الثقافوية، والحضاروية، لحجب العنصرية حين هي تصور أقدار الجماعات البشرية كانعكاس أمين لهوياتها الثقافية، فلا وقائع الامتياز الاجتماعي والسياسي على الصعيد المحلي مؤثرة، ولا أوضاع السيطرة الدولية قائمة. هناك فقط سوق تنافسية شفافة للهويات، يشغل بعضنا منها موقع الموسرين وبعضنا موقع الخاسرين، وهي (السوق) ليست غير مقياس عادل لاستحقاقاتهم.

وأكثر من الطبقة الاقتصادية بحصر المعنى، تقترن الطائفية في الأمثلة المعروفة في منطقتنا، تفضيلياً، بالسلطة والمكانة والنفوذ، وبما يترتب على الموقع الممتاز في السلطة من امتيازات اجتماعية. وهذا يتصل بحقيقة أن السلطة وامتلاك السلطة وريع السلطة، وليس الإنتاج المادي، هو قاعدة تكون الطبقات ونيل الامتيازات. من يحز السلطة يصعد طبقياً، ومن يوالِها يحظىْ بفرص أكبر في الصعود. الطائفية أداة للسلطة التي هي مصعد طبقي. أو أن الطائفية ترتبط بالطبقة عبر السلطة وفاعليتها في الصعود الاجتماعي.

حقيقة النظام هي السلطة والامتياز المادي، وليس العقيدة أو المذهب أو الجماعة الأهلية. الطائفية ذاتها ليست حقيقة النظام، إنها استراتيجيا للسيطرة السياسية، وأداة حكم واستتباع وحماية للامتيازات والشرائح الممتازة. هذا فوق أنها قوة تقسيم اجتماعي، تحجب وقائع التفاوت السياسي والاجتماعي وراء الهويات والعقائد الدينية.

وهنا في الواقع مفارقة النظام الطائفي. فهو لا يستمر إلا بقدر ما يؤمن تماهياً تفاضلياً به لطائفة أو تحالف طائفي، لكن هدفه هو الامتياز والمكسب الخاص الذي تحظى به القمة أولاً، ثم الأعيان الجدد. يرعى النظام المتماهين به ويميّزهم عن أشباههم من أجل أن يخدموه أفضل. ويستمر عبر تغذية فوارق التماهي، وما يناله قطاع من الواقعين في الأسفل أكثر من قطاع من الواقعين في الأسفل أيضاً. وهو ينجح طالما الحواجز بين الصغار تحت أعلى من الحواجز بين الصغار والكبار فوقهم، الحواجز بين السني والعلوي مثلاً أعلى من الحواجز بين العلوي تحت والوجيه العلوي (الضابط مثلاً أو المدير العام)، والسني تحت والوجيه السني (الوزير مثلاً أو المتموّل أو رجل الدين النافذ). لكن المهم عند نخبة النظام الطائفي هو ما تحوزه هي من سلطة وثروة، وليس حقوق أو كرامة من لا تعتبرهم إلا أدوات لحكمها.

وجها النظام الطائفي

سبقت الإشارة إلى أن الواسطة لا تُتاح لكثيرين، وأنها قد لا تعمل حتى حين تُتاح، وأن النظام ليس مصمماً لتلبية جميع الحاجات، بل هو يلبي حاجات الأقوياء أهل القمة بالتناسب مع قوتهم. ما الذي يُبقي الهرم متماسكاً إذن؟ ما الذي يحول دون تمرد المحرومين من الواسطة والمحبطين؟ ما الذي يشد البنية الهرمية، ويبقي من هم تحت تحت، ومن هم فوق فوق؟ إنه «الأمن»، أو مجمل وظيفة حراسة النظام التي أشرت فوق إلى مركزيتها وطابعها الطائفي الغالب. يتعلق الأمر بوظيفة أساسية، ممأسسة ومتعوب عليها، يُعتمد عليها في إعادة إنتاج نفسه. النظام الأسدي هو استيلاء بالقوة على المجتمع وموارده عن طريق وظيفة قمعية إذلالية متضخمة جداً، مصممة بحيث يبقى النظام «إلى الأبد»، بقدر ما هو نظام للمحسوبية الشاملة وللطوائف كأجسام وسيطة.

سبقت الإشارة أيضاً إلى أن المساحة الأمنية للنظام واسعة جداً، وتؤمن رقابة كلية على المجتمع، هذا بينما مساحته المحاسيبية أضيق، ولا تقع عقد الكثافة في شبكة المحاسيب، أعني الوجهاء أو الأعيان النافذين، في متناول المرء حين يحتاجها. رقابة السلطة من فوق أقوى وأوسع اختراقاً للمجتمع من مداخل النفوذ من تحت. والواقعون تحت الرقابة هم جميع الناس، أما حائزو الواسطة الفعالة فهم بعض الناس. الطائفية درع حماية للسلطنة الأسدية، مكون من «طبقة الحراس» التي تتخلل المجتمع كشبكة كثيفة الانتشار، لا تترك رأس دبوس غير مراقب من العضوية الاجتماعية، وهي من جهة أخرى شبكات محسوبية تكفل انقسام السكان عمودياً، وتستتبع قطاعاتهم الدنيا لمراكز السلطة عبر الأعيان الجدد. العلاقة بين الحراس والشبكات متشابكة، ويشيع أن تكون الواسطة الفعالة ضابط مخابرات أو ما يعادله، لكن الشبكات ضمن طائفية عموماً، بينما الحراسة وظيفة عامة. الأمر ببساطة أن الحرّاس جهاز دولة، بينما الشبكات شرائح اجتماعية يتدخل فيها الأهلي بالحكومي. واليد العليا هي دوماً للدرع الحارس وليس للشبكات الوسيطة المنحصرة في إطاراتها الطائفية الأضيق. النظام أحرص على تخويف الناس منه على تلبية حاجاتهم.

تكفل شبكات المحسوبية الاستتباع العمودي للمحكومين والتخارج الأفقي للجماعات، وعزل اللاطائفيين أو غير التابعين منهم، أو تحويلهم إلى «صعاليك» منكشفين، لا تأثير عاماً لهم. لكن الدرع الأمني هو الذي يحمي النظام ككل، ويبرز في أوقات تحدي الحكم السلطاني وتعرضه لتمردات التابعين.

على أن نظام الدرع والشبكة فشل رغم ذلك في منع تمرد «المظلومين». وهذا رغم أنه ظهر احتياطي قوي للدرع السلطاني تمثل في ظواهر مثل الشبيحة الذين تحولوا من العمل برواتب في مراحل باكرة من الثورة، ثم صار يجري إقطاعهم بعض الأحياء المفتوحة، مثل بابا عمرو وكرم الزيتون في آذار 2012، قبل أن ينتظموا في جيش خاص تحت الإمرة الإيرانية وبرواتب مميزة في نهاية العام نفسه. هنا، بوضوح مَخْبري، تظهر السلطة كأداة مباشرة لنقل الثروة، أو للنهب. ومن نهب تلك الأحياء تشكل في حمص وما حولها ما سماه الشبيحة أنفسهم «سوق السنّة» بعد نحو عام على بداية الثورة، وهو سوق للمنهوبات من بيوت السكان في المناطق المشار إليها. في جمعها بين السوق والسنّة توفّر العبارة نفاذاً عميقاً إلى الظاهرة الطائفية بوصفها علاقة قوة وإكراه، وليست بحال مسألة اعتقادات وهويات موروثة وتعبيرات حرة عنها.

تشتغل الطائفية في إطار تكوين سياسي يسهل لمالكي وسائل القوة أن يتحكموا بمفاصل الثروة أيضاً. ومحصلة الحكم الأسدي خلال نحو جيلين هي تكون برجوازية جديدة تابعة، تتكون من «الأعيان الجدد» الوسطاء، ومن وبرجوازية عليا شريكة في الحكم السلطاني.

وإنما عبر صلتها بالسلطة والامتياز، وبالصراع على السلطة والامتياز، الطائفية ظاهرة استقطابية، تجنح إلى تشكل مجتمع ثنائي القطب، وليس متعدد الأقطاب بتعدد الجماعات الاعتقادية في المجتمع. هذا محقق في سوريا، بصرف النظر عن أي نقاش حول سياسة تحالف الأقليات التي تُنسب إلى حافظ الأسد على المستويين المحلي والإقليمي، والموجهة ضد الأكثرية المسلمة السنية.

النظام الطائفي تعددية ثقافية بلا مركز، مثلما هو حال الـ«ملتيكلتشرلِزم» (multiculturalism) في البلدان الأنـگلوسكسونية، وفي لبنان بصورة ما (أظنه تغيّر اليوم، هناك حافظ أسد جمعي لبناني هو ’حزب الله‘، وهناك طلب مرتفع على الأمن مع ظهور ’جبهة النصرة‘ وداعش وامتداد أذرع لهما في لبنان، وتقبل أوسع للفاشية في قطاعات من المجتمع اللبناني، من ظواهره مثلا تفضيل حزب الله على داعش والعدوانية حيال اللاجئين السوريين)؛ إنه نظام تراتبي قائم على الامتياز، ومتمركز حول السلطة العمومية. وفي صيغته السورية، هو موجه نحو ضمان سلطة أبدية للسلالة الأسدية.

ما أريد قوله، في المحصلة، هو أن الطائفية ليست مجرد آلة اجتماعية لقضاء بعض حاجات منسوبي الطوائف. هذا ربما كان الحال سابقاً في لبنان، وقد أخذتُ تصور الطوائف كشبكات محسوبية من باحث لبناني مرموق، أحمد بيضون. في سوريا يتجاوز الأمر ذلك إلى تطييف المركز السياسي والوظيفة الأمنية، أو ظاهرة «الدولة الباطنة». لبنان دولة سلطانية محدّثة بلا سلطان، إما أن تستكمل نقصها وتقيم عليها سلطاناً، وتطور درعاً أمنياً عاماً، أو تطوي صفحة نظام المحسوبيات الطائفي وتتطور نحو دولة مواطنة ومساواة. ومع تلاحم السلطانيتين: الناقصة، لكن مع فرع أمني كبير هو ’حزب الله‘، والكاملة، لكن مع ثورة ومركب «تخرجات داخلية» (طوائف ومجموعات أهلية وجهوية) مع تدخلات خارجية، يجنح لبنان نحو التسلطن أكثر. لكن وضع لبنان تابع لوضع سوريا، والسلطان السوري ذاته اليوم تابع للمركز الإمبراطوري الإيراني الذي يتبع له أيضاً فرع المخابرات اللبناني. والتفاعل الانشطاري الطائفي المتسلسل لا يزال بعيداً عن الهجوع.

هذا يُحيل إلى وجه إقليمي للطائفية، لن أتناوله هنا. أكتفي بالقول إن المدخل إلى مقاربة هذا الوجه هو السلطان والسيطرة الإقليمية، وليس بحال الجماعات الدينية والمذهبية. تطييف هذه الجماعات من لوازم السيطرة على الدول والمجتمعات، وليست السيطرة من نتائج التطييف.

المصدر :http://aljumhuriya.net