°
, March 29, 2024 in
آخر الأخبار
قضايا

منذر مصري يكتب: المأساة السورية .. سلعة إعلامية

منذر مصري

هناك فكرة صدّقها السوريون جميعاً، نظاماً ومعارضة وشعباً – حسب جدول التصنيف – وهي أن العالم، عام 2011، بات لديه من العيون والآذان، ما يجعله يرى ويسمع كل شيء، فوق الأرض وتحت الأرض! وأنه ما عاد يمكن أن تجري الأحداث في الصمت والظلام، كما في العهود السابقة، حيث إلى اليوم لا يعرف السوريون، ويظنّون العالم نفسه لا يعرف، ماذا حدث في حماه؟ على سبيل المثال لا الحصر، وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ لأنه، بظنهم، لو أتيح للعالم أن يعرف لتدخّل ومنعه، أو لقام بمساءلة فاعليه!؟

هذا التصديق، أو لأقل من الآن، هذا التوّهم، هو ما دفع بالنظام السوري منذ بداية الأحداث، (آذار – مارس 2011)، لأن يمنع البعثات التلفزيونية، والمراسلين الصحفيين العرب والأجانب من دخول البلاد، ما عدا التابع منها لأطراف مؤيدة له. ومن الجانب الآخر، وعلى منوال أخوتهم في تونس ومصر، رفع المتظاهرون السوريون هواتفهم المحمولة المزودة بالكاميرات، السلاح الجديد المتاح للجميع، وراحوا يصوّرون أنفسهم، وإخوانهم، ويتدبرون عرض الصور واللقطات على صفحات التواصل الاجتماعي، أو إرسالها إلى القنوات التلفزيونية العربية أو العالمية، التي بظنهم أيضاً، همها الوحيد، هو نقل الحقيقة للعالم. وأن مجرد هذا، سوف يشكل من الضغط ما يكفي لهزّ النظام، ومن ثم، وكأنه ينتظر على صيحة، إسقاطه!؟

وفي حين أن النظام اعتبرها حرباً إعلامية كونية مغرضة ضده، لولاها لاستطاع أن يوجد حلاً يجنب البلاد هذا المصير الكارثي، محمّلاً هذه القنوات المسؤولية المباشرة في سفك الدم السوري لدرجة أن الفنادق السورية قامت بحذفها من قائمة المحطات التلفزيونية التي يستطيع أن يشاهدها نزلاؤها، ولا أدري إن كان هذا بمبادرة منها أو بطلب رسمي، ولكن ما رأيته وخبرته هو أنه لا يمكن لأي مطعم أو مقهى أو محل تجاري يقع في السوق أن يشغل قناة الجزيرة أو العربية، علانية. لذا تراهم يفضلون القنوات الموسيقية أو الرياضية، طبعاً هذا يحصل في المناطق التي يسود بها النظام. أما في المناطق الأخرى فمن المؤكد أنه يسود العكًس، فالمعارضون صدّقوا أنها قنوات مناصرة للشعب السوري ومساندة لثورته. وما زلت أذكر أنه في أوّل مؤتمر للمعارضة السورية في دمشق، 27 حزيران – يونيو 2011، (مؤتمر سمير أميس)، كيف رفض بعض المشاركين، تبعاً لذات الحجة، شجب “التجييش” الذي تقوم به بعض القنوات التلفزيونية العربية، رغم أنها وردت ضمن البيان الختامي للمؤتمر. في الوقت الذي دعا إلى السماح للإعلام العربي والدولي بالدخول إلى سورية والعمل بكل حرية.

وهكذا، يومياً، ليلاً ونهاراً، وخلال السنوات الأربع التي مضت على بداية المأساة السورية، وبينما القنوات التلفزيونية الرسمية تتابع بث رواية النظام ونظريته عن المؤامرة، مواظبة على رفع معنويات متابعيها من الموالين، الذين بدوا وكأنهم يرضعون منها شعورهم بالأمان، راحت القنوات الأخرى، التي لا حصر لعددها، ولا لاتجاهاتها، كما لا حدّ لقدراتها، تعمل عملها الشائك والمضني في عقل وروح السوريين، وكأن الثورة صورة أو لقطة فيديو أو مقابلة مع شاهد عيان، تعرض على الشاشات، أكثر مما هي واقع يحدث على الأرض.

وبعد دفع الشعب السوري لكل هذه الأثمان، بعد أن مات مئات الألوف من أبنائه، بعد أن تهدّمت مدنه وقراه، بعد أن نزح وتشرّد، وبعد وصوله إلى حالة اليأس المطبق من احتمال أي حل قريب أو بعيد، كان لا بد له أن يصدّق بأنه استغل، وأنه، حقاً، كان ضحية خدعة كبرى. حتى نظرية المؤامرة التي كانت حكراً على النظام، صار يرفعها جميع السوريين، الموالون والمعارضون على السواء، متّهمين بالتآمر على سورية، الدول نفسها، والأسماء نفسها، والقنوات التلفزيونية نفسها، التي كان يتهمها النظام. ولينقلب حرصهم على متابعتها إلى إهمال وعزوف وسأم، ولتتبدل مشاعرهم من شاكرين إلى ساخطين، ومن مباركين إلى لاعنين. بالـتأكيد ما عادت تنطلي على عموم السوريين، هزليات برامج الحوار بين المعارضين والموالين. كما بات يثير حفيظتهم كيف تقف المذيعة المتأنقة بجانب خريطة سورية وهي تشير بيدها إلى إحداثيات المعارك الجارية، والخسائر في العتاد والأرواح على الجانبين، بالطريقة ذاتها التي تذيع بها نشرة الطقس. وكأن الدم السوري لم يكن بالنسبة لهذه القنوات التلفزيونية بمجملها، سوى وقود إعلامي رخيص، والمأساة السورية، لا أكثر من سلعة رائجة.

ويا له من درس محبط، ربما كان أقرب للبديهة بالنسبة لشعوب كثيرة، تعلمه الشعب السوري، ولو متأخراً، وهو أن العالم اليوم، حقاً، لديه من العيون والآذان، ما يستطيع أن يرى ويسمع بها كل شيء، ولكنه، ليس بالضرورة، يهتمّ ويتصرّف، يحمي أو يساعد، بل أنه يتفرّج ويتسلّى، وفي أفضل الأحوال، يشفق. وإذا حدث وتدخّل، فإنه لا يفعل ذلك إلاّ بدافع واحد، مهما غلّفه ومهما زيّنه، ألا هو تأمين مصالحه وغاياته… وأطماعه

المصدر : https://hunasotak.com