°
, April 20, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

في شأن خصائص النقاش السوري حول الطائفية – ياسين الحاج صالح

بين السبعينات واليوم، اقترنت موجات النقاش السوري حول الطائفية بأطوار احتدام الصراع الاجتماعي والسياسي في البلد. وعلى رغم أنه لم يصدر كتاب واحد يتناول المسألة مباشرة، إلا أن ما يحيل إليها بصور متنوعة منتشر في كتابات العديد من المثقفين السوريين. وربما كان كتاب برهان غليون «المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات» (1978) من أقدم ما كتب في هذا الشأن، وإن لم يتكلم المؤلف على بلد بعينه، جرياً على نهج سياسة كتابية سورية، تُكنّي ولا تسمي، وتعمم ولا تخصص، ولا يبدو أنها تحطمت نهائياً إلا مع الثورة السورية.

 

وقت صدر الكتاب كان حافظ الأسد يحكم سورية منذ 8 سنوات، وكان قد غدا ظاهراً أنه ليس حاكماً انقلابياً مثل غيره، وأن هناك طلباً صاعداً على قول شيء عن موقع الطائفية في تكوين نظامه وممارساته. وفي لبنان المجاور كانت تلتهب حرب أهلية، طائفية في جانب منها، وهناك نقاش نشط في البلد عن الموضوع.

أخذ يظهر إلى العلن الاقتران بين الصراعات السياسة وبين النقاش حول الطائفية منذ أيام «ربيع دمشق» في مطلع هذا القرن، وبلغ ذروة أعلى في 2005 بالتزامن مع الانسحاب الاضطراري من لبنان في ربيع 2005، ثم ذروات متتالية منذ بداية الثورة، آخرها مع خروج كل من إدلب وجسر الشغور من سيطرة النظام. يمكن القول أن النقاش في هذا الشأن، بوصفه جانباً من النقاش السياسي السوري، وثيق الارتباط بإمكانية النقاش بالذات. فكلما بدا الأمر مستقراً للنظام، تآكلت فرص النقاش عموماً، وفي الشؤون الأكثر حساسية بخاصة، وأولها الشأن الطائفي. في المقابل، تتسع فرص النقاش، ومنه النقاش في شأن الطائفية، حين تتراجع الفاعلية الضابطة للنظام، وتتدهور قدرته على التحكم بالمجتمع والكلام العام. ومن هذا الباب فإن التفكير العلني حول الطائفية مؤشر على تنامي الاعتراض الفكري والسياسي على الحكم الأسدي، وعلى الحاجة الموضوعية إلى تصور جديد للوطنية السورية، وهذا بقدر ما كان تحريم هذا النقاش مؤشراً على هيمنة النظام.

ومن خصائص نقاش السوريين الأخرى في الشأن الطائفي أن المكتوب منه أقل بكثير من الشفهي، وأن مواقع التواصل الاجتماعي، منذ ظهورها، قبل أقل من عقد، شكلت امتداداً للشفهية المزدهرة، وأنه مقترن في كل حال بحدة الانفعالات والعنف اللفظي ولغة الاتهام، وقلما يكون تبادلاً مثمراً للأفكار والتقديرات. وبينما يمكن التفكير في أنه كون الطائفية مساحة التقاء محرّمين، المحرم الديني والمحرم السياسي، يفسر هذا الحنق والعنف، فإن في مضامين ما يقال وفي نبراته ما يعطي الانطباع بموت إله أو أكثر، بقيامة وانقلاب العالم. وهل المحرم الجنسي، إن استحضرنا ثالوث محرمات بوعلي ياسين، بعيد جداً عن تمازج محرّمي الدين والسياسة في الطائفية؟ يلزم التفكير في واقع أن أشد غِلّ عتاة الطائفيين ينصب على النساء الخارجات على إجماع الجماعة. والحظر الديني لزواج المسلمات من غير المسلمين، أي احتكار الجماعة المسلمة لنسائها، من دون احتكار مماثل للرجال، يطل على الاستبداد بحياة النساء الجنسية وإحاطتها بتحريمات طائفية. أي أن جنسانية المرأة المسلمة شأن سياسي يخص الجماعة، وليس شأناً خاصاً يخصها هي.

من حيث مضامين النقاش في الطائفية، تبدو القضية، بادئ ذي بدء، كلاماً في أديان السكان ومعتقداتهم حصراً، وليس في السياسة والاجتماع. لماذا، إذاً، تحاط الطائفية بكل هذا التحريم والخطورة؟ يقال لتبرير التحريم إن الكلام في الأديان والعقائد يضعف الرابطة الوطنية أو «الوحدة الوطنية» وفق التعبير المفضل في سورية. في واقع الأمر يجري التحريم لأن الطائفية تطل على آلية الحكم ومنبع السلطة الفعلية، ولأن تصور سورية مغايرة يمر حتماً بهتك هذا التحريم، وإظهار أساسية التمييز الطائفي في بناء النظام أمام عموم السكان.

في المقام الثاني يبدو الكلام في الطائفية كلاماً على الوعي، وعي الأفراد ووعي المجموعات، كأن أذهان الأفراد وتصرفاتهم تتشكل وتشتغل في صورة مستقلة عن البنية الاجتماعية والسياسية، وعن قضايا السلطة والنفوذ والتحريم والقمع. وينتظر من عموم الأفراد أن يقولوا كلاماً لائقاً في كل حال، بصرف النظر عن قضايا السلطة العمومية والنفوذ، وعن سلوك الحاكمين الكبار. وهذا مطلب لا يقلب الأمور فقط، بل يمكن أن يستخدم لتبرير حجاب التحريم المسدل على النقاش في هذا الشأن المهم، والنقاش في السياسة عموماً. فبما أن الأفراد طائشون، ووعيهم ليس وطنياً بالقدر الكافي، سيكون واجباً أن يمنعوا من الكلام، ويعاقبوا إن تكلموا. وليس بين من يراقبون ويعاقبون بطبيعة الحال أمثال بشار الأسد ورامي مخلوف وأحمد حسون وبثينة شعبان.

في المقام الثالث يبدو الكلام في الطائفية كلاماً في «الطوائف»، في الجماعات الدينية والاعتقادية المتاحة في المجتمع، في العلويين والسنيين والشيعة، وفي المسيحيين والاسماعيليين والدروز وغيرهم. هناك طائفية لأن هناك طوائف، والطائفية بالتالي هي قسمتنا نحن الذين ولدنا في هذه «المجتمعات الفسيفسائية»، العاجزة عن توليد إرادة عامة أو مشتركات جامعة بين سكانها. لكن هذا أيضاً غير صحيح، ولا يفسر لنا لماذا تتفاوت الطائفية قوة في المجتمع نفسه بين وقت وآخر، وصولاً إلى المجازر الطائفية، ولماذا يبدو أن صفحات الصراعات الطائفية طويت أو هي أقرب إلى أن تطوى في مجتمعات أخرى، لا تختلف في شيء أساسي عن مجتمعاتنا «الفسيفسائية». ويقصى إلى خارج ممكنات التفكير أن العكس هو الصحيح، وأن الطوائف بالأحرى نتاج الطائفية، بوصفها سياسة تمييز بين السكان وفق روابطهم الدينية والاعتقادية، تمارسها نخب في السلطة أو طامحة إليها.

والحال، ليست هذه مجرد ثلاث نظريات خاطئة، ولكنها النظريات التي يبدو أن النظام الطائفي يفرزها ليحجب جوهره، ويعززها بدرجات متفاوتة من العنف، بما فيه أشده عرياً. وهذا بالضبط لأن الجوهر يكاد يكون مكشوفاً. العنف لازم إطلاقاً للنظام الطائفي بوصفه نظام تمييز، لا ينفك عنه ولا يستمر من دونه.

والخاصية الأخيرة للنقاش السوري حول الطائفية تتمثل في أن ما يحيط بالظاهرة من تحريم يفضي إلى مبالغات كبيرة في شأنها، تتراوح من إنكار وجودها تماماً إلى اعتبارها واقعاً ثابتاً لا يُزال، ومن إنكار أي فاعلية تفسيرية لها إلى اعتبارها المبدأ التفسيري الكلي الكفاءة في شرح أحوال مجتمعاتنا «الإسلامية» أو «العربية» «الشرقية». والحال، ليس هناك ما هو أنطولوجي في نظريات شرح الاجتماعي أياً تكن، وليس منها ما يحتفظ بصلاحية عابرة للعوالم البشرية والأزمنة. تسير الطائفية يداً بيد مع نظام الامتيازات والتمييز الاجتماعي والسياسي، ويغلب أن تكون أداة لنيل مكاسب خاصة على حساب محرومين بلا حقوق ولا حماية، وإن تمثلت الفاعلية النوعية للطائفية في خلق موقع ثالث، يستتبع محرومي الجماعة (س) بأصحاب الامتيازات من الجماعة نفسها ضد الجماعة (ص). نجاح فاعلية الاستتباع هذه هو في الآن ذاته مؤشر على مدى استقلالية الرابط الطائفي، وعلى فاعلية السياسي، في إبقاء الطائفية رصيداً لحماية نظام أصحاب الامتيازات. الطائفية لا تدوم بفضل خاصية دوام ذاتية، تدوم بفضل فاعلية السياسي تحديداً.

 

* كاتب سوري