– حين التقيتها، لم أتخيّل أنّ هذه الفتاة ستصبح جزءاً مني، وتتحوّل مع الوقت إلى حاسة سابعة، أتحسّس من خلالها العالم وأتأكد أنّي حيّ. قبل شهر، كان لقائي بها غرضه إتمام أعمال وظيفية. اليوم، صار اللقاء عملية تنفّس. الحوار معها شهيق، زفير. تضحك وتغنّي، وأحياناً ترقص. كانت مختلفة عن سابقاتها من الفتيات اللواتي عرفت. لا تبالي بشيء. تريد أن تكتشف العالم من دون مسبقات وحكم وفلسفات. كانت قادمة إلى الحياة مثل عارية، وهذا أكثر ما كان يعجبني فيها، أنا المثقل بأحمال الأفكار السميكة.
– لم أعترف لها بمشاعري، الاعتراف بمثابة الفضيحة. هكذا نشعر حين نحب فتاة ما. داخلنا الذي تراكمت فيه أكوام من العواطف ينفلش دفعة واحدة. حين نقول لمن نحب، أنّنا نحبه، يفرغ خزاننا العاطفي، نصبح أقلّ توازناً. كنت أعرف أنّها تضجر من أحاديث السياسة، تغيّرها بسلاسة إلى أمور شخصية وأسئلة عامة. كانت تدافع عن مراهقتها ولا تريد أن تخرج منها. تركض في الشوارع، وتهزء من أصحاب السحنات المتجهّمة. علّمتني تلك الفتاة، أنّ النضج مفهوم قمعي يضعنا داخل قوانين صارمة، ويمنعنا من التحّول إلى مجانين، ربما هذا هو الحب، أن لا نصبح ناضجين.
– لم أكن أجرؤ على مصارحتها. الحب والجرأة أمران متنافران. كنت أقترب منها كمن يحمل طفلاً ولد لتوّه، أخشى أن تنزعج، أو أن تبدي استياءً من حركة ما. كيف أقترب من الفتاة التي أحب! حيّرني هذا السؤال، وجعلني في تردّد دائم . الحب هو التردّد. تشعر أنّ مشاعرك تكاد تفيض وتعدل عن التعبير عنها. تشعر أنّ لدى من تحب استعداداً دائماً لسماع كلمات الغزل المعتادة، لكنك تتلعثم، تفقد القدرة على الكلام بعد مفردة أو مفردتين. الجريء وطليق اللسان، لا يستطيع أن يحب، وحده المتلعثم والجبان يصلح لهذه المهمة.
– ليس مهماً أن أضع اسمها في هذه النص. الأسماء غالباً ما تحدد الملامح، تضبطها في بضعة حروف. تجعلنا نتوقع الشكل الخارجي للشخص، سحنته، طريقة كلامه. ثمة ذاكرة للأسماء عند كلّ منا، تقتل لذة الاكتشاف. هذه الفتاة تفيض عن اسمها، تتحوّل إلى خيال يسبق الواقع بمسافات. حين أقارن بين اسمها وتصرفاتها، أقرّر أنّه لابدّ أن تكون لها أسماء عدة تتسع لهذا الفيض.
– أكثر ما كنت أحبّ فيها عادة البطء. كانت تسير ببطء شديد. تتأمل واجهات المحلات، ملصقات الشوارع، وجوه المارة، كأنّها تكتشفها للمرة الاولى، أو كأنّها خرجت للتو من العصر الحجري. صار كل تفصيل حداثي يثير استغرابها. ارتبطت هذه الفتاة عندي بالبداهة. كانت تذكّرني بأشياء غالباً ما أمرّ بها من دون انتباه. حتى جاري الذي يسكن قربي، لم أنتبه أنّه واقع في علاقة حب، إلاّ حينما صادفته هي، ولاحظت رائحة عطره القوية.
– اليوم التقينا، كي ندرس سوياً. لفت انتباهي أنّها حين تركّز في الدرس وتتابع الكتاب المقرر، تصبح أجمل. طلبت منها أن تشرح لي نظرية مستعصية. انشغلت برسم دوائر كي تقرّبني من الفكرة. فيما أنا، كنت أتتبع حركاتها وهي تشرح بحماسة، لا أعرف لماذا تزداد جمالاً كلّما انشغلت بدروسها! لاحقاً اكتشفت أنّها على خلاف بقية الفتيات حين تتعب وتشعر بالإرهاق، تعود ملامحها إلى نقائها الأول. مرت فترات طويلة من الدراسة. الدرس الوحيد الذي حفظته غيباً، هو وجهها، الذي تتبدل ملامحه نحو الأجمل كلّما درست أكثر.
– كان عليّ أن أقترب منها، أن أجلس على الكنبة ذاتها، محاولاً طمر الفراغ الذي نشأ بيننا. كنت بحاجة إلى الملامسة، تلك الكهرباء الخفيفة التي تسري في العروق. بدأت اقترب على مهل، حيث يبدو تصرّفي عفوياً لا إرادياً، فلا ينتبه أحد. بقي بيننا بضعة سنتيمترات، لا أعرف لماذا لم أتجرأ من الاقتراب أكثر. المسافة القريبة في مثل هذه اللحظات، أبعد من المسافات البعيدة ذاتها. حين انتهت الجلسة وغادرت إلى بيتها، فكّرت أنّ الحب يحتاج إلى كنبة أضيق، وربّما إلى شجاعة تشبه تلك التي كنا نقرأ عنها في حكايات سوبرمان.
Elie Abdo
المصدر : http://www.alaraby.co.uk