°
, April 20, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

قوتان تتولّد منهما ثالثة . ميخائيل نعيمه

قوتان تتولّد منهما ثالثة: في الأفلاك هما قوّتا الجذب والدفع . ومنهما الحركة الدائمة .

وفي المسكونة بأسرها , هما الانفصام والانضمام . أو ما ندعوه الموت والحياة . ونتاجهما هو كل ما نراه من الكون في الدقيقة التي نحن فيها .
وفي الكهرباء هما قوّة السلب والإيجاب . ومنهما ينبثق النور والحرارة .
وفي حياة الإنسان هما الخير والشرّ . أو ما تعوّدنا أن ندعوه خيراً وشرّاً . ومنهما البشريّة . فقبل أن تأكل حوّاء من الشجرة المحرّمة وتطعم زوجها , أي قبل أن يعرفا ((الخير والشرّ)) , كانا عقيمين ولا ذرية .
آدم وحواء ومنهما قايين ــ الوالد والوالدة والمولود ثالثهما .
قوّتان تتولّد منهما ثالثة . ولا تكتمل الحياة إلا إذا اكتملت فيها هذه القوى الثلاث . فهي كالمثلث المتساوي الأضلاع . إذا فُقدَ منه ضلع واحد فُقد كلّه . وإذا اختلّ منه ضلع واحد اختلّت مساواته وتشوّه كماله الهندسي .
الوالد والوالدة والمولود ــ هؤلاء هم مثلث الحياة البشرية . وهم أبداً متعادلون في الجوهر وإن اختلفوا في المظهر . أمّا الجوهر فهو أن للواحد منهم ما للآخر من الأهميّة في تجديد الحياة وحفظها . لذلك فقيمة الواحد لا تقلّ عن قيمة الآخر ولا تربي عليها . وأما المظهر فهو التباين الذي رتبه الخالق في الوظيفة التي انتدب كلّاً منهم للقيام بها ليتمّ بالحياة وتتمّ به . فما دامت البشريّة لا تقوم بالرجل وحده , ولا بالمرأة وحدها , ولا بالطفل وحده , فكيف لبشر أيّاً كان أن يفضل الرجل على المرأة , أو المرأة على الرجل ؟ ذلك أبعد من تصوراتي وأعمق من مداركي .
صعب عليّ كذلك أن أفهم القصد ممّا يدعونه ((الحركة النسائيّة)) التي أراها قائمة على وهم . وذلك الوهم هو أن الرجل حر والمرأة عبدة . وأنّه ينال من الحياة أكثر ممّا تنال . وأنّه القوي وهي الضعيفة . فلو صحّ ذلك لاختلّ توازن الوجود ولاختلط حابله بنابله . غير أن الطبيعة جعلت بين ما تتطلبه من الرجل وما تتطلبه من المرأة , وبين ما تمنحه وتمنحها توازناً يفوق بدقّته كل إدراك . فحيثما أجزلت العطاء للرجل وتباخلت على المرأة تراها في حالة أخرى قد عكست الآية لتحفظ التوازن . وتلك خطتها مع الطفل . فهي تأتي به إلى الوجود عرياً من كل سلاح . فلا إدراك ولا قوّة . لكنها تستعير له قوة من قوّة والديه وإدراكاً من إدراكهما . وفوق ذلك تحيطه بعطف خارق من كل بشر . حتى من كل حيوان . وبذلك تحفظ التوازن بينه وبين والديه فيبقى مثلث الحياة متساوي الأضلاع .
لم تكن المرأة في أدوار التاريخ أقلّ حظّاً أو حرية من الرجل , ولا أحطّ منه , ولا هي كذلك اليوم . فهي إن تكن عبدة فلأن الرجل عبد . أو يكن الرجل عبداً فلأنها عبدة . إذ أن ما يرفع الرجل يرفع المرأة . وما يحطها يحطّه . وما يحرره يحرّرها . وما يقيّدها يقيده .
فبالسلاسل التي يكبل يديها يكبل يديه . وبالقناع الذي يقنع وجهها يقنع روحه .
ما ظلم بشر بشراً إلّا كان هو المظلوم أوّلاً بظلمه . لا ولا استعبد رجل امرأة إلّا جعل نفسه عبداً قبل أن يجعلها عبدة .
الرجل الحرُّ لا يزاوج عبدة . وإذا زاوجها فإمّا يحرّرها بحريته . وإمّا تستعبده بعبوديتها . لا ولا يمكن حرّاً أن يكون أباً أو أخاً لعبدة . فمثلث الحياة لا يعرف الخلل لأنّه مظهر نظامٍ لا خلل فيه . فحيثما استطال ضلع من أضلاعه استطال الاثنان الآخران به . وحيثما قصر ضلع قصر الاثنان الباقيان بقصره . ومن يرى في مثلث الحياة خللاً أو نقصاً فلحسور في بصره أو قصر في إدراكه .
إن تكن المرأة جاهلة فلأنّ الرجل جاهل . فعليها حين تشفق على جهلها أن تشفق على جهله . فلا نفع لها من الانتقام . ولا بركة في الحركات النسائية تجعل الرجل هدفاً لنقمتها , بل لا بركة في أية حركة كانت تفصل بين الجنسين وتجعل منهما خصمين . لأنها بذلك تصرف قوى ثمينة عن العمل في الحقل الوحيد الذي نتاجه يعود بالخير على الاثنين . وهو حقل التعاون لا التخاصم . فلا حرية للمرأة بغير حرية الرجل , ولا سعادة له بغير سعادتها . فلا هي تتمّ إلا به , ولا هو يتم إلّا بها .
يستحيل عليه أن يسبقها في مرحلة من المراحل , وعليها أن تسبقه . ويستحيل على الاثنين أن يسبقا الطفل . ولو شُبّهت البشرية بمركبة تجرها ثلاثة جياد لكان الرجل والمرأة والطفل بمثابة تلك الجياد . لا يدرك الواحد منها عطفةً من الطريق إلّا يكون الآخران قد أدركاها معه في الدقيقة عينها .
الرجل والمرأة والطفل ــ ثلاثة يسيرون أبداً في سبيل واحد بخطوة واحدة . فلا قائد ولا مقود . ولا رئيس ولا مرؤوس .
ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة .

 المصدر :

ميخائيل نعيمه … « مثلث الحياة ــ من كتاب المراحل (1932) »