°
, April 25, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

منذر مصري يكتب : اتركها.. ما معها سلاح ولا بتخفي شي

رويت لي هذه الحادثة البارحة مساء، ومن شدة تأثّري بها، أقسم، إني رأيتها في منامي، واستيقظت باكراً، وأنا أشعر بأنها حدثت لي، وبأني كنت أحد ركاب الباص الذي صعد إليه عنصر من عناصر الجيش، أو الأمن، أو الدفاع الوطني، تابعاً لأحد الحواجز على طريق اللاذقية دمشق، وراح يدقق في بطاقات الهوية لجميع الركاب، إلى أن وصل إلى نهاية الباص، حيث وجد المرأة المجللة بالسواد، التي لا يظهر للعيان أي جزء منها سوى وجهها، قابعة مع أطفالها الثلاثة، ولا تحمل بطاقة هوية!؟

ودون أي تردد طلب العنصر منها الهبوط، خارج الباص، لكن المرأة كانت لا تتوقف عن الشرح له أن بيتهم في دير الزور تهدّم واحترق وصار كومة رماد وحجارة، وأنهم فقدوا كل شيء، بما فيه أوراقهم وهوياتهم، وأنه يستطيع تفتيشها فليس معها سوى حقيبة صغيرة تحتوي بعض حاجيات أطفالها، وأن زوجها، الموظف في إحدى دوائر الدولة، ينتظرهم في دمشق. تخلل هذا الشرح التفصيلي، الكثير من الدعوات وعبارات الاسترحام والاستجداء: “الله يخليك، الله يحميك، الله يخلي ولادك”. وبسبب تشبثها في مكانها مع أطفالها، راح العنصر يشد بها ويدفعها في الممر الضيق بين مقاعد الباص، وأطفالها عالقون بها، يبكون ويصرخون.

السائق ومعاونه وركاب الباص جميعاً، ينظرون ويراقبون، وليس باستطاعة الواحد منهم التلفظ بكلمة. فإذ بصوت حاد، يمزّق هذا المشهد غير الإنساني الذي يرينا المأساة السورية بكل تفاصيلها، صرخة واحدة، امرة، لا تحتاج لشرح، ولا تحتاج لتكرار، أمر لا يرد، لا أحد يدري من أين استمد قوته وسطوته: “تريكين” باللهجة الساحلية وتعني اتركهم. فنلتفت تجاه الصوت لنرى امرأة قامت عن مقعدها في مقدمة الباص، ووقفت، مظهرة نفسها، امرأة عادية، متوسطة العمر، لا شيء يميزها لا في وجهها ولا في الثياب التي ترتديها، إلا أنها، كانت، في حلمي.. تشعّ

“تريكين” جمّدت العنصر في مكانه، وراح يشاركنا النظر إليها، لا يدري ماذا يقول ولا ماذا يفعل. حتى إنه لم يحتج ويشخط في المرأة كما كان متوقعاً منه: “وشو علاقتك إنتي!؟” كما لم يسألها: “مين إنتي، أو مين وراكي، حتى جاية تتأمري عليّ؟”. ما أتاح للمرأة المشعّة، أن تكمل بالصوت الحاد والقوي نفسه: “أم لتلات طفال، نبشتوها.. آ معها سلاح ولا بتخفي شي، شو بدكين فيها، حسيب شو ما كانت تكون، شو بيخوفكين منها، ما عندكين إنسانية!. كرهتوا الناس فيكين وفينا كلنا؟” وأيضاً دون أن ينبس العنصر بكلمة، دون أن يلقي نظرة أخرى على أي من المرأتين، يهبط من الباص، مشيراً بيده للسائق، أن يمضي.

هذه إحدى القصص التي أعرف الكثير منها، وبعضها كنت شاهداً عليها، التي يجب أن تروى وتنشر وتعمم بين السوريين أنفسهم، وليس لسواهم، قصص العيش المشترك، الوطن المشترك، الجيرة الأبدية، مصالح الناس مع بعضهم، الحاجة الأعمق والأقوى للتآخي والمودة.. لا قصص الكره والحقد، لا صور التنازع والقتل، والتي يعمل عليها وينشرها أناس لا على التحديد، ينتمون لكل أطراف النزاع في سوريا، وكأنه لا غاية لهم إلاّ أن يدفعوا بالسوريين إلى مزيد من هذا التباغض والاقتتال والموت. ولا أرى أن التحجج أو التبرير، بأن ما يروونه وينشرونه هو الحقيقة، وهو الواقع، يبرئهم من تهمة كهذه، حتى وإن كنت أصدق أن الكثيرين منهم قد يكونوا مأخوذين وتحت تأثير الأهوال والمآسي التي يسمعونها ويرونها، وربما تحدث معهم، كل يوم، طوال هذه السنين الماضية، والتي تبدو وكأن هناك من لا يريدها أن تنتهي. إلا أن الحقيقة الأنصع والواقع الأشد مضاء، الذي علينا أنه لا غد لنا ولا مستقبل، نحن السوريين، إلا بتضميد جراح بعضنا والصبر على آلامنا.. والمضي قدماً على هذا الطريق.

لا أريد أن أعقد قصتي البسيطة هذه، بتناولها من وجهة نظر سياسية، ولكني سأختمها بقصة أخرى، من تلك القصص التي ذكرت، وقد حدثت معي شخصياً، عندما دخلت محلاً لبيع الألبان في أحد أحياء اللاذقية البعيدة الواقعة في طرفيها الشرقي والشمالي، إن كان لهكذا إحداثيات أي معنى. وكان معلقاً على جدران المحل عدة صور صغيرة وكبيرة لشهيد من الجيش العربي السوري، فهمت من صاحب المحل أنه ابن أخيه. إلا أن الرجل، لدهشتي، قد عرفني، مستقبلاً إياي بسؤال لا أظنه كان ينتظر جوابه: “أنت الأستاذ منذر مصري الشاعر والمعارض!؟”. أجبت بغير قليل من التحسب: “نعم أنا منذر مصري، بالتأكيد، والشاعر ربما، أما معارض، فهي حسب ما تفهمه من كلمة معارض”. أجاب، وكأنه شعر بتخوّفي، ورغب بأن يخلصني منه: “أهلا بك، كيفما كنت، نحن السوريين أهل وأخوة، هكذا كنا في الماضي وهكذا سنبقى دائماً. وأنا وأنت وأناس كثيرون يعلمون، لمصلحة من الفرقة بيننا، ولمصلحة من خوفنا من بعضنا. ولا حاجة لي أو لك لقول المزيد”. فلم يكن أمامي سوى الإصرار على دفع ثمن سطل اللبن، بسبب رغبته أن يقدمه لي كهدية تعارف، وأحمله وأخرج، بإحساس داخلي، وإن مؤقت، بالطمأنينة والأمل..

 

المصدر : https://hunasotak.com