°
, April 25, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

تطور مفهوم الإرادة الحرة في الفلسفة الحديثة – اعتدال جاد

العناوين الأساسية

1-  مقدمة وتعريف

2-  جذور الفكرة في الفلسفة اليونانية

3- لمحات عن تطور المفهوم  في العصور الوسطى ونظرية الحق الإلهي

4-  تطور المفهوم في الفلسفة الحديثة:

 برز في عصر النهضة الأوربية تياران أساسيان:

أ‌-تيار يركز على الإرادة الحرة الفردية ويمثل نقطة بداية العقلانية الحديثة ومن أبرز ممثليه: ديكارت وكانت.

ب‌-وتيار يمثل الإرادة العامة وهذا التيار يمثله كل من جون لوك ومونتسكيو وجان جاك روسو

ت‌-   الإرادة الحرة عند هيغل ونقده لهذا المفهوم عند فلاسفة التنوير

 

5- خاتمة ماذا يفيد الموضوع في واقعنا الثقافي الراهن؟

 مقدمة

إشكالية الإرادة الحرة كانت وما زالت تحتل مركز الصدارة وتثير جدلاً بين المفكرين والفلاسفة منذ اليونان وحتى عصرنا الراهن وما زلنا نتساءل إن كان الإنسان في حقيقته يتصرف مدفوعاً بفعل قوى خارجية تسيّره أم أنه موجود حر يتصرف بوحي عقله وإرادته الحرة؟

وهل يجوز لنا أن نميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بأنه كائن حر الإرادة أم لا ؟

تتحدد الحرية بمدلولها العام بأنها الفعل الإنساني غير المقيد، أما في لسان العرب فإن الحرية معناها التحرر من كل قيد والحرية  ضد العبودية .

بالمعنى اللغوي : الإرادة الحرة  FREE WILL هي قدرة الانسان أن يفكر ويتصرف ويعمل بناء على اختياراته الذاتية دون أن يكون مجبرا أو مسيّرا من قوى خارجية.وفي الميدان الفلسفي يعتبر مفهومي الإرادة والحرية  من أقدم المشكلات وأعقدها منذ فلاسفة اليونان وحتى الفلسفات المعاصرة ويرتبط مفهوم الإرادة بمفهوم الحرية باعتبار الإرادة شرط للحرية لينتج مفهوم الارادة الحرة

 أسئلة لا بد منها

1-ما هي العلاقة بين تطور العقل وحرية الإرادة وهل الإرادة الحرة تجسد روح العالم وقوانين العقل.
2-هل كل إ رادة إرادة  حرة وواعية ؟ وكيف يمكن الوصول إلى الحرية التي هي الغاية النهائية للوجود الانساني ؟
3-هل يمكن تحقيق  وحدة الهوية والاختلاف ، وأن تتوصل البشرية من خلال الإرادة الحرة إلى وحدة المتناقضات الذاتي والموضوعي الخاص والعام وتعلن ان هذه المعرفة قد وصلت إلى غايتها؟

الارادة الحرة عند فلاسفة اليونان

بدايةً لا بد من التنويه إلى أن جذور فكرة الإرادة الحرة تعود إلى الفلسفة اليونانية، وكان تصور أرسطو (للاختيار المتعمد) أول محاولة لصياغة مفهوم الإرادة الحرة كمفهوم محدد ومتميز، وعرف هذا الاختيار بأنه فعل ما مصدره داخل الإنسان نفسه ويقوم على عنصري العقل والرغبة معاً

إن العقل بمفرده ليس كافياً للفعل الحر ويحتاج إلى الرغبة فالرغبة بدون عقل مجرد اندفاع أهوج وليس اختياراً واعياً حراً ويرى ارسطو أن الاختيار الحر هو (رغبة مسترشدة ) وان حياة الإنسان هي سلسلة من ؛الاختيارات  التي تعبّر عن شخصيته

 إننا أحرار لدى أرسطو ومسؤولون عن أفعالنا لأنها لا ترجع إلى علل خارجية فذواتنا هي أصول أفعالنا ونحن محاسبون  أخلاقيا وقانونياً عليها.

يرى أفلاطون أن المجتمع ينشأ على نوعين من العقود النوع الأول خاص بالعقود بين الأفراد والذي ينظم الحياة الخاصة لهم، والثاني خاص بالعقود المبرمة بين الحكام والمحكومين.

وجوهر فكرة العقد الاجتماعي تعني ان الجماعة الإنسانية بعد أن انتقلت من حالة الطبيعة ودخلت في مرحلة الجماعة السياسية استقر رأيها على إنشاء مجتمع سياسي فانبثقت منه الدولة .

لمحات عن نظرية الحق الإلهي وتطور المفهوم في القرون الوسطى (القرن 5- 15م )

نشأت نظريات الحق الإلهي في أول الامر كمحاولة لتحرير الحكومات المدنية من رقابة البابوات وسلطانهم وقد جاءت رداً على دعاوى البابا ان له الحق الإلهي في الشؤون الزمنية ، وظهرت نظرية الحق الإلهي للملوك لانتزاع هذا الحق من يد البابا واستخدامها كأداة للوصول إلى هذه الغاية وأيضاً للسيطرة المطلقة على المجتمع وتأكيد السلطة الشاملة المطلقة للحاكم بوصفه مصدراً لجميع السلطات وممثلاً لله على الأرض.

أ-  نظرية الحق الإلهي  المباشر:

 ظهرت هذه النظرية مع المسيحية لِحمايَة الإمبراطور  و تنص على إن كُل سُلطه مصدرُها الإرادة الإلهية   ولا إرادة للشعوب ، وأنَ الله هو الذي  يختار بنفسهِ مُباشرةْ الحُكام ويودعهم السلطة ، ومن يصطفيهُم  لحُكم شعوبهُ ويَمدهُمْ بروحٍ مِن عندهُ ومن عصى الحاكِم فقد عصى الله ، لأن الله هو مصدر السلطة وليس الشعب ولا يسأل الحُكام عن سُلطاتهِم إلا أمام الله ، و هذه النظرية تهدُف إلى تبرير الحكم المُطلق وتغييب الشعوب.

ب-  نظرية الحق الإلهي غيرَ المُباشِر  أو العناية الإلهية :
ظهرت هذه النظرية في القرن الخامس الميلادي نتيجة لانهيار الإمبراطورية الرومانية ، وحيثُ قطعت البشرية شوطاً أكبر في طريق العِلم والرُقي ، فلم تعُد فِكرة الحق الإلهي المُباشِر مستساغة مِن الشعوب ولكنها لم تنعدِم تماماً ، وإنما تطورت وتبلورت في صورة هذهِ النظرية ولقد قام بعض الفلاسفة بتطويرنظرية الحق غير المباشر  التي تنص على:  أن الله لا يتدخل بإرادتهِ في تحديد شكل السلطة ولا في طريقة مُمارستِها ، وتذهَب هذهِ النظرية إلى أنَ الحاكِم لا يتِم اختياره مُباشرةً مِن الإله وحتى وإن كانَت السلطة مصدرُها الإله فإن الشعب هو الذي يقوم باختيار حاكِم مُعيَن وأنَ الذي يُرشِدَه إلى هذا الحاكِم هو الإله ،لكن نظريَة العناية الإلهية غير المباشرة ، هي التي تُرتب الحوادث وتوجهُها بشكلٍ مُعينْ كما توجِه وتساعِد إرادة الأفراد ورجال الدين خصوصاُ نحو الاختيار بأنفسِهِم لنِظام الحُكم الذي يرتضونهُ ونحوَ اختيار شخصٍ. معيَن أو أسره مُعينه لِتتولى أعباء الحُكم في الدولة، فنجِد في القرن الخامس الميلادي أن الكنيسة سيطرت على العالم المسيحي ولم يعُد الملِك يستطيعُ مُمارسة مهامه إلا بعد قيام الكنيسة بالطقوس الدينية الخاصة بتتويجهِ، نظراً لكونِها مُمثِله للشعب المسيحي .

ولقد لعبت هذه النظرية دوراً مُهِماً وبالِغاً في تقييد سُلطة الملوك، وبالمُقابِل ساهمت في تدعيم سُلطة الكنيسة مُمثِلة الشعب المسيحي ، باعتبارها وسيطاُ بينهُ وبين السلطة المقدسة التي تأتى من التفويض الإلهي من عِند الله ، وترى الكنيسة الكاثوليكية في محاوله لبسط نفوذها ، أن الله قد أودع جميع السُلطات بيد البابا وهو معهُ سيف السلطة الدينية ، وخلع للحاكِم سيف السلطة الزمنية ، وبذلِك لم تعُد سُلطة الحاكِم مُطلقه .

ويبقى جوهر النظريتين هو أن الله هو من يختار الحاكم بالطريقتين المباشرة وغير المباشرة واستُغلّ  ذلك لتبرير السلطة المطلقة وتحريم مقاومتها وحتى نظريات الإصلاح الديني فيما بعد لم تستطع أن تقدم أية طريقة للحد من سلطات الحاكم ولا يجيز المصلح توما الإكويني (1225- 1275 م ) الانقلاب على الحاكم المستبد لأن الانقلاب عليه أشد خطورة على نظام الدولة من استبداده لذلك يجب الصبر عليه ، ونرى ذلك أيضا في موقف الكثير من الفقهاء المسلمين  في العصور الوسطى كما نراه الآن في   بعض التبريرات للأنظمة الشمولية في القرن الواحد والعشرين.

لمحة عن الإرادة الحرة في الفلسفة الاسلامية (علاقة الفعل الإنساني بالفعل الإلهي)  :

ارتبط مفهوم الإرادة الحرة عند الفلاسفة الإسلاميين وعلماء الكلام بالقدر والجبر والاختيار وقد تبلورت عدة تيارات فلسفية:

1- تيار الجبرية

 ظهر في القرن الثامن ميلادي وهو لم يكن يرى بالإنسان سوى أنه مجبر على أفعاله مسيّر وليس مخيرا، ولا يملك إية إرادة حرة فهو أسير الإرادة الإلهية ليس إلا، وتبنى فيما بعد فقهاء السلطة مبدأ الجبرية وبذلك يكون كل ما هو سياسي مقدر وبالتالي حكم الخلفاء قدر مقدر من الله ويجب طاعته والخضوع له

2 – تيار الاختيار:

ويمثله المعتزلة وهو من أهم التيارات الفلسفية العقلانية في الإسلام ، حيث أنكر المعتزلة المشيئة والخلق، لجهة خلق أفعال الإنسان فقالوا إن الإنسان هو الذي يخلق فعله بنفسه وليس الله، والإنسان مخيّر وليس مسيّرا  ويملك قوة يستطيع من خلالها أن يفعل ما يختاره هو ، كما أجمعت المعتزلــة على أن الله لم يخلق الكفر ولا المعاصي ولا شيئاً من أفعال البشر، مؤكدين أن الله لا يمكن أن يريد هذه الأشياء ، ولا يخلقها لأنها قبيحة، فنتج عن ذلك أن أوَّلوا جميع الآيات والأحاديث المعارضة لمذهبهم.

وبناء عليه، توصّل المعتزلة إلى وجود قانون دائم متصل يعبر عن القدرة الإلهية، مما دفعهم إلى عدم القول بالخلق المستمر المنفصل من قبل الله لكل فعل منأفعال الإنسان والاعتراف الصريح بقدرة الموجود البشري على خلق أفعاله جميعا بخيرها وشرها، وهو يمتلك العقل والإرادة الحرة التي توجهه إلى اختيار الفعل، والقدرة المؤثرة التي تمكّنه من إحداثه.

3-  تيار القدرية

 ومن أبرز ممثليه الأشاعرة – في القرن العاشر الميلادي والقدرية تعني التوفيق بين الجبرية والاختيار وقد حاول الأشاعرة التوفيق بين الموقفين السابقين  من خلال نظرية الكسبالتي تعني : التلازم والاقتران بين إرادة العبد وخلق الله للفعل أي أن الرغبة للفعل من شان العبد وخلق الفعل من شأن الله وحده ،  فإذا أراد العبد فعلاً خلقه الله له فيكون  الفعل من خلق الله ومن كسب العبد وإذا أراد العبد خيرا كالصلاة أو الزكاة وغيرها فان الله يخلق له الأفعال التى تساعده على ذلك ويسمى مطيعا لله ويستحق دخول الجنة وإذا أراد العبد شرّا كالقتل أو السرقة فان الله يخلق له الأفعال التى تمكنه من هذا الفعل وفى هذه الحالة يسمى عاصيا لله ويستحق العقاب ودخول النار أن الله يحاسب العبد فى الآخرة على نيته أو إرادته ويكون الإنسان مكتسبا لأفعاله ولقد كان من أبرز ممثلي هذا التيار أبو حسن الأشعري (874 – 936 م)  الذي صاغمذهب الاكتساب الحتمي الذي يمسك الله فيه العالم بإرادته وإن قدرة الانسان على الفعل محكومة باكتسابه لهذه القدرة من الله  ويرى هذا المذهب أن الله فاعل افعال البشر في الواقع والبشر هم وسائل فعله وقد غدا مذهب الاكتساب مفهوماً لاهوتياً رئيسياً  من مفاهيم علم الكلام عند الاشاعرة من القرن العاشر حتى القرن الخامس عشر ونستنتج من ذلك ان افعال البشر تعود إلى الله وبما أن الله قادر على إجبار البشر على فعل كل شيء مما ينفي المسؤولية عنهم ومن الظلم معاقبتهم عليها لانهم حسب هذا المذهب ادوات لتنفيذ اوامر الله بحيث تصبح صفة الله [العدل ] موضع تساؤل من حيث مصير البشر في الدنيا والآخرة ومن الظلم معاقبتهم عليها وفكرة الاكتساب هذه  حرمت الانسان من اي قدرة على الفعل أو التفكير أو الإجتهاد أو الإبداع.

 4- ابن باجه  (مات مسموما عام 1138)

أكد على أن الإنسان سيد أفعاله وعلى حرية الاختيار وميّز بين الأفعال التي يختارها الإنسان من خلال الإرادة الصادرة عن رؤيته ويسميها أفعالاً إنسانية لأنها خاضعة للفكر ولما يحمله الإنسان من ثقافة واعتقادات ومسبقات ، وبين الأفعال البهيمية التي هي ردود أفعال ميكانيكية خالية من كل تفكير مسبق وغير مؤسسة على التفكير القبْلي.

5- ابن رشد (1126-1198 ) .

 ولد في الأندلس أكد على حرية الإنسان وقدرته على اختيار أفعاله الخيرة والشريرة وأكد في الوقت نفسه على الحتمية التي تتجلى في خضوع الإنسان لقوانين الطبيعة وقوى الجسد المخلوقان من الله ويعتبر المؤسس الحقيقي للمنهج النقدي الذي ارتكزت عليه النهضة الفكرية اللاحقة ، في أوربا ويعد من أهم الفلاسفة المسلمين دافع عن الفلسفة  وصحح آراء علماء وفلاسفة سابقين كابن سينا والفارابي في فهم أفكار إفلاطون وأرسطو .

إن الاتجاه العقلاني  كان محدوداً في تلك المرحلة المضيئة من التاريخ العربي الإسلامي، وكان هناك دائماً هجمات عنيفة ضده من الفقهاء  المتشددين  بعد صعود نجم الأشاعرة وسيطرتهم على الحياة الفقهية والقضائية والثقافية وتحول منهجهم إلى منهج رسمي للدولة في نهاية العصر العباسي  مما سبب انغلاقا في العقل الإسلامي  امتد من أبو حسن الأشعري مروراً بالإمام الغزالي صاحب كتاب تهافت الفلاسفة و أبن تيمية(1263 –  1328 م) الذي قاد هجوماً ضد المذهب العقلي حيث انتقد الفلاسفة والمتكلمين على حدٍ سواء وصولاً إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1703 – 1791م)  الذي أسس الحركة الوهابية والتي ناصبت الفلسفة العداء وأسست الى الفكر التكفيري المتشدد، وكان من نتائج أعمال ابن تيمية نفي الفلسلفة من كلية الازهر  بالقاهرة  حيث ظلت ممنوعة فيه الى أن وصلت الحداثة في القرن التاسع عشر.في الوقت الذي نهضت فيه أوربا نتيجة إعادة إحياء التراث الفلسفي الرشدي واليوناني والقانون الروماني .

 إذاً مفكرو الشريعة  واللاهوت في الحضارة الاسلامية ضيقوا القدرات العقلية عند الانسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية  التي تعزى لجميع البشر لمصلحة السير على نهج السلف واتباع التقليد وعدم الغوص في اسرار الطبيعة أو النصوص المقدسة ، ودعوا إلى  الاعتقاد  بان الحكمة الربانية  وإجماع الفقهاء أعلى من الفاعلية البشرية  وأفضل ما توصل إليه الفكر العقلاني في تلك المرحلة كانت أعمال المعتزلة وابن رشد ولكن تيارهم العقلاني ذوى وتراجع أمام التيار المحافظ ، مما أدى إلى منع التجديد في الفقه الديني وإغلاق باب الاجتهاد والتفكير ومن المفارقة أن يكون التيار العقلاني الممثل في ابن رشد في أساس النهضة الفكرية في الغرب في حين أنهاتهم من قبل معارضيه في الأندلس بالكفر والإلحادفأحرقت  كتبه وتعرض للعزل والنفي والملاحقة.     

الإرادة الحرة عند أهم فلاسفة التنوير الأوروبي

عالج فلاسفة التنوير مفهوم الإرادة الحرة من خلال علاقة الإنسان بالمجتمع والقانون والدولة لأن الإنسان لا يتمتع بإرادة حرة إلا ضمن علائق مجتمعية تحكمها القوانين من سلوكيات وأفعال داخل المجتمع وهذه القوانين هي الضامنة الوحيدة لحرية الفرد وهو يخضع لمجموعة من الشروط النفسية والاجتماعية والسياسية وبما أن القوانين والقواعد تحدد الحرية، فالحرية مستحيلة بالدولة لأن الدولة تحد من حرية الفكر والإرادة، وتفرض العمل بواسطة قوانينها التنظيمية، والسؤال الإشكالي الذي طرحته فلسفة التنوير هو:

 كيف يمكن الجمع بين الحرية وغياب النظام؟ باعتبار أن حق الحرية لكل شخص يستلزم وجود نظام سياسي وقوانين تنظم الحرية وتحدد ميدان تعايش الحريات .

وقد عرّف فلاسفة التنوير الإرادة الحرة بأنها: القوة الفاعلة التي تحدث التغيير والحرية هي القدرة على الفعل أو الامتناع عن الفعل الذي اختارته إرادتنا وركائز الحرية تعيين الإرادة بحكم العقل لا بحكم الرغبة.

برز في عصر النهضة الأوربية تياران أساسيان، تيار يركز على الإرادة الحرة الفردية ويمثل نقطة بداية العقلانية الحديثة ومن أبرز ممثليه: ديكارت وكانت، وتيار يمثل الإرادة العامة ويمثله جون لوك ومونتسكيو  وجان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي.

الإرادة الحرة عند ديكارت (1596-1650)

:اعتبر ديكارت رائدا ومؤسسا للعقلانية الحديثة (أنا دأفكر إذاً أنا موجود)، وهو نقطة بداية الوعي الأوروبي العقلاني الحديث، وكان لفلسفته دلالة في إدانة السلطة الكنسية حيث اعتبر أن الواقع والموجود هو ما أتوصل إليه أنا فقط عن طريق التفكير العقلاني المستقل عن كل سلطة معرفية خارجية.

والإرادة الحرة عند ديكارت إرادة لا متناهية ، نظير إرادة الله،  أي أنها حرة في أن تمنح تصديقها أو تحجبه عن ترابطات الأفكار التي تقدمها لنا المخيّلة أو الحواس ، ومعارفنا محدودة ومتناهية لكن الإرادة لا متناهية.

وكل الفلسفة الديكارتية تفترض إرادة لا متناهية والذي يثبت لنا حريتها شعور داخلي حي ، فخطوات الفيلسوف الأولى وقراره الحازم والثابت بألا يمنح تصديقه لغير البداهة العقلية والشك المنهجي وأن الحكم على أي ذ موضوع بخضوعه لملكة الفهم يؤدي إلى الخير الأعظم المنظور من قبل العقل الطبيعي وهذا الخير الأعظم هو معرفة الحقيقة بعللها الأولى أي (الحكمة أوالفلسفة )، ويعتبر ديكارت أن كل قيمة إنسانية لا تكمن في تفوق العقل وإنما فقط في الإرادة وفي الحزم الذي تتخذ فيه الإرادة قراراتها بصدد كل ما يتبدى للعقل بأنه الأفضل وحرية الاختيار لكل إنسان لا        

ويرى أن الخير الأعظم هو معرفة الحقيقة والفضيلة الوحيدة هي التصميم الحازم والثابت على اتباع إرادتنا لنور العقل، الذي يضيء عتمة وإبهام الواقع ويرى أن جذر أخطائنا ينجم عن عدم مطابقة أفكارنا للواقع.

 

الإرادة الحرة عند كانت وسلطة الواجب (1724-1804)

يسمي كانت الإرادة الحرة (بالإرادة العالِمة)  التي تكمن في إرادة المرء القيام بواجبه وإتمامه، فالعقل هو الذي يأمر الإنسان للقيام بأفعاله وسلوكه وبمقتضى العقل يكون الإنسان إنساناً، واحترام العقل هو احترام الانسانية في الفرد وفي الآخرين كغاية وليس مجرد وسيلة.

إن الإرادة الإنسانية علَة حرة، لأن الواجب يستوجب بأن يتعيَن بباعث عقلاني صرف منعتق من كل بواعث الحساسية، من هنا يمكن استنتاج المبدأ العام للقانون

إفعل بحيث يمكن للاستعمال الحر لإرادتك أن يتواجد مع حرية كل فرد طبقاً لقانون عام “

وهذا المبدأ يتضمن الإكراه الخارجي الذي يتعين على الدولة لسان حال القانون ان تمارسه تجاه الأفراد وحق مقاومة الفرد ضد الدولة وحق الملكية الذي يعطي كل فرد دائرة ممارسة حريته.

الإرادة الحرة عند جون لوك (1632-1704)

يؤكد جون لوك أن الإنسان في العصور القديمة عاش بدون ملوك وحكومات وفق قانون الطبيعة، وقانون الطبيعة هذا قد منح الإنسان حقوقاً

 ثلاثة هي:حق الحياة وحق الحرية وحق الملكيةوبما أنه لم يكن هناك سلطة لتنفيذ قانون الطبيعة اختلف الناس في تفسيره وتوصلوا فيما بينهم إلى اتفاقية فبدلاً من أن يدافع كل إنسان عن حقوقه الخاصة فإنهم جميعاً يشكلون مجتمعاً والمجتمع بكامله يجب أن يحكمه سلطة للدفاع عن الحقوق الطبيعية لكل شخص عضو فيه وهذا المجتمع هو الدولة والاتفاقية تسمى (العقد الاجتماعي) ونظريته لا تعني أن الناس قد تنازلوا عن جميع حقوقهم للمجتمع الذي يعيشون فيه يقول لوك:

 “إن جميع الحكومات قد أقامها الناس، ومن الممكن القضاء عليها عندما تمتنع عن القيام بعملها الأصلي وهو الدفاع عن الحقوق الطبيعية للناس”

وهو لا يعترف بنظرية الحق الإلهي التي تعتبر أن الملك قد اختير من قبل الله وهو ممثّله على الأرض، والثورة ضده ليست خطيئة، ومن وجهة نظره أن الإرادة العامة التي تتجسد في العقد الاجتماعي تهدف إلى تشكيل دولة، لا تتعارض مع الإرادات الشخصية لأنها تصبح جزءاً من الإرادات العامة الأكبر التي تحمى مصالح الناس والرفاه العام وهذه الإرادة تحكم الدورة

 

الإرادة الحرة عند مونتسكيو(1689-1755) وضرورة  فصل السلطات

اهتم مونتسكيو بالقوانين الوضعية وكاد ان يتنكّر لكل بحث في الحق الطبيعي وأصل المجتمع وبدأ بهذه العبارات المشهورة: القوانين بأوسع المعاني هي العلاقات الضرورية الناشئة من طبيعة الأشياء. ويعتبر:

“إن الإنسان نفسه حرً بصفته موجوداً عاقلاً ينتهك القوانين التي أمر بها الله ويغير باستمرار القوانين التي أقرها هو بنفسه”

ولا يجوز أن نفهم ضرورة العلاقات التي توحد مختلف أجناس القوانين في مجتمع من المجتمعات على أنها محتومة مستقلة، والامتثال للقوانين التي شرعها العقد لا تتعارض مع حرية الفرد ما دام العقد الاجتماعي تجسيدا لحرية الافراد.

والحرية عند مونتسكيو هي الحق في فعل كل ما تبيحه القوانين وهذه القوانين تختلف بالنسبة لكل شعب، ويجب أن تكون القوانين موافقة للحد الأقصى للشعب الذي سنّت من أجله والأولوية الدستورية التي ينتج عنها حد أقصى من الحرية ويكون هناك حد أدنى من الحرية حينما تتصرف السلطات العامة بطريقة تعسفية وبلا ضابط فمن اللازم أن تحد كل سلطة من هذه السلطات وأن تراقب من قبل قوة توازنها وعلى هذا الأساس فإن الحرية السياسية ستتحقق حينما تقوم السلطات المستقلة أتم الاستقلال، إحداها عن الأخرى بممانعة بعضها بعضاً.

السلطات الثلاث التي تتألف منها الدولة هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وإذا ارتهنت هذه السلطات بإرادة واحدة سواءً كانت إرادة فرد واحد أم إرادة هيئة من النبلاء أم إرادة شعب فإن كل الحرية تتلاشى وتزول.

الإرادة الحرة عند روسّو(1712-1778)

تتجسد الإرادة الحرة عند روسو بالعقد الاجتماعي المتمثل بالإرادة العامة التي تعلو على كل الإرادات الفردية بالامتثال والخضوع للإرادة الجماعية التي تحقق العدل والمساواة وتضمن الحقوق الطبيعية للأفراد والعقد الاجتماعي يستولد الدولة من توافق الإرادات، وفي العقد الاجتماعي تعزف الإرادة الفردية عن ذاتها، وتزول العوائق التي تتسبب فيها الإرادة الجزئية، إنه يخلق الجسم الاجتماعي ويعطيه أناه.

إن الإنسان، حسب روسو، خيّر بطبيعته وإن حالة الطبيعة كانت تتسم بالمساواة والحرية ولا تعرف التطاحن والصراعات والخوف غير أن حب التملك والأنانية والشر انبثقوا بعد فترة من الزمن مما أدى إلى التفكير في خلق مجتمع مدني للابتعاد عن الشرور بمقتضى عقد اجتماعي يتنازل فيه الأفراد عن جزء من حقوقهم وعن المساواة الطبيعية فيما بينهم لمصلحة الجماعة بهدف إنشاء السلطة السياسية المشتركة وتأسيس الإرادة العامة على أن يحصلوا بعد ذلك على المساواة القانونية بدلاً من المساواة الطبيعية.
 وهذه النظرية تهدف إلى الدفاع عن إرادة الإنسان ضد القهر والعنف والاضطهاد وليس ضد القانون الطبيعي، والإرادة الإنسانية لا يمكن أن تكون ضد الأخلاق الطبيعية ولا يمكن ان تتعارض مع الخير الخاص للإرادة الفردية.

وبذلك انبثقت الإرادة العامة التي هي حاكمة، والأفراد لم يفقدوا حريتهم بذلك بل استعاضوا عن الحرية الطبيعية بالحرية المدنية والشخص الحاكم الذي يسيطر على إدارة شؤون المجتمع هو ممثل للإرادة العامة ويكون طرفي العقد الحاكم المنبثق عن الإرادة العامة من جهة وأفراد الشعب من جهة أخرى.

في مادة (القانون الطبيعي) من الموسوعة وهي المادة التي نقدها روسّو، وجد أن فكرة الإرادة العامة التي هي إرادة كل فرد، هي فعلٌ محض للعقل، والإرادة العامة هي دوماً خيّرة تتبع دوماً المصلحة المشتركة فهي إذاً دوماً مستقيمة والبشر يمارسون دورهم بصفتهم مشرّعين كمجموع، وبصفتهم رعايا كأفراد، وذلك هو جوهر فكرة الديمقراطية

روسو لا يعزو إلى الشعب، ككثرة عشوائية،  إمكانية سنّ قانون صالح  ( فهذا يمكن أن يقوم به رجل فذّ يكون أشبه بترجمان الإرادة في تحرير القوانين التي يتعين عليه أن يعرضها على الشعب ويأخذ رأيه فيها، واتحاد استنارة المشرع الفذ وإرادة الشعب المستقيمة لا يكون ابداً كافياً بدون إرادة الحكومة الديمقراطية التي لا يقوم لها وجود إلا لأن الشعب هو الذي يؤسسها ).

إن ابتداع روسو لمفهوم الإرادة الحرة ضد الاستبداد الملكي كان له الأثر البالغ في صياغة أفكار الثورة الفرنسية وقد تمخض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن صدور مجموعة من إعلانات روسو، وردت في الدساتير المختلفة ،تؤكد على وجود قانون طبيعي يعلو على القوانين الوضعية ويعتبر حقوق الأفراد الطبيعية قيداً على سلطان المشرعين.

لم تحقق نظريات العقد الاجتماعي أهدافها المبتغاة عندما افترضت أن الأفراد في العقد الاجتماعي انتقلوا من عهد الفطرة إلى عهد المجتمع حيث انتهى إلى سلب حريات وحقوق الأفراد وربطهم بالدولة علماً بأن الفطرة تبدأ بافتراض أن الفرد حرّ بطبيعته ويظل محتفظاً بحريته في الدولة التي تصبح من حق المجتمع ككل لا من حق الفرد الواحد وليس من حق كل فرد على حدة ولكن هل يؤدي هذا المنطق إلى الاستبداد أم إلى الإرادة الحرة

والحق أن نظريات العقد الاجتماعي طرحت للتصدي للحكم المطلق بإظهار قيمة الفرد الحر فهل استطاعت أن تحل إشكالية الإرادة الحرة.

-نقد هيغل لنظريات  العقد الاجتماعي:

لم تحقق نظريات العقد الاجتماعي أهدافها المبتغاة عندما افترضت أن الأفراد في العقد الاجتماعي انتقلوا من عهد الفطرة إلى عهد المجتمع حيث انتهى إلى سلب حريات وحقوق الأفراد وربطهم بالدولة علماً بأن الفطرة تبدأ بافتراض أن الفرد حرّ بطبيعته ويظل محتفظاً بحريته في الدولة التي تصبح من حق المجتمع ككل لا من حق الفرد الواحد وليس من حق كل فرد على حدة ولكن هل يؤدي هذا المنطق إلى الاستبداد أم إلى الإرادة الحرة

الإرادة الحرة عند هيغل:
يعتبر هيغل حلقة الوصل بين الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة وينظر إلى الإرادة العامة كأساس للدولة وبالتالي فهو يقيم بنية الدولة على العقل والعقل يحقق ذاته في حياة المجتمع بوصفه إرادة ويكون الدستور عقلياً إذا عبر عن غاية الإنسان القصوى وهي الحرية، وإن غاية العقل المطلق عند هيغل أن تتحقق الحرية
لقد برهن هيغل على أن حرية الإرادة هي التحديد أو (التعين الذاتي)  حيث تكون الإرادة حرة بمقدار ما تريد وتنشد الكلّي العام، وتتفق أفعالها مع الحق والقانون لأن قانون الحق هو قانونها الخاص إنه كليّتها الخاصة التي أخرجتها من ذاتها وأقامتها في العالم الموضوعي.
 وإني بإطاعتي لهذا القانون فإنني أطيع ذاتي الحقيقية الجوهرية وحدها أما إذا كان فعل الإرادة مضاداً للحق ولا يتفق مع الكلي، ويتفق مع مصالحه الجزئية الأنانية الخاصة فإن الإرادة في هذه الحالة لا تكون حرة، لأن هذه المصالح ليست هي المضمون الذي تنتجه الإرادة الحقيقية التي يتسم طابعها الجوهري بالكلية، والإرادة في هذه الحالة لا تزال ترزح تحت نير العبودية ، وإذا كانت الطبيعة هي التي تحكمنا فهذا يعني أننا نحكم بواسطة العالم الخارجي لا بواسطة أنفسنا.

وتقوم الإرادة الموضوعية على فكرة الإرادة الحرة، فالمؤسسات المختلفة ( الأسرة المجتمع المدني الدولة )  هي منتجات للحرية وبوصفي محكوما للقانون فأنا محكوم بالكلّي الذي أسقطه أنا نفسي على العالم، وبالتالي أنا محكوم عن طريق ذاتي فأنا إذاً حر.

 وهناك بالطبع عبر التاريخ الكثير من القوانين الجائرة ولكن هذه القوانين ليست نتاجاً للكلي، ففي الحكومات الاستبدادية لايصدر القانون الذي تضعه فئة أو طبقة خاصة أو شخص واحد كالحاكم، عن الماهية الكلية للروح أي (للفكر)، بل عن الأهداف الشخصية للأفراد والفئات التي تتعارض صراحةً مع الكلي ومن ثم فأنا حين أطيع مثل هذه القوانين لا أحكم نفسي، لكني أخضع لنير العبودية.

ويذكرنا هيغل أن الدولة ليست مثالية فلا بد لها ان تكون فاسدة او معيبة في هذا الجانب أو ذاك فهي ليست عملاً مثالياً وإنما موجودة على الأرض ويمكن أن تقع في خطأ ويمكن للسلوك السيئ أن يسيء إلى تطويرها ولكن الدولة لا تكون صحيحة إلا بمقدار ما تحقق الفكرة الشاملة (أي الكلي المشترك بين الإرادات)  وليس وحدة الإرادات الفردية وهذا المبدأ عقلي لأنه أساس نشاط العقل غير أن العقل هو أن تنشد الكلّي سواءً في ميدان الفكرأو في ميدان الأخلاق والفن والدين والفلسفة يقول هيغل: “أساس الدولة هو العقل الذي يتحقق بوصفه إرادة حرة.

الإرادة الحرة إذاً تحتاج لكي تولد بوصفها كلية أو جزئية إلى مناخ حر، وحين يدرس هيغل الفكر الموضوعي فإنه يغطي جميع أجزاء الفلسفة التي تسمى عادةً بالأخلاق السياسية كما يشتمل على فلسفة القانون، فكل شيء عنده لا بد أن يستنبط وأن تظهر ضرورته، ويجب أن يظهر بمكانه المناسب في الكل العضوي الذي هو الكون.
أن النشاط الذي تبذله الإرادة في التغلب على التناقض بين الذاتية والموضوعية في تحويل غايتها من المستوى الذاتي إلى المستوى الموضوعي هو الذي يشكل التطور الأساسي لمفهوم الفكرة، ومهما يكن في الأمر فإن هدف الإرادة الحرة هو تجسيد الحق الذي يجسد الوجود  والحق حسب تعريف هيغل هو الحرية بوصفها فكرة وليس الحق شيئاً مقدساً إلا لأنه تجسيد للحرية الواعية بنفسها.

 إن إرادة شعب ما حسب هيغل هي المسؤولة عن استعباده لذلك فإن خطأ العبودية لا يقع على عاتق المستعبدين والقاهرين ولكنه يقع على عاتق العبيد والمقهورين أنفسهم، وهذه دعوة صريحة ومفتوحة عند هيغل للحرية والتحرر:

{خلاصك بيدك ومصيرك مرهون باستخدام إرادتك وتحرير نفسك}

الإنسان عند هيغل عقل لا يتعلق تشريعه بشيء، ولا تستطيع أية سلطة أن تقدم له مقياس آخر للعدالة لقد نشأ الناس على حرية الاستقلال، وحرية الإرادة لا يمكن تصورها إلا بوصفها حرية فكر والمعرفة شرط الحرية والإنسان لا يكون حرأً إلا عندما يعرف إمكاناته. ولا يمكننا أن نتغلب على ضياع التاريخ إلا عندما نعقله.

استنتاجات :

1 إن نظريات الحق الإلهي والتسلط والاستبداد ونشر ثقافة الخوف والجهل والإرهاب باسم الدين مصممة للقرون الوسطى وسقطت منذ عصر التنوير ولم تعد تصلح لهذا العصر عصر العلم والتكنولوجيا الذي تربع فيه العقل على عرش العالم واقتصر فيه دور الإيمان على المسائل الروحية والأخلاقية.

2- إن الإرادة الحرة ، كانت وستبقى حلماً إنسانياً لا ينتهي  رغم أن الفلسفات الإنسانية  قطعت أشواطاً على طريق الحرية لكنها ما زالت راهنة وقابلة للتحقق وهذه الإشكالية الإنسانية لن تجد حلاً لها ما لم تلغِ الصراع وتحقق التعايش والتكامل بين المتناقضات

 وإن الفلسفات الحديثة السابقة أوالمعاصرة ومنها الوجودية التي أكدت على  الحرية الفردية المطلقة و إرادة القوة عند نيتشه و الإرادة العامة المطلقة التي كانت على حساب  الإرادة الفردية في الاشتراكية الماركسية و يوتوبيا الشيوعية وزوال الدولة  و  الأنظمة الرأسمالية التي تتبنى الإرادة الحرة الفردية المطلقة، وتقوم على تشييء البشر وتحويلهم إلى وسائل و(يوتوبيا فوكوياما) في كتابه نهاية التاريخ  استطاعوا حل هذا الإشكال بين الفردي والكلي والعام والخاص  والذاتي والموضوعي ولكن الفلسفة المعاصرة (فلسفة العلوم) قدمت لنا يوتوبيا جديدة حلم جديد للوصول إلى الحرية الإنسانية وولادة الإرادة الحرة المعاصرة عن طريق التعايش وتحويل صراع المتناقضات إلى وحدة المتناقضات عبر التكامل من خلال المنهج الجدلي التكاملي فهل يتحول هذا الحلم إلى حقيقة في مستقبل البشرية؟

هذا مرهون بالوعي بالمشترك والإنساني داخل البشر وبنشاط الإرادة ومسؤوليتها لتحويل الحلم إلى حقيقة وتحقيق سعادة الإنسان والإرتقاء به من كونه وسيلة إلى كونه غاية والتاريخ  شاهد على تحويل الأحلام إلى وقائع من خلال نضال إلإنسان ونزوعه اللامتناهي للحرية

3- وحدة الفكر الإنساني هي السمة المميزة للحضارات والثقافات منذ العصور القديمة حيث كان يتم انتشار الثقافة بالتجارة والغزو والتوسع الامبراطوري، وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل ثورة المواصلات والاتصالات والثورة الرقمية، ومحاولات حصر الفكر الإنساني في سجون أدلوجة أو دينية أو عرقية، وهم خالص يغذي نزعات التطرف العرقي والديني والسياسي التي يزخر بها عالم اليوم.

4-إن كل الفلسفات تدعو إلى تغيير الواقع ودفعه إلى الأمام من خلال الإرادة الحرة الواعية والفلسفة لا تكبل الإنسان بالسلاسل، وتحلق به في آفاق من صنع الخيال ومجالات تتخيلها وتختلقها بأوهامها، وهي لا تشد الإنسان إلى الوراء كما يزعم بعض خصومها فهي ليست رجعية تتقوقع على أفكار بالية عفى عليها الزمان وتحتضنها وتقدسها، لكنها تفتح عقلها لتستقبل الهواء النقي وكل المتغيرات التي تحدث في العالم، وهي لا تعيد القديم لقدمه لكنها تستوعبه وتتجاوزه كي تستطيع السير قدماً بالبشرية إلى الأمام إنها لا تحافظ على النظم التقليدية القائمة وتبقي عليها ، الفلسفة العقلانية تدرك الوضع الراهن بالفكر،  وتقيّمه بالعقل وتزيل منه ما يخالف العقل ومقتضيات التقدم الراهن ،  وأخيرا فإن الفلسفة تظل راهنة طالما بقي الإنسان في توقه الدائم إلى الحرية.

5- لا تتطور الفلسفة بنفس السرعة التي تتطور فيها الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية فالتفكير الفلسفي يحتاج لوقت ومساحة من التأمل للوصول لاستخلاصات من التجارب التاريخية المريرة التي تقطعها البشرية في مسيرة ارتقائها وتقدمها  المستمرة في التاريخ، الحافلة بالثورات والحروب والصراعات ، الحكمة لا تظهر إلا كعبرة متأنية بعد ان يكتمل الدمار، تماما كبومة منيرفا التي لا تصرخ إلا في ليل الخرائب ، وأخيرا فإن الفلسفة تظل راهنة طالما بقي الإنسان تواقا إلى الحرية.

خــاتمة

إن أزمة العالم المعاصر أزمة عقل أزمة وعي أزمة ضمير أزمة حريات إنسانية أزمة اغتراب وتشييء للبشر وتحويلهم إلى وسائل أزمة وجود بالمعنى الإنساني للكلمة؟ ما العمل من أجل إعادة الاعتبار للعقل الإنساني ولماهية الإنسان الحقيقية لأن جوهر الإنسان هو الحرية وذلك للوصول إلى إرادة حرة واعية قادرة على صياغة قوانين وضعية من قبل بشر أحرار لتكون هذه القوانين الضامن الوحيد لحرية الإنسان وحقوقه الأساسية الخاصة والعامة ولولادة الإنسان الفرد الحر المعاصر.

و يبقى السؤال الإشكالي مفتوحاً هل العالم قادر على إنتاج عقد اجتماعي معاصر يحقق الاندماج بين الإرادة الفردية والإرادة العامة بين العام والخاص والجزئي والكلي دون التخلي عن الذات الإنسانية؟ خاصةً وأن أي فلسفة أو فكر سياسي مهما تعددت ألوانه أو تسمياته ومهما ارتقى بمضمونه يتنكر لمبادئه وقيمه التي ناضل من أجلها وينقض عليها بعد استلام السلطة؟

انتهى

المصدر: صفحة فيسبوك الحوار الوطني الديمقراطي . مدى .