°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

حوادث 1860 في مذكّرات ديمتري الدبّاس

7 تشرين الثاني 2015

يصدر قريبًا كتاب يضمّ أعمال المؤتمر “1860 تاريخ وذاكرة نزاع” الذي نظمّه المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى وجامعة البلمند والجامعة اليسوعيّة لثلاثة أيّام في بيروت، وشارك فيه نحو أربعين أكاديميًّا وباحثًا ينتمون إلى جامعات ومؤسّسات دراسيّة في لبنان وسوريا وتركيا وفرنسا وسويسرا والولايات المتّحدة الأميركيّة. وتوزّعت الأوراق المقدّمة في المؤتمر على أربعة محاور: الحدث، شهود عيان، الذاكرة والتاريخ، ومقاربة نقديّة.

حوادث 1860 الطائفيّة لـمّا تنتهِ بعد. تستعيدها الذاكرات في كلّ مرّة تذرّ الفتنة الطائفيّة بقرونها منذرةً بأيّام سوداء وعجاف آتية عاجلاً أم آجلاً. حوادث عمرها قرن ونصف وقرن، لكنّ آثارها لا تزال حيّة وماثلة في العقول والأفئدة. لذلك لم يتوانَ المشاركون في المؤتمر عن المقارنة بين ما جرى سنتذاك وما يجري اليوم وما يهيّأ للغد إذا لم يتمّ تدارك الأمور والانتفاع من دروس الماضي الأليمة لتفادي مصير يكاد أن يكون محتومًا.
غاص الباحثون في سبر غور الأسباب والدوافع التي أدّت إلى الحوادث المذكورة في جبل لبنان وفي دمشق. فلم يغفلوا الأبعاد الداخليّة لها والصراعات على النفوذ والنزاعات الطائفيّة المستشرية. غير أنّهم بيّنوا أيضًا الأبعاد الخارجيّة التي فعلت فعلها السلبيّ في إذكاء النزاعات ووصولها إلى حدّ ارتكاب المجازر والمذابح والتهجير. فالسلطنة العثمانيّة بولاتها، والدول الأجنبيّة بقناصلها، أدّتا دورًا كبيرًا في الحضّ على النزاع عبر إغداقهما الوعود بالمساندة والدعم، واستجابها أصحاب الطوائف والمذاهب قارعين أنفار الحرب.
أبرزَ المحاضرون الذين قدّموا أبحاثًا عن شهود العيان، الذين دوّنوا مذكّراتهم عن تلك الحوادث في مخطوطات بعضها لم يُنشر بعد، كيف أنّهم عبّروا عن خيبة الأمل بالدول التي حضّتهم على النزاع ثمّ تخلّت عنهم عندما تبدّلت المصالح والأهواء العليا. ففرنسا وروسيا والسلطنة العليّة وسواها من الدول استغلّت الغرائز الطائفيّة الموجودة أصلاً لدى الجماعات الدينيّة العديدة المنتشرة في بلاد الشام ولبنان لتوريطها في الحوادث ثمّ اللعب بها كما يلعب الهواء بأوراق الشجر.
كما تناول بعض المشاركين النتائج الاقتصاديّة والخسائر الهائلة التي ترتّبت على النزاعات، والتعويضات التي صُرفت للمتضرّرين. ولم يغفل هؤلاء الإشارة إلى الفساد الذي ساد توزيع تلك التعويضات والرشاوى التي دُفعت لبعض الوجهاء ورجال الإكليروس الذين ساهموا في تحصيلها.
يسعنا القول إن الأبحاث التي قُدّمت كانت على مستوى رفيع من العلميّة والدقّة والصراحة الفائقة. والمشاركون لم ينحازوا إلى سوى البحث عن الموضوعيّة والاقتراب قدر الإمكان من الحقائق التاريخيّة، إذ يتعذّر الوصول إلى حقيقة جازمة في التأريخ. وقد صدق الكاتب سليمان تقي الدين حين قال: “التأريخ السياسيّ يسيطر على التأريخ الاجتماعيّ. ولم نجد بعد رواية نقديّة تؤسّس لتجاوز ذاكرة الحروب”.
هذا المؤتمر بكلّ ما دار فيه من أفكار ونقاشات مهمّ جدًّا. فالسوريّون واللبنانيّون، مسلمون ومسيحيّون، الذين يمرّون اليوم في فترة عصيبة تتحدّد فيها مصائرهم ينبغي لهم اسخلاص العبر والدروس ممّا جرى في بلادهم العام 1860 وسواه من أعوام المحن والفتن كي لا يسقطوا مجدّدًا في الفخّ الذي سقط فيه أجدادهم.
وقد اخترنا لكم من الكتاب هذا البحث “حوادث 1860 في مذكّرات ديمتري الدبّاس” للأب جورج مسّوح.
* * *

وُلد ديمتري بن يوسف بن جرجس الدبّاس العام 1837 “بدمشق الشام في حارة بولاد في باب توما”. وتوفّي العام 1912. دوّن ذكرياته (تاريخ حياته) في مخطوط يعود إلى 22 آب 1911 في منطقة ظهور مرحاتا الشوير، في لبنان. يتضمّن هذا المخطوط الذي حصلنا على نسخة منه من السيّد أنطوان الدبّاس، بالإضافة إلى رحلات ديمتري الدبّاس وتنقّلاته وتجارته وأعماله، سردًا لبعض ما عاينه وعاناه في محنة 1860 التي عصفت بدمشق، ويصف هروبه مع الكثيرين من دمشق إلى بيروت. فيقول في بدء كلامه على هذه الفترة: “وهذه السنة (1860) سنة الفاجعة العظيمة التي حدثت كما هو معلوم في تواريخها عند العموم، مذابح بدأت بجبل لبنان حتّى وصلت إلى دمشق. وهذه مضت علينا كما دار حينها حرفيًّا، بقدر ما نفتكر به بتلك الأهوال العظيمة التي مضت علينا، والعجائب من الله التي سلّمتنا كما يلي”.
يروي الدبّاس أنّ صلحًا عُقد، إثر حرب القرم، “على جملة شروط منها أخذ عسكر من المسيحيّين. وأرادت الدولة أن تلغي الشروط، فأرسلت تطلب بدل العسكريّة من جميع ولايتها. فأجاب جميع بلادها بأنّهم يدفعون متى تدفع الشام. فأرسلت حالاً أحمد باشا سرّعسكر إلى الشام وطلب بدل العسكريّة، فلم تقبل الطوائف أن تدفع حتّى تدفع طائفة الروم الأرثوذكس قبلها. وهذه رفضت أن تدفع مالاً بل عسكرًا بالتسوية. وكانت روسيا تحرّضهم على هذا الطلب بألاّ يدفعوا بدلاً، بل رجالاً بحسب الشروط المعطاة في حرب روسيا. فانغشّت الطائفة وافتكرت روسيا تأخذ بناصرها. فتنازل أحمد باشا عن طلبه من مئة ألف غرش لحدّ عشرة آلاف غرش، ولم تقبل الطائفة، وكانت تقول: لا يوجد عندنا سوى رجال”.
“امتلأ السرّعسكر غيظًا وحبس من طائفة الروم أربعين نفرًا مع اثنين من الكهنة… وفي الليل حضر عندهم وأخذ يتلطّف بهم ويطيّب خاطرهم وفكّ قيودهم. أمّا المرحوم نقولا صرّوف فقال له: “هذا الجنزير لا أفكّه إلاّ بروسيا”. فامتلأ أحمد باشا غيظًا وكمن له الشرّ، وكتب إلى البطريركيّة الأرثوذكسيّة يحرّضها على أن تعظ شعبها”.
كان البطريرك إيروثيوس غائبًا في الآستانة، وكان وكيلاه الشمّاسين ساروفيم ويوسف. فنادى الوكيلان الشعب وتَلَوَا عليهم إسطاطيكون (منشور كنسيّ) يطالبهم بأن يخضعوا للدولة ويدفعوا المال بدل العسكريّة. فهاج الشعب على الوكيلين ورفضوا طلبهما. فكتب الشمّاسان ساروفيم ويوسف “تحريرًا” أرسلاه إلى أحمد باشا يشتكون همجيّة الشعب ويطلبون الأمانة لأنفسهم. أخذ أحمد باشا هذا التحرير وأرسله إلى الباب العالي فأتاه الجواب بأن يكسر أنف الشعب.
بدأت الحوادث الطائفيّة في ربيع 1860 في عمّيق، وفي 29 أيّار انتقلت إلى المتن. وفي 18 حزيران وصلت إلى زحلة، وفي 21 حزيران حلّت في دير القمر وحاصبيّا وراشيّا. وها هي تباشير وصولها إلى دمشق.
يتابع الدبّاس روايته فيقول: “لـمّا وصلت أخبار زحلة ورجال دير القمر وأهالي حاصبيّا وراشيّا، هاجت البلد والمسلمون ألوف ألوف بالصلاة، في يوم نهار الجمعة، أحضر طابور عسكر وأوقفه على أبواب الجامع فتعجّب المسلمون وقالوا: “ما هذا؟” فأجابهم أنّ النصارى مرادها تكبسهم بالجامع. فهاج المسلمون، ولأنّهم لم يعتادوا سفك الدماء، صارت أولادهم تعمل صلبان من طباشير بالأرض، وصاروا يظهرون الإذلال للمسيحيّين، حتّى سُمع بأنّ زحلة راحت. عند ذلك زاد تعصّب المسلمين وزادوا مظاهرتهم بكلام جافٍ، وتكدّر المسيحيّون”.
على إثر ذلك، نزل المرحوم حنّا فريج، أحد أعيان المسيحيّين، إلى السرايا وحكى السرّ عسكر عمّا يحصل في البلد (27 حزيران 1860). فأرسل السرّعسكر حالاً عساكر وكمش من المسلمين شبّانًا من ذوي العيال الشريفة المعتبرين، ووضع لهم جنازير وأخذ يزيّحهم في البلد حتّى وصلوا إلى باب البريد. وعند وصولهم نظرتهم أهاليهم الأفنديّة فهجموا على العسكر وضربوهم وخلّصوا أولادهم. وسُمع هذا الخبر في البلد، فقام الأهالي في هيجان عظيم.
ولـمّا وصل الخبر إلى البلدات والضيع المحيطة بالمدينة، نزل أهاليها برسم النهب. وإذ اختبأ الدبّاس في الخان رأى “مئات من الألوف تتراكض بالسلاح والعصي. وكنّا قدر خمسة أنفار، وفضلنا للمغرب. وكنّا نبكي دمًا وليس لنا مناصّ، وخائفين أن يهجموا علينا إلى الخان ويقتلونا”.
عند حلول المساء، لجأ الدبّاس إلى بيت عبدالله أفندي الشربجيّ، آغة الحارة. “فدخلت ووجدت ألوف العالم المسيحيّين نساءً ورجالاً مزدحمين كالجبن”. ويتابع الدبّاس روايته فيقول: “وفي نصف الليل أتى الرجال الموظّفين للمحافظة على باب توما وقالوا لعبدالله أفندي: “إنّ الأغراب تأتي وتنهب الحارات ونحن نقوم بوظائفنا، فاسمح لنا بالذهاب للنهب”. فأشار بيده “اذهبوا إنّما لغير حارات باب توما”، فذهبوا. لكنّ الشربجيّ، حين كثر الازدحام في بيته، أخذ يسبّ ويشتم ويقول “لقد خربتم بيتي”. فأحضر رجالاً من وجوه البلد المعتبرين وأخذ يسلّمهم ذوات النصارى من أفنديّة وقسوس وإفرنج، وأوصاهم بأن يوصلوهم لبيت العماديّ، فعرفتُ أنّ من بعده يفتكون بالباقين. فهربت مع الذوات. وعند الصباح سلّموا الذوات كما فعل الشربجيّ إلى ذوات البلدة في الإسلام للمحافظة عليهم فأخذوهم إلى بيت الشيخ عبدالله الحلبيّ”.
يقول الدبّاس: “يوم الأربعاء (29 حزيران) طلع منادي في البلد أمان واطمئنان بدون معارضة. بعد الظهر، سلّم عبدالله أفندي العماديّ الوجوه المنظورين وأرسلهم لبيت الشيخ عبدالله الحلبيّ. فمشيت معهم وكان لم يزل ابن أختي ماسكًا بيدي حتّى دخلنا البيت، فوجدنا العالم هناك بهيجان عظيم. وبعد انتقالنا من بيت إلى آخر، كنّا نسمع أنّ جانبًا عظيمًا من المشهورين قُتل. وعند المساء أحضروا لنا خبزًا وأخذوا يرمون لكلّ مسيحيّ رغيفًا أو نصف رغيف، وكانت أعيننا دمًا”.
في الغد (الخميس 30 حزيران)، “أرسل السرّعسكر واستدعى المشايخ إلى السرايا وطلب منهم أن يدفعوا له المسيحيّين المختبئين عندهم ليعدمهم، وهم يمانعونه بذلك. وطلبوا منه أخيرًا الأمر السامي الذي أُحضر له فلم يجدوا فقالوا له: “نحن لا نسلّم بهدر دم في بيوتنا”. فقال لهم: “أرسلوا المسيحيّين الذين في بيوتكم إلى القلعة”. وهكذا حصل.
يتابع الدبّاس روايته، فيقول: “من بعد اجتماع جميع مشايخ البلدة وأغواتها وأعيانها قدر عشر ساعات عند أحمد باشا، ولـمّا كانوا لا يريدون أن يسفكوا دم المسيحيّين في بيوتهم، حضر الخبر من عند الشيخ عبدالله الحلبيّ بأنّه صدر الأمر بأنّ كلّ من عنده نصارى يرسلهم إلى القلعة. فسحبونا على الطريق فوجدنا عسكرًا قدر مائتين بسلاحهم صفّين، فأخلوا المسيحيّين بالوسط. وبقيت أنا مختبئًا في بيت الشيخ عبدالله الحلبيّ، خوفًا من القلعة كيلا يصير بنا نظير دير القمر وحاصبيّا وراشيّا”، حيث حصلت مجازر ذهب ضحيّتها المسيحيّون.
غير أنّ الدبّاس تراجع عن موقفه وذهب إلى القلعة بناءً على نصيحة أسداها له الحاجّ بكري باقر الذي “كان يعامل المرحوم والدي، يشتغل له قماش ويرسله إلى حلب. حلف يمينًا ومسك ذقنه وقال: لا تخَف، لن يصير عليكم خوف في القلعة”. فكان آخر الخارجين في القافلة.
يشبّه الدبّاس أحوال المسيحيّين اللاجئين إلى القلعة بيوم القيامة، فيقول: “وصلنا إلى القلعة ودخلنا فوجدنا المسيحيّين آلاف آلاف، فسلّمنا أنفسنا إلى الله، وقلنا: إنّا بسعر هذا العالم. وكانت العالم نظير يوم الدينونة، نساء عمّال تخلّف، ونساء تصرخ من الرعب، ورجال يصرخون من أوجاعهم، ومنهم مضروب… آه من تلك المناظر التي تُبكي الصخر”.
يمتدح الدبّاس هاشم آغا، باشا القلعة، ويقول عنه: “كان يلاطف العالم بوجه بشوش ويطيّب خاطرهم ويقوّيهم ويقدّم لهم بعض احتياجاتهم. إنّه أب حنون ويقول للعالم: لا تخافوا. وكان عمره سبعين أو ثمانين سنة، وهذا كان يقوّي الأمم ويشجّعها… وهذا الرجل كان أصله مسيحيًّا من المجر، والله أوجده لخلاص الموجودين بالقلعة”.
يتابع الدبّاس روايته فيقول: “أرسل أحمد باشا إلى هاشم آغا بأنّه بعد ثلاث ساعات يحضر الدروز من بوّابة الميدان لعندكم، تستلم المسيحيّين كي تحميهم فجاوبه هاشم آغا على الفور قائلاً له: كما أنّك أنت سرّعسكر تحكم على العسكر، وأنا مأمور حافظي على القلعة التي هي عرض السلطان، شخص واحد لا أسلّم ونقطة دم ما أُتلف… وحالاً سكّر أبواب القلعة وأرخى سلاسل الحديد وحفظ الأبواب، وطلع لظهور القلعة ودار المدافع على البلد، وأوقف الطوبّجيّة (المدفعجيّة) للضرب متّى أمرهم”. ويختم حديثه عن هاشم آغا بهذه العبارة: “هذه أوّل عجيبة أوجدها الله لخلاصنا”.
العجيبة الثانية حدثت، وفق الدبّاس، عندما حضر الدروز بالوقت الذي عيّنه لهم أحمد باشا. فطلع أهالي الميدان وحاربوهم وكسروهم وأرجعوهم. وكما فعل أهالي الميدان كذلك صنع آغواتها نظير بيت النوريّ وغيرهم، جمعوا أهالي الميدان الذين هم سفهاء البلد ووعظوهم: “يا أولادنا، برضانا عليكم، لا يحرّك أحد ساكنًا مطلقًا. احموا النصارى في الميدان، إذ سيعود هذا الأمر الحاصل على الذي فعله. فإن كانت هذه الثورة بأمر شاهاني عموميّة فأنتم أحقّ بأهل حارتكم، وإن كانت افتراء فسوف تنظرون ماذا يحصل من ملوك المسيحيّين، نكون نحن حفظنا نصارتنا وحامينا عن صوالحنا وديننا ودنيانا”. فأجاب جميع الأهالي: خاضعين تحت أوامركم. هكذا ظهرت العجيبة الثانية”.
أمّا العجيبة الثالثة، وفق الدبّاس، فالأمير عبد القادر، باشا المغاربة، الذي جمع عنده ثلاثة آلاف عسكريّ مغاربة وحمّلهم السلاح، “وصاروا يطوفون البلد بحسب أمره، وكلّما وجدوا مسيحيّين كانوا يحضرونهم لبيت الأمير عبد القادر”.
يعتبر الدبّاس أنّ نجاة المسيحيّين الدمشقيّين تعود إلى ثلاث وسائط: “أوّلهم هاشم آغا، وثانيهم آغوات الميدان، وثالثهم الأمير عبد القادر. وهؤلاء يشبهون الثلاثة الملائكة الذين أضافوا إبراهيم، برسم الثالوث القدّوس: الآب والابن والروح القدس”.
بعد نزوح المسيحيّين من دمشق إلى بيروت “حضرت كلّ طائفة تأخذ طائفتها”. ويتابع الدبّاس رواية الرحيل، فيقول: “وصلنا إلى بيروت وقصدنا أن نسافر إلى أثينا، فرحنا قنصلاتو اليونان كتبنا أسماء ثلاثة عشر شابًّا، إنّما حصل حجز في البحر وما عادوا يخلّوا أحد يسافر، وهذا بمخابرة الأوروبيّين حتّى لا تفضى سوريا من المسيحيّين”.
في الختام يعود الدبّاس إلى رواية ما جرى بعد انتهاء الحروب الطائفيّة (1860) واستتباب السلام، فيقول: “المهاجرون كثيرون، وصار الخوف عظيمًا في الشام على المسلمين حيث فؤاد باشا أعدم مائتي واحد من آغوات البلد، ونيشن أحمد باشا الذي سبّب الثورة مع مائتي عسكريّ. فوقع الرعب في قلوب المسلمين… فصارت الحكومة تجمعهم وتحضر المسيحيّين فيأخذون الذي يخصّهم والذي لا يخصّهم. ومن جملتهم وجدوا باسمنا عشر صايات قماش عرفوه من دمغتنا عليه في اسمنا. فأحضروهم لنا إلى بيروت”.
أمّا التعويضات الماليّة فسادها الكثير من الفساد. في هذا الصدد يقول الدبّاس: “وفُتحت مجالس لتعويض المسلوبات والمحروقات، وعُيّنت كمسيونات… فحصّلنا أربعين ألف غرش لمحروقات وتعويضات لنا، لم يبلغ ربع مطاليبنا وكثيرون الذين أخذوا مئات الألوف وليس لديهم شيء. ملخّص الأمر كانت أكثر النقود تُدفع براطيل إلى أعضاء الكمسيونات وهذه الأموال كانت تُعطى شراكي. وصارت تباع بستّين أو سبعين يأخذوها أغنياء بيروت فيدفعوا منها للحكومة ويقبضوها، حتّى صارت مصائب قوم عند قوم فوائد”.

خلاصات
بعد قراءتنا ذكريات ديمتري بن يوسف الدبّاس يمكننا استخلاص العِبر الآتية:
1- يبدو جليًّا أنّ الروس تخلّوا عن حماية الأرثوذكس، أو أنّهم لم يقدروا على أن يوفوا بعهودهم تجاه الطائفة الأرثوذكسيّة، وذلك بعدما دفعوا بالأرثوذكس إلى مواقف تؤدّي إلى تأجيج الصراع، وتاليًا، تحميل المسيحيّين مسؤوليّة بدء المشكلات. من هنا، تؤدّي التدخّلات الأجنبيّة دورًا مهمًّا في تزكية النزاعات والحروب الأهليّة، من دون أن ننفي على الإطلاق مسؤوليّة أبناء البلد الواحد عن مساهمتهم في دفع الأمور نحو مزيد من الحقد والكراهية.
2- على رغم بُعد ديمتري الدبّاس عن مواقع القرار، وعدم تأثيره في مجرى الحوادث التي جرت في عصره، غير أنّ ذكرياته، كشاهد عيان، مهمّة جدًّا، لأنّها شهادة حيّة تنقل الوقائع كما جرت على الأرض، وتمزج بين الجماعيّ والشخصيّ.
3- على رغم وجود ذوي المصالح وراء إيقاد الفتنة الطائفيّة لدى المسلمين، يقدّم الدبّاس نماذج ثلاثة عن مسلمين (هاشم آغا، آغوات حارة الميدان، الأمير عبد القادر الجزائريّ) وقفوا سدًّا ضدّ ارتكاب المجازر في حقّ المسيحيّين. ولا يتورّع الدبّاس عن وصف هذه النماذج بالعجائب التي أوجدها الله لخلاص المسيحيّين.
4- نرى عبر هذه الذكريات أنّ الفساد عامل من عوامل اندلاع الحروب الأهليّة، كما أنّه عامل من عوامل استمرارها وديمومتها، لكنّه أيضًا يستمرّ عبر “الكمسيونات” والتعويضات غير المنصفة بعد استتبابها.

المصدر :http://newspaper.annahar.com