ديمتري أفييرينوس
أجل، إننا نحب السلام، لكننا لا نُقدِم على تلقي الجِراح من أجله، كما نفعل من أجل الحرب.
جون أندرو هولمز
الحكمة بجرعات صغيرة
إذا لم تكن في سلام مع نفسك لا يمكنك أن تسهم في حركة السلام.
تيخ نهات هَنْه
تفوَّه بهذه العبارة ذات يوم الشاعرُ والناشطُ ومعلِّمُ الزِنْ الفييتنامي الذي رشَّحه مارتن لوثر كنغ لنيل جائزة نوبل للسلام. وهي تنطوي، برأينا، على أهم ما ينبغي على حركة السلام أن تتَّسم به؛ لكن تجاهلها، مع ذلك، من أسهل ما يكون. إنها تعني، في جملة ما تعني، أن نوعية الوعي الفردي تعيِّن نوعية الوعي الجمعي وتشرِطُها. وهذا الإدراك، على ما يبدو، ينبغي أن يتكامل تمام التكامُل مع ضدِّه المكمِّل، أي إدراك أن طبيعة الوعي الجمعي أيضاً تعيِّن طبيعة الوعي الفردي وتشرِطُها. فهذان – الوعي الفردي والوعي الجمعي – سمتان من سمات كلٍّ أعظم يعمل على نحو غير مجزَّأ: “أنتم العالم،” يقول كريشنامورتي.
بيد أن ما يندرج نظرياً تحت باب المفارقة المنطقية يتحول عملياً إلى نزاع دموي! إن رؤية هذه السيرورة الديناميِّة كشيء ستاتيٍّ، سكوني، ورؤية الأفراد المشاركين فيها كأشخاص مفصولين – بعضهم عن بعض وعن المنظومة الأكبر برمَّتها على حدٍّ سواء – هو من النزاع في الأساس. فإن مشكلات لا تقبل الحل – من نحو الحرية، والمسؤولية، والمطالبة بالحق، والمساواة، والسلام، والعدالة – سرعان ما تطفو على السطح وتبدو غير قابلة للحل لأنها حصراً لا تُرى إلا من منظور واحد متعنِّت ومتجذِّر في وعي جمعي منغلق على نفسه.
غير أن رؤية الوضع من منظور مختلف من شأنها أن تذيب خاصيَّته الثنوية وتستبدل بها بصيرة جديدة قوامها التكامل والوحدة: فما كان يبدو منفصلاً وضدِّياً يتكشف عن كونه سيرورة كلِّية مترابطة العناصر، تذوب فيها الأضداد لتصير مكمِّلات بعضها لبعض.
إن السيرورة التي يتحقق من خلالها هذا المنظور المختلف وثيقة الصلة بالمبادئ الأساسية للطرق التأملية العديدة التي رسَّخها أفراد ينتمون إلى الثقافات التي شهدها العالم كافة. لا تخلو ثقافةٌ إنسانية من التأمل لأنه، كما نعرِّف به هنا، نسق وجود أصلي مركوز في الكائن الإنساني. ومع أن بعض الثقافات أوْلَته من التقدير والرفعة ما لم تُوْلِه ثقافات أخرى، تبقى مبادئه الأساسية وتجلِّياته عالمية شاملة. التأمل، على حدِّ تعريفنا به، تبصُّر بالترابط، بالواحدية المتناغمة مع نظام أكثر إحاطة وشمولية. وهذه واحدية ليس من شأنها أن تمحو التنوع (كما تفعل الثقافة التي تحاول أن تسود العالم اليوم)، بل هي التنوع بذاته تتخلَّله الوحدة.[1] من هنا لا يوجد في هذا العالم مقترَب تأملي معيَّن يلغي سواه، بل لانهاية من المقترَبات التأملية التي تصبُّ في الخبرة ذاتها؛ فالتأمل لا يتكئ على الأشكال أو النشاطات الخارجية، بل يرجع بدلاً من ذلك إلى الخصائص الداخلية للبصيرة.
من هذه البصيرة ينبثق المنظور “المختلف” المشار إليه آنفاً – وهو منظور يرى ويختبر كمال الكلِّية. كل “أنيَّة”، بوصفها كياناً منفصلاً، تُرى، من هذا المنظور، كتعبير فريد عن منظومة أكبر وكجزء منها. من هذا المنظور أيضاً، تُرى الكائنات جميعاً متساوية من حيث الماهية والقيمة. فكمال الكلِّ يتطلب وجود أعضائه كلِّهم، كما هم، متحوِّلين أبداً؛ وهذا الكل، كذلك، ليس شيئاً ستاتياً، خاملاً، بل هو سيرورة عديدة الأبعاد. ومن هذا المنظور “الجديد” أيضاً وأيضاً، تصير الأضداد أوجهاً متكاملة، تنفح، معاً، شكلاً وطاقة ديناميَّين للكائن الكلِّي الأعظم. فما بدا من قبلُ مظاهر منفصلة، وبالتالي نزاعية، يُرى من بعدُ كأوجُهٍ وثيقة التواصل، متواكلة ومتشارطة، لسيرورة واحدة لا يُستثنى منها شيء.
لعل كتاب التحولات (يي تشنغ) الصيني أن يزوِّدنا، بهذا الصدد، باستبار ثاقب للمبادئ المبطِّنة لهذه النقلة في الإدراك، ولأهمِّيتها من أجل القضايا العملية التي تواجه حركة السلام – عالمياً ومحلياً على حدٍّ سواء. إذ لقد كان للـيي تشنغ بالطبع تأثير عميق على الثقافة الصينية، وقد امتد هذا التأثير ليشمل، على نحو أقل مباشرة، ثقافات أخرى عديدة.[2]
تقوم النظرة إلى العالم التي يعبِّر عنها ويبسطها الـيي تشنغ على بصيرة عميقة بالطبيعة المتحوِّلة أبداً للظواهر: ما من شيء ستاتي في الوجود؛ كل الكيانات الفردية في الظاهر تنبثق من سيرورة ديناميَّة تفاعلية أشبه بالشبكة وترجع إليها. من هنا فإن الاعتقاد بوجود فرديات “واجبة الوجود بذاتها” اعتقاد باطل، وهو ناجم عن الفصل التعسفي الزائف للـ”ذات” عن الـ”عالم”. كل المظاهر، بما فيها الذات والعالم، تصدر عن قوَّتين طبيعيتين أساسيتين، متحوِّلتين أبداً، متقلِّبتين ومتضافرتين: الـيَنْغ والـيِنْ. غير أن اليَنْغ واليِنْ ليسا منفصلين، بل هما وجهان لكلٍّ أعظم يفعل ويتبدَّى عبر تفاعلهما المتناغم. الينغ هو المبدأ الفاعل، المنير، الصلب، الجاف، والسماوي التوجُّه؛ والين هو المبدأ المنفعل، المظلم، الطيِّع، الرطب، والأرضي التوجُّه. وعبر تمازجهما المتآلف، بوصفهما قوتين متساويتين ومتكاملتين، يتجلَّى العالم ويقوم ويتوارى تباعاً.
هناك أيضاً، على ما يبدو، تقاطُب مقايِس في صميم الكائنات الإنسانية. وإن واحداً من التجلِّيات العديدة لهذا التقاطُب في بنية الإنسان الفسيولوجية هو ما بيَّنه البحث في الدماغ، في الربع الأخير من القرن العشرين، من اختلافات وظيفية أساسية بين نصفي الكرة المخية الأيسر والأيمن. يجب ألا يغيب عن بالنا أن الدماغ كلٌّ عضوي متماسك، وأن كل محاولة لتحليله من حيث أجزاؤه هي بالضرورة إسراف في التبسيط. ومع ذلك، فإن المقارنة التالية قد تكون دقيقة التمثيل لكيفيَّتي عمل نصفي الكرة المخية المتكاملتين في خطوطهما العريضة: عمل نصف الكرة الأيسر يشدِّد على التحليل، والموضوعية، والصواب، والمحاجَجة، والعَمْد، بينما يشدد النصف الأيمن، بالمقابل، على الحدس، والذاتية، والمشاعر، والخبرات، والعفوية؛ النصف الأيسر ييسِّر العمل المنطقي (= النطقي)، الرياضي، العلمي، الخطِّي، “المذكَّر”، الزمني، والتفسيري، والنصف الأيمن يسمح بالعمل الخيالي، الإيقاعي، الفني، اللاخطِّي، “المؤنث”، المكاني، والتأويلي؛ النصف الأيسر يختص بوضع المقولات، بالفَصْلية، بالنظام التراتبي، وهو بنيوي التوجُّه، قصدي، بينما النصف الأيمن يختص أكثر بالوَصْلية، بالتكامل، بالحركة، بالمساواة، بالتحوُّل، وهو سيروري التوجُّه، مجَّاني.
يتمتع الناس بكلا المقدرتين، لكن الثقافة السائدة اليوم، على ما يبدو، تنزع إلى إنزال ميِّزات الدماغ الأيسر منزلة أرفع من مكمِّلاتها التي يختص بها الدماغ الأيمن. ولعل هذا عائد، نوعاً ما، إلى “التمييز المطلق بين العقل والجسم” الذي قال به ديكارت والذي يشير فيه مصطلح “العقل” إلى خاصيَّتي الدماغ الأيسر الرائستين: الصواب والعَمْد. ولقد انساقت التربية إلى التشديد على تنمية نصف الكرة الأيسر وعزَّزتها، بما أنتج رجحاناً خطيراً لكفة ميزان الخصائص “العلمية” و”المذكَّرة” والانفصالية على كفة الخصائص “الفنية” و”المؤنثة” والاتصالية، سواء في الأفراد أو في الثقافة ككل.
إن ما نحن بأمسِّ الحاجة إليه الآن، على ما يبدو، هو تنمية واعية للملكات الحدسية والاستقبالية والتكاملية التي قُمِعَت أو، في أحسن الأحوال، تُرِكَت للضمور. هذا هو “تحرير المرأة” بالمعنى العميق للكلمة، بصرف النظر عن الجنس أو النمط الجسماني، بما هو سماح بتفتح الخصائص المؤنثة النبيلة عند كل الناس. لكن حصول هذا يتطلب نقلة هائلة في القيم. إذ إن الدماغ الأيسر التحليلي، المنطقي، النهاري لم يقوِّم نصفه الآخر – بقيمه وخصائصه الصوفية، الليلية – حقَّ قيمته. فسيطرته لم تشمل محاولة السيادة على النشاط الذهني الداخلي وحسب، بل طالت أيضاً التجلِّيات الخارجية لخصائص نصف الكرة الأيمن وقيمه، بمن فيها النساء، وأبناء الثقافات غير الصناعية، والطبقات الأقل انتفاعاً من مزايا الثقافات الصناعية، والفنانين، والمتصوِّفة، والحيوانات غير البشرية، والمنظومة الإيكولوجية برمَّتها، في برِّيتها وتنوُّعها المذهلين. ومن عجائب التقادير أنه كلما ازداد هؤلاء معاناة من السيطرة والقمع والعدوان والاستغلال على يد الخاضعين لسيطرة دماغهم الأيسر، ارتفعت قيمتهم كمعلِّمين وقدوات – هذا لأنهم يمثلون في الواقع الإمكانية الوحيدة لإعادة التوازن إلى نصابه. إن “سادة الدماغ الأيسر”، إذا جازت التسمية، إذ يدمرون مكمِّليهم باعتبارهم “الآخر”، يدمرون أنفسهم من حيث لا يدرون.
التأمل، كما عرَّفنا به آنفاً، هو كيفية الوجود الأساسية لنصف الكرة الأيمن، من حيث كونه لامنطقياً، حدسياً، تكاملياً، ولاثنوياً في الأساس. إن ذهناً لا يستطيع أن يعمل بالفعالية نفسها في الكيفيَّتين التحليلية والتأملية لهو ذهن في حرب مع نفسه، سائرٌ، لا محالة، نحو الجنون. فمن موقف السيطرة والتحكُّم الأساسي الذي تتبنَّاه كيفية نصف الكرة الأيسر، ومن الاختلال الداخلي الذي يستتبعه ذلك، تنخلع النزاعات والحروب الخارجية العديدة وتستهلك ممكناتها البشعة حتى النفاد.
إن البصيرة التحليلية التي تتصدَّر الثقافة العالمية السائدة اليوم ملَكةٌ بائسة المحدودية، لكنها، مع ذلك، لا تستطيع أن تدرك طبيعة حدودها. أما البصيرة التأملية فهي مدرِكة لهذه الحدود إدراكاً عميقاً؛ لكنْ بما أن عملها غير منطقي (أي غير منطوق) أساساً، فهي لا تستطيع أن تنقل معرفتها إلى البصيرة التحليلية للدماغ الأيسر بلغة يستطيع هذا أن يفهمها. لذا فهي تفصح من خلال واسطات أخرى، من نحو الفن، والأحلام، والأسطورة، والموسيقى، والرقص، والشعور الحدسي العميق. إن عجز الدماغ الأيسر عن الارتياح إلى كيفيَّات التعبير هذه ربما فيه تعليل لأزمة الثقة بينه وبينها ولنزوعه إما إلى مهاجمتها وإما إلى الاتِّجار بها لتعزيز إحساسه بالتفوق والسيطرة، من حيث هي أمثلة حية على محدوديَّة مقتَرَبه.
وحدها البصيرة الحدسية (المقموعة اليوم) بوسعها أن تعالج هذا الوضع، فردياً واجتماعياً على حدٍّ سواء. فهي، إلى جانب كونها مصدر كل فنٍّ حقيقي (بوصفه فعل كشف)، منبع المحبة والحكمة أيضاً. وهذه الخاصية عبَّر عنها بطرق مختلفة عديدة صوفيون مختلفون عديدون في لحظات إشراقهم التأملي.
بهذا فإن المنظور المولود من البصيرة التأملية يقوم على استبارٍ اختباري مباشر (لا يتَّكئ على وساطة النطق/المنطق) للترابطية بين كافة تجلِّيات الحياة الأم. ومن هذه البصيرة تولد الرحمة والتراحُم وحسٌّ بالتضامن يحيط بكل شيء. وعندما تندغم هذه البصيرة اندغاماً متوازناً، تكاملياً، في البصيرة الصوابية المنطقية (ما يسميه بعضهم “العقل الخطابي” discursive reason) فإن أخلاقاً “سلامية” غنية عضوياً تبدأ بالظهور عفوياً. وإذ يبدأ الجانبان، ضمن الفرد الواحد، يعملان معاً عملاً متناغماً، فيما يمكن أن يُدعى “العلاقة الصحيحة” (التعبير، على ما أذكر، لكريشنامورتي)، فإن الشرخ بينهما يلتئم، ومعه الشرخ بين الفرد والجماعة الأوسع، وبعبارة أسطورية/يونغية، تتم مواجهة “الظل”. وإذ يتم اعتناقه، يتكشف عن كونه جزءاً لا يتجزأ من النفس، لا بل هو النفس في مظهر آخر من مظاهرها.[3]
هكذا فإن الكائنات جميعاً، بما فيها الذات، تُرى تدريجياً كأعضاء مرتبطة في سيرورة كلِّية، وليس كفرديات منفصلة. والمحبة والرحمة والفرح بفرح الآخرين تتصاعد عفوياً كمشاعر متجذِّرة عميقاً في منظور لم يعد محصوراً بالهموم الأنانية. خير الآخرين و”خيري” لا يعودان متضادين؛ فهما في الواقع لا ينفصلان. ومع نمو الأفراد بإدراكهم أن خيرهم خير واحد لا يتجزأ ولا ينفصل عن خير المنظومة الأكبر، يبدأون أيضاً، على ما يبدو، بإدراك أن جماعتهم والجماعات الأخرى متصلة على نحو مماثل. كل الجماعات متساوية من حيث مشروعيَّتُها في الوجود، على أن يعي كلٌّ منها أن “الآخر” أيضاً، بالمقدار نفسه، مظهر مكمِّل له يسهم في بناء الكلِّ الأكبر. بعض الجماعات “ظلٌّ” لبعضها الآخر – ومن هنا عداؤها لها. فإذا اجترأ كل منها على اعتناق الآخر، انطلق مقدار هائل من الطاقة النفسية والاجتماعية من أجل لأم الشروخ وحلِّ النزاعات على مستويات الفرد والجماعة والمنظومة الأكبر، وفق ما يقتضيه العدل والقيم الإنسانية الشاملة.
في هذه السيرورة تصبح الأخلاق أبْيَن وأكثر عفوية، إذا صحَّ التعبير. فالسلوك الأخلاقي هو ببساطة السلوك الطبيعي لدى فرد أو جماعة نمَّت فيها البصيرة التأملية تنمية تامة. عندئذٍ تكون مَنازع نصفي الكرة المخية الأيسر والأيمن كليهما على علاقة يُغْني فيها كل منهما الآخر ويُكامِله، بحيث يصير كلٌّ من السلام في الداخل والسلام في الخارج انعكاساً للآخر.
من هنا فإن تربية تولي تنمية الملكات الحدسية اهتماماً ناضجاً تربيةٌ مصيرية الأهمية من أجل تحقيق الالتئام الداخلي، والرحمة، والسلوك الأخلاقي، و… السلام العالمي. وهي أيضاً مصيرية من أجل تنمية الحكمة. إن تعريف الإبستمولوجي غريغوري بَتِسون بالعقل (المختلف جداً عن تعريف ديكارت له!) يضيء علَّة الأمر. فهو يعرِّف بالعقل كنموذج تعضِّي (= تنظيم) organization لا غنى عنه لكل المنظومات الحية. وبذلك لا يقتصر وجود العقل على أشكال معينة للحياة، بل يتخلل أيضاً المنظومات الإيكولوجية والكون بأسره بوصفه “النموذج الرابط” a pattern which connects (التعبير لبَتِسون) الذي يلحم ما بين الأشياء وينظِّمها.[4]
ويبدو أنه بمقدار ما تربِّي الثقافةُ الناسَ على الاختصاص وعلى تضييق حقل تقصِّيهم ومهارتهم، بمقدار ما يفقد هؤلاء قدرتهم على جعل حياتهم وخبرتهم متَّصلين بالنماذج الأوسع التي ترسو فيها. إن طبيعة التفكير والاستعراف الإنسانيين قائمة على ملَكة ربط ما بين الأفكار في سياق، وبذلك إيجاد القيمة والمعنى (مقابل كومبيوتر لا يوجِد المعنى من خلال الارتباط، بل يعالج المعلومات وحسب). وهذه القدرة على الجمع بين المتآلفات أساسية للفطنة في أية منظومة مترابطة. وإذ يفقد الناس هذه الملَكة عبر الاختصاص الأكاديمي والتشظِّي الاجتماعي المعمَّم (الذي ليس إلا مثالاً واحداً على هذا الفقد)، فإنهم في الواقع يقزِّمون عقلهم ويضيِّقون مجال فطنتهم ويصيرون أغبى.[5] فبدون سيرورة البصيرة الحدسية التي يختص بها نصف الكرة المخية الأيمن والتي تصنع الروابط تصير الفطنة الإنسانية ذكاءً صنعياً.
ينجم الغباء الأخلاقي عن ذلك حتماً. فالحكمة ترخم في ملَكة صنع الروابط على عدة أبعاد. وهي الوجه المكمِّل للرحمة التي لا توضَع موضع التطبيق إلا بالتراحُم الذي هو فن إيجاد الروابط وصونها بامتياز. ومثلما تسير الحكمة والتراحُم والسلام يداً بيد، كذلك يسير الغباء والأنانية والاستغلال والعدوان. ففي جهلهم الأعمى بالترابط الأساسي للحياة، يلتمس الأفراد والجماعات مصالحهم بطرق منحصرة في ذواتهم أو في الفئة الضيقة التي “ينتمون” إليها، ويسعون إليها ضاربين بخير الآخرين والكلِّ الأكبر عرض الحائط. وهذا المسعى، أخلاقياً، مسعى شرير، لكنه يتفرع أساساً عن جهل مطبق بالطبيعة الحقيقية للاتصالية الإنسانية والكونية.
لا يمكن لمفهوم أخلاقي للسلام أن يكون عادلاً وشاملاً، على ما يبدو، ما لم يلتئم الشرخ بين الصواب والحدس. فبتنمية البصيرة التأملية بأن الكائنات ومجتمعات الكائنات كلَّها مترابطة، ربما أمكن حلُّ الغباء العقلي، والاجتماعي، والإيكولوجي، والأخلاقي الذي يبدو أنه بات سمة عصرنا الرائسة، في منظور أشمل.[6]
إن الكمونات المبطونة في هذا المنظور الأكثر توازناً موجودة في الواقع فعلاً، وهي واعدة بتوطيد رؤية مقوِّية وتبصُّرات طازجة في سيرورة تحقيق هذه الرؤية. وبالنظر إلى الأهمية العاجلة للمشكلات الجارية وإلى هول المعاناة الناجمة عنها، فإن الجهود الرامية إلى صياغة مفهوم أخلاق سلامية من منظور أكثر تكاملاً تستحق من الجميع المزيد من التقصِّي والمزيد من نذر النفس.[7]
*** *** ***
[1] راجع في هذا الإصدار: ندره اليازجي، “تنوع الثقافات ووحدة العقل الإنساني”.
[2] يعود الفضل في هذا التأثير إلى ترجمات رائدة، كالتي قام بها عالم الصينيات الكبير ريتشارد فِلْهِلْم إلى الألمانية واهتم بها وقدَّم لها مؤسِّس علم النفس التحليلي كارل غ. يونغ.
[3] قوام الظل الجوانب المرفوضة في النفس، غير المعترف بوجودها، التي تظهر في الأحلام على هيئة شخص أسود اللون. راجع بهذا الصدد في الإصدار الثاني من معابر: ديمتري أفييرينوس، “نداء الأعماق: مدخل إلى علم النفس المركَّب”، ج 1، فقرة “الخافية الجمعية والتَفَرْدُن”.
[4] راجع بهذا الصدد في هذا الإصدار: فريتيوف كابرا، “صعود التفكير المنظوماتي”، بترجمة صديقنا د. معين رومية.
[5] الأحرى بـ”تربية” تقطع الناس عن قابليَّتهم الإنسانية الفطرية لإيجاد المتات والمعنى أن تسمى “تغبية”!
[6] هذا الغباء ليس جديداً على الإنسان، لكن المفارقة هذه المرة هي في أنه يتجاسر على تسمية نفسه “حضارياً”!
[7] راجع بهذا الصدد في هذا الإصدار: باولو دالوليو، “جهاد لويس ماسينيون”، للوقوف على خبرة إنسان كبير نذر نفسه للسلام.
رابط المقال على موقع معابر: