°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

الأكيـتـو akitu

عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي، ومع بداية شهر نيسان كنت أرى الأطفال، والشبان الأكبر مني سناً يتجهزون لمناسبة تدعى عيد الرابع، وكانت التسمية تختصر لتصبح “الرابع” وبدون ذكر كلمة عيد في معظم الأحيان، لم أكن على دراية بتلك المناسبة لأعلمَ ما هو الرابع، سألت عنه فقالوا إنّه احتفال، وكان يستمر في القرى المجاورة لقريتنا اثني عشر يوماً، حيث يقام في بعض القرى المحددة والمتميزة بوجود مقدسات دينية فيها، في ذلك السنّ وأنا في الصف الرابع آليت على نفسي أن أذهب إلى الرابع، فمشيت قاصداً مقاماً بالقرب من قرية الجورة أي؛ جورة عين الكروم، وهي على السفح الشرقي لجبال الساحل، وبعد مسيرة حوالي الساعة، وصلت هناك فرأيت تجمّعاً كبيراً أدهشني حيث الباعة، وإلى جوارهم عُقدت حلقات الدبكة، وفي مكانٍ قريبٍ استطعت أن أرى شباناً وشابات قد تجمّعوا يغنون بفرح وابتهاج، لقد دام الرابع بالقرب من قرية الجورة يومين، وبعدها انتقل الناس للاحتفال به يومين آخرين في قرية أخرى وهكذا دواليك حتى نهاية الاثني عشر يوماً، وبعدها تعودت الذهاب لعيد الرابع كلّ عام، ولكن بقي اللغز المحير لديّ هو: لماذا هذا الاحتفال؟ ولماذا هذه المدّة تحديداً؟ لم أستطع في حينها أن أعثر على جواب، فإذ بي ومنذ سنة تقريباً عثرت على جواب، ألا وهو أنّ عيد الرابع هو عيد رأس السنة السورية، أي؛ هو عيد “الأكيتو” أو”الأكيتوم” وكنا نحتفل به دون أن يدري أحدنا ما هو الأكيتو! وبعد التقصي والبحث حول هذه المناسبة تبين أنّ الأكيتو في اللغة السومرية أكيتوم وتكتب Á.KI.TI.ŠE.GUR₁₀.KU₅, lit وهو ما يعني “حصاد الشعير” وفي اللغة الأكادية “أكيتو” وتكتب akitu أو rêš-šattim أي؛”رأس السنة”، وفي الأشورية يعني رأس السنة أيضاً، وقد لعبت احتفالات “الأكيتو” دوراً محورياً في تطوير نظريات الّدين والأسطورة والطقوس الشعائرية في سوريا من خلال ذلك الاحتفال. لقد كان الاحتفال مستمراً لاثني عشر يوماً، فمن اليوم الأول وحتى اليوم الثالث يقوم الكاهن بالتوجه إلى معبد (بيت) الإله مردوخ Marduk ليقوم بصلاته مع الكهنة والناس، لقد كان خشوع المصلين دليل على خوف من الغيبيات، وكل تلك الصلوات كانت لاستغفار مردوخ ولحماية بابل المدينة المقدسة، وكانت الصلاة السرّ على الشكل الآتي:
يا ربّ نجّنا من غضب خاصتك
يا ربّ ملك كريم أنتَ
ربّ الأراضي
الذي جعل خلاصاً عظيماً للآلهة
يا ربّ الملوك
ويا مقسّم الأقدار
يا ربّ بابل منزل خاصتك….
الخ
وفي اليوم الثالث يقوم الحرفيون بصناعة الدمى، من الخشب والذهب والأحجار الكريمة، واللباس لهم باللون الأحمر، ثمّ توضع هذه الدمى جانباً لاستخدامها في اليوم السادس. أما في اليوم الرابع فستتبع نفس الطقوس كما الأيام الثلاثة السابقة قبل شروق الشمس يراقب الكهنة النجوم المقدّسة، وفي النهار تتلى ملحمة الإينوما إيليشيا (حينما في العلى)، وهي القصة الأقدم لولادة الآلهة وخلق الكون والبشر ثم يشرح كيف تتحد الآلهة مع الإله مردوخ بعد انتصاره على تيامات ( Tiamat تشخيص الفوضى الأولى) واعتبرت تلاوة هذه الملحمة بداية الاستعدادات لتقديم ملك بابل أمام مردوخ في اليوم الخامس من الأكيتو، وفي الليل أيضاً يتم التوجه بطواعيةٍ لاسترضاء الإله مردوخ، أمّا في اليوم الخامس فيدخل الملك برفقة الكهنة إلى معبد الإله مردوخ، ويبدأ الكاهن الأعلى بنزع حليه وصولجانه، وتاجه ويضعها جانباً، ويتقدم الملك من المذبح فيركع ويبدأ بالدعاء والاستغفار قائلاً:
أنا لم أخطئ يا سيد الكون
أنا لم أحمل جبروتك السماوي
ثم يقول الكاهن وهو يأخذ دور مردوخ:
لا تخف إنّ الإله مردوخ
يعظم سلطانك
ويزيد عظمة ملكك

ثمّ يذرف الملك الدموع كدليلٍ على خضوعه لمردوخ، وإجلالاً لسلطانه، وعندما يقوم الكاهن بإعادة التاج إلى الملك فمعنى ذلك أن مردوخ قام بتجديد سلطانه، وبذلك يكون شهر نيسان ليس إحياءً للطبيعة والحياة فقط، ولكنّه إحياء للدولة، ما حدا بكلّ الملوك لتقديم الطاعة للإله والتعايش مع الناس بمختلف طبقاتهم خلال لحظات التعبد والاحتفال، والإله مردوخ يعيش في الزقورة المكونة من سبع طبقات، وخلال ذلك اليوم ووفقاً لتقليد أكيتو يقع الإله مردوخ أسيراً لدى تيامات، ثم يأتي ابنه نابو Nabu لينقذه من العدم وإعادة المجد له. وفي اليوم السادس يتم حرق الدمى التي صنعت وخلال اليوم الثالث تجري معركة وهمية ويثار الضجيج في المدينة، ويستمر ذلك حتى وصول الإله نابو في قوارب برفقة مساعديه من الآلهة الشجعان القادمين من نيبور وأوروك وكيش وأريدو مدن بابل القديمة والآلهة المرافقة للإله نابو ومرافقته تحمل على قوارب خصصت لتلك المناسبة وهكذا تسير الناس خلف تمثال الإله نابو ويدخل معبد (بيت) الإله مردوخ ويرددون قائلين:
هو ذا القادم
من بعيد
ليعيد المجد
لأبينا الأسير

أمّا في اليوم السابع فيقوم نابو بتحرير مردوخ، بعد أن يكسر البوابة الكبيرة التي أغلقتها الإلهة تيامات. وفي اليوم الثامن تجمع تماثيل الآلهة في قاعة الأقدار، وفي هذا اليوم تنضم كل الآلهة للإله مردوخ، أما في اليوم التاسع فيتم التحرك بموكب النصر إلى بيت أكيتو حيث يحتفل بانتصار مردوخ على تيامات آلهة الماء السفلى ورمزها التنين، وقد كان بيت أكيتو لدى الآشوريين يسمى بيت أريبي، ويعني “بيت الصلاة” في اللغة الأشورية القديمة، وكان ذلك البيت خارج المدينة بحوالي 200 متر تقريباً، حيث الأشجار الرائعة والتي تسقى بعناية احتراماً للإله، والذي يعدّ واهباً للحياة في الطبيعة، وكان موكب النصر طريقة للسكان في التعبير عن الفرح بتدمير قوى الشر التي كادت تتحكم بالحياة. أمّا في اليوم العاشر، وعند الوصول إلى بيت “أكيتو” يبدأ الإله مردوخ بالاحتفال مع آلهة العالمين العلوي والسفلى، حيث توضع تماثيل الآلهة حول طاولة كبيرة، ومن ثم يعود مردوخ إلى المدينة ليلاً للاحتفال بزواجه من الإلهة عشتار (دموزي وإنانا عند السومريين)، ويتم ذلك من خلال تمثيل الملك للإله مردوخ، وتمثيل أعلى كاهنة في معبد مردوخ للإلهة عشتار، وهذا الحبّ هو ما سيوّلد الحياة في الربيع. أمّا في اليوم الحادي عشر، فتعود برفقة سيدها مردوخ للاجتماع في قاعة الأقدار، حيث التقوا في اليوم الثامن، وهنا يتقرر مصير المؤمنين بمردوخ، وهو أن يحظى ذلك الشعب بالسعادة، وذلك لأنّ سعادة الآلهة في السماء لا تكتمل إلا بسعادة البشر على الأرض، ولذلك تعطى السعادة للبشر شرط أن يقدموا خدماتهم للآلهة، وبعدها يعود مردوخ للسماء مرة أخرى. وفي اليوم الثاني عشر وهو اليوم الأخير من الأكيتو تعود الآلهة إلى معبد مردوخ (تعود التماثيل) وتعود الحياة اليومية إلى بابل ونينوى وبقية المدن الآشورية ويبدأ الناس بالحرث والتحضير لدورة أخرى من الفصول، يبدو العيد البابلي أكيتو أنه قد تم تطويره من الأسطورة السومرية التي تحدثت عن إنانا وذلك مع بداية العصر البرونزي أي حوالي 3000 قبل الميلاد، كما تمّت مواصلة الاحتفال بالأكيتو طوال العصر السلوقي وخلال العصر الروماني، ومع بداية القرن الثالث قبل الميلاد، كان يحتفل به في حمص تكريما للإله إيلاجابال (إله الجبل) كذلك يحتفل به الإيرانيون في 21 آذار، وهو عيد “النوروز” ويعني اليوم الجديد.
ونحن الآن في السنة السورية السادسة والستين بعد السبعمائة وستة آلاف 6766، وبانتظار قدوم السنة السورية الجديدة في الأول من نيسان، والتي ما تزال معظم المناطق السورية تقيم الاحتفالات بمناسبة قدومها. وبهذه المناسبة نقول بالسرياني أكيتو بريخوܐܟܝܬܐ ܒܺܪܝܟܼܳܐ وكول لشاتو برختو عاليخو عال سورياكولا وعال عامو دسوريا كولايى.. أي؛ كل أكيتو وأنتم بخير وكل عام وأنتم بخير وينعاد على سورية كلها وعلى شعب سورية كله بالخير.

المراجع:
* Julye Bidmead The Akitu Festival: Religious Continuity and Royal Legitimation in Mesopotamia، Piscataway2004.
* Svend A. Pallis. The Babylonian Akitu Festival، Copenhagen1926.
* A. Sachs. “Akkadian rituals”، in: J. B. Pritchard، ANET، 3rd. ed.، Princeton1969.
* Karel van der Toorn، ‘Het Babylonische Nieuwjaarsfeest’ in Phoenix. Bulletin van het Vooraziatisch-Egyptisch genootschap Ex Oriente Lux1990.

الكاتب عبد الوهاب أبو صالح

المصدر :http://alnhdah.com