°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

العلوية السياسية غموض مصطلح بين الوهم و الحقيقة – مأمون جعبري 1-3

المحتويات

1.   مقدمة

2.   لمحة عن العلويين

3.   علاقة العلويين بالسلطة خلال التاريخ

1.3 العلاقة بين العلويين و السلطة العثمانية خلال فترة احتلالها لسوريا

2.3 العلاقة بين العلويين والسلطة الفرنسية خلال فترة احتلالها لسوريا

1.2.3 دولة العلويين و آثارها على العلويين

2.2.3 لماذا أتاحت فرنسا للعلويين العودة كتكوين علني اجتماعي

3.2.3 معاهدة الاستقلال عام (1936م).

3.3 سوريا بعد الاستقلال

1.3.3 الأحزاب السياسية في سوريا بعد الاستقلال

2.3.3  تغلغل حزب البعث في صفوف العلويين

3.3.3 الطلاق السياسي بين جمال عبد الناصر وحزب البعث

4.3.3 حزب البعث و صلاح جديد

4.   العلاقة بين العلويين و النظام السوري منذ استلام حزب البعث للحكم

1.4 حافظ الأسد و استلامه للحكم في سوريا

1.1.4 الخلاف بين حافظ الأسد و صلاح جديد.

2.1.4 العلاقة بين حافظ الأسد ومراكز القوة في سوريا

3.1.4 العلاقة بين حافظ الأسد وأبناء مذهبه العلويين

4.1.4 المعارضة السياسية لنظام الأسد داخل أبناء الطائفة العلوية

5.1.4 حافظ الأسد يمهد لنقل السلطة إلى أبنائه

6.1.4 الوضع المعيشي للعلويين في فترة حكم حافظ الأسد

2.4 انتقال السلطة رسميا إلى بشار الأسد

1.2.4 كيف قرأ أبناء المذهب العلوي استلام بشار الأسد الحكم

2.2.4 كيف نظر بشار الأسد إلى طموحات العلويين وماذا حقق منها

3.2.4 كيف قرأ أبناء الطائفة العلوية ما يحدث في سوريابين (20112014م)

5.    أشكال الحكم المختلفة و العلاقات التي تولدها بين الشعب و الدولة

1 مقدمة

“لايمكن للصراع في سوريا أن يصل إلى نهايته بدون سقوط العلوية السياسية تماماً”[1]،هذا ما قاله المفكر والباحث السوري صادق جلال العظم، لتتحول على أثرها عبارة العلوية السياسية إلى مصطلح مسلم به يتم التداول به كحقيقة، وأصبح العديد من الأقلام الثقافية والسياسية يستخدمه كمحاولة لفهم طبيعة الصراع القائم في سوريا “فوازتللو”[2]“ماهر شرف الدين”[3]، على الرغم من أن هذه العبارة (العلوية السياسية) لم تخضع لمفهوم التحليل العلمي مثل أي نظرية رياضية لا يمكن اعتمادها دون برهان على صحتها، والمصطلحات والتعريفات تحمل دلالات ومفاهيم تتجاوز اللغة وحدود الحروف، بالتالي إن أي تسمية خارج مدلولاتها هي إما فقر معرفي، أو إخفاء لغايات كامنة يراد بها غير الظاهر. بذات الوقت إن كان المصطلح يحمل أكثر من كلمة، فمن الضرورة ألا تتناقض مفرداته بين بعضها، وإلا سقط كتركيب بنيوي، ومن هنا تأتي دقة المصطلح في حال تمكنه من أن يكون كياناً قائماً بذاته، وعلى هذا الأساس وقبل الدخول في المفهوم الجزئي (العلوية السياسية) لنعرّف الطائفة كمفهوم اصطلاحي: “هي مذهب ديني مقصور على عشيرة أو قبيلة أو شعب، ومن هنا فالطائفية هي علاقة الانتماء إلى الطائفة”[4]وأما حين يتم الحديث عن طائفية سياسية فهذا يعني القيام بفعل سياسي هدفه خدمة منظومة دينية، أي بشكل أكثر وضوحاً هو تكثيف لمفهوم الدولة المذهبية، التي يجري داخل منظومتها فعل سياسي تصب مصلحته في النهاية لخدمة الرؤيا الدينية لهذه الدولة، وللأفراد المنتمين إلى هذا المذهب ككتلة جمعية، ومن وجهة نظر دينية في المحصلة النهائية، وكمثال مباشر وصريح (دولة إيران) وهذا يختلف جذرياً عن مفهوم دولة بنظام سياسي محدد (دكتاتوري) يقوم هذا النظام باستغلال كافة الطاقات في المجتمع الذي يحكمه، لغاية أساسية هي تثبيت قواعد هذه البنية الدكتاتورية، وهذا النظام في الحالة الثانية من الممكن أن يستغل التاريخ ومفهوم العشيرة والقومية وطبيعة رأس المال إلى ماهنالك، ويقوم بشكل مستمر بمراكمة أزمات بشكل قصدي لغاية استخدامها عند تهديد كيانه الدكتاتوري، ومنها مراكمات الخلافات المذهبية. فهل ما يحدث في سوريا هو نتيجة حكم الدولة المذهبية (العلوية السياسية)؟ أم هو نتيجة حكم النمط الثاني دولة (الدكتاتورية الفردية)؟ وكمحاولة لتبيان الحقيقة، من المهم الغوص في العلاقة القائمة بين الطائفة العلوية والمنظومات السياسية التي تعاقبت على حكم سوريا خلال فترة من الزمن، مستندين في النتائج التي نحاول الوصول اليها على العلاقة المباشرة بين أفراد من الطائفة العلوية، وتلك النظم السياسية خلال تفاعلهؤلاء الأفراد مع حياتهم اليومية في ظل هذه المنظومات (مبدأ الفعل ورد الفعل الكائن بين المنظومة السياسية وأبناء الطائفة العلوية).

2 لمحة عن العلويين

طائفة دينية مكتملة الأركان نستطيع اعتبارها مذهباً، وليست طريقة في العبادة من ضمن مذهب أي لديها قناعات خاصة، وطريقة عبادة خاصة، وطقوس سرية، مما جعلها تصنف من المذاهب الباطنية والتي تعني أنها تملك وجهان أحدهما ظاهر والآخر خفي.

و كان الظهور التاريخي كطائفة “270هـ أي 892م”[5].

وكي لا نغوص في التحليل العميق للبنية الفكرية للمذهب العلوي سنأخذ منها ثلاث نقاط جوهرية لها دلالاتها المهمة لبحثنا:

§       الجهاد لدى المذهب العلوي: يعني الحفاظ على أسرار المذهب، ولا يعني إطلاقاً القتال والتضحية لنشر المذهب، وهذا اختلاف جوهري عن كل من السنة والشيعة” ولا وجود لمفهوم عودة الخلافة الإسلامية لديهم.

§       المذهب العلوي مغلق: أي لا يمكن الانضمام له من بقية المذاهب، وليس لديه بعداً تبشيرياً أو سعياً للتمدد، ويعتقد العلويون أن الهداية إلى الدين الصحيح هي مسؤولية الله وليست مسؤولية البشر، وهذا أيضاً خلاف جوهري آخر بينه وبين كلا المذهبين (السنة-الشيعة).

§       المذهب العلوي لايؤمن بولاية الفقيه:  “أي أنه لا ولاية دينية بعد الأئمة الإثني عشر إلى حين ظهور المهدي المنتظر وهو موعد يوم القيامة، وهذا خلاف أساسي مع الشيعة،.”[6]

يعتبر العلويون ثاني مذهب من حيث العدد في سوريا بعد السنة، وبتعداد تقديري حوالي (4) مليون نسمة أي ما يعادل تقريباً (12%) من عدد السكان الإجمالي، متواجدين ككتلة أساسية في المناطق الساحلية في كل من محافظتي اللاذقية وطرطوس، والجزء الغربي من ريف مدينة حمص، ومن ثم انتقلوا وتوزعوا لاحقاً في معظم محافظات سوريا وخاصة بعد عام (1963م) وأصبح لديهم أحياء بكاملها في محافظة دمشق.

3 علاقة العلويين بالسلطة خلال التاريخ

1.3 العلاقة بين العلويين والسلطة العثمانية خلال فترة احتلالها لسوريا

“الذاكرة العلوية الشعبية لا تحمل إلا المآسي عن هذه الفترة وقامت بتوريث هذه المظلومية إلى أبنائها على مر الأجيال المتعاقبة”[7].

يقودنا المنطق التحليلي إلى أن غاية الاحتلال العثماني لسوريا لم تكن بالمعنى المباشر لاستئصال العلويين كما تورث الذاكرة العلوية أبنائها، وإنما الغاية تقوية الإمبراطورية العثمانية وبسط نفودها، “واستندت إلى الفكر الديني لتحقيق غايتها”[8]، خصوصاً حين أطلقت مجموعة من الفتاوى من أهم المراكز الدينية حينها في السلطة العثمانية تشير إلى أن العلويين كفار وقتالهم واجب ديني مقدس، ومن هذه الفتاوى مثلاً “فتوى الشيخ أحمد بن سليمان بن كمال باشا قاضي ولاية الأناضول- فتوى الشيخ على أفندي الترنبيلي مفتي الدولة العثمانية- فتوى الشيخ نوح الحامد الحنفي”[9]، “جزء من نص أحد الفتاوي: فالواجب على سلطان المسلمين أن يُجاهدَ هؤلاء الكفار كما ورد في [سورة التوبة، الآية: 73]” وكان حينها السلطان سليم الأول يلقب بسلطان المسلمين.

ونلاحظ أن أصحاب الفتاوى التكفيرية كانوا من ذوي النفوذ، ومن دعائم السلطة العثمانية حينها ووجدت هذه الفتاوى صداها لدى جيش السلطان سليم، ومن خلال الرسالة التي أرسلها السلطان سليم الأول إلى اسماعيل شاه الحاكم الصفوي، نستشف أن السلطان سليم كان متفقاً مع وجهة نظر علماء الدين العثمانيين حول اعتبار الشيعة وبقية المذاهب الباطنية كفرة ومرتدين عن الإسلام.

 “نص الرسالة: إن علماءنا ورجال القانون قد حكموا عليك بالقصاص….. بوصفك مرتداً وأوجبوا كل مسلم بالدفاع عن دينه”[10] إذاً لدينا حدثين متفق عليهما تاريخياً هما الفتاوى الحامدية التكفيرية، ورسالة السلطان سليم إلى اسماعيل شاه الصفوي، وعلى هذا الأساس من الممكن أن تكون قد ارتكبت مجازر ذات صيغة مذهبية بحق من يعتبرهم العثمانيون كفرة ومنهم العلويون.

على أثر هذه المعارك ذات الشكل الخارجي المذهبي، تجمع معظم أفراد المذهب في الجبال الساحلية، حيث كان لهم فيها وجود سابق، وفرضت عليهم الضرائب (الجزية) وكان الوسيط الذي يمثل السلطة العثمانية هم إقطاعيون من المذهب السني، (على الرغم من أن أغلبية السكان هم من المذهب العلوي)، وهم مالكون حقيقة للأرض والبشر الذين يقطنوها بالنيابة عن السلطة العثمانية، وتحول العلويون إلى أقنان، ومنعوا من النزول إلى مركز المدن الساحلية، وتم سوق الذكور منهم إلى الحروب، التي كانت تقوم بها السلطة العثمانية في أماكن بعيدة جداً عن موطنهم  وغالباً كانوا لا يعودون.

نلخص واقع العلويين في تلك المرحلة التي امتدت لقرون من الزمن:

مجموعة دينية مكفرة من السلطة العثمانية القائمة، تعيش شبه عزلة في جبال الساحل السوري، تعيش أبسط أنواع الحياة، تأكل مما تزرع ومما تنتجه بعض المواشي، تنتظر الباعة المتجولين كي تؤمن ملابسها، وهي في حالة عزلة اجتماعية كاملة، لا تتزوج أو تزوج من غير أبناء المذهب ذاته، علاقتها مع المدينة شبه مقطوعة، وتملك الكثيرمن القلق تجاه نوايا محيطها المغايرمذهبياً. ومن يقوم بتنفيذ المشيئة العثمانية هم بعض الأشخاص من المذهب السني ويمثلون القبضة الأمنية للسلطة العثمانية.

والعلويون في هذه المرحلة يخضعون لسلطتين:

§       السلطة الأولى سلطة رجال الدين من مذهبهم، وهي تمثل لهم بوابة الأمل وخازنة أسرارهم المقدسة، فعلاقتهم معها علاقة حب وخشوع وتسليم بمصداقية كل ما تحدده هذه السلطة، من تنظيم للعلاقات الاجتماعية وصولاً إلى كونها المصدر القضائي والتشريعي، مع إضافة أنها كانت السلطة التي تملك بعض المعارف مقارنة بباقي أفراد المذهب، ومنهم من يتقن القراءة والكتابة، ولا يمنح العوام من الشعب هذه المهارة بل يورثها لأبنائه من المشايخ.

§       أما السلطة الثانية: تمثل سلطة العثمانيين التي تربطها معها علاقة الحقد والرعب ، فهذه السلطة لا تقدم إلا الخوف، وبذات الوقت تسلبها إنتاجها وأبنائها، وتحاربها في مقدساتها لدرجة أنها (السلطة العثمانية) لاحقت أبناء المذهب الذين يصنعون الخمر، والذي يعتبر بالنسبة لهم مهنة لا تتنافى مع عقيدتهم، مما اضطرهم إلى صنعه في الوديان التي تعجز عنها السلطة، ووكلاء هذه السلطة هم من المذهب السني، ومن السوريين رغم أنهم أقلية بالنسبة لعدد العلويين في الساحل، وبذات الوقت منعت عنهم التعليم وحصرته في المدن، التي يكره العلويين الذهاب إليها خوفاً،ولأنها ذات تكلفة مادية غير قادرين على تحملها بالإضافة إلى “الذل الذي يتلقونه من أبناء المدينة السنة”[11]

نلاحظ أن العلاقة بين العلويين والسلطة العثمانية لم يكن الخلاف الجوهري فيها خلافاً سياسياً، حيث لا يوجد أي دليل على أن العلويين حينها كانوا يملكون أي فكر سياسي يخصهم بل كان خلافاً، كما أرادته السلطة العثمانية، مذهبياً، وفهمه العلويون على أنه خلاف وجودي، مما دفعهم إلى زيادة التمسك بمذهبهم السري، وهذه الحالة امتدت لبضع مئات من السنوات. مع عدم وجود أي دليل على نمو فكر سياسي لديهم في تلك المرحلة كطائفة.

وبذات الوقت، يلاحظ المتتبع لكل الحملات العسكرية الضخمة التي مرت عبر التاريخ ومن ضمنها التوسع الإسلامي في عهد الأمويين والعباسيين، والحملات الصليبية الأوروبية لاحقاً، والامتداد العثماني أنها جميعها كانت ترتدي لباساً دينياً، وذلك لإضفاء القداسة على هذه الحملات، والمباركة الإلهية، لما لها من تأثير معنوي على الجيوش العسكرية، وإنما في حقيقة الأمر كانت هناك غايات اقتصادية مبطنة، وبعد نجاح هذه الحملات كانت تظهر هذه الغايات الاقتصادية بوضوح، ويتراجع الغطاء الديني وهذا ما يفسر عدم قيام العثمانيين بتطبيق الفتاوى التي حملوها بخصوص العلويين بعد نجاح حملاتهم، هذه الفتاوى كانت تشرع لهم الاجتثاث الكامل لكل من يتبع هذا المذهب وكان باستطاعتهم ذلك كونهم متفوقين عسكرياً، فاكتفوا باستثمارهم وإنهاكهم اقتصادياً مع استمرار التعامل معهم ككفرة.

2.3 العلاقة بين العلويين والسلطة الفرنسية خلال فترة احتلالها لسوريا

تم الاتفاق السري عام (1916م) أثناء الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا العظمى وفرنسا وبموافقة روسيا القيصرية في مدينة بطرسبرج على تفكيك الدولة العثمانية، وأدى هذا الإتفاق لاحقاً إلى ما سمي بمعاهدة سايكس بيكو، الذي وضع جزءاً من سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وعُدّل لاحقاً في مؤتمر سان ريمون الذي وضع كامل سوريا ولبنان تحت الوصاية الفرنسية. رفض الشعب السوري الوصاية، وحصل الصدام العسكري بينهوبين الدولة الفرنسية الذي كانت نتائجه خسارة السوريين المعركة (معركة ميسلون)، وتثبيت الاحتلال الفرنسي على سوريا. وجدت فرنسا منذ البدء أن الطريق الأسهل لاستمرار احتلالها لسوريا هو تفكيكها إلى مجموعة دويلات، واستندت في هذا إلى الإرث السيء المتجذر في العلاقة بين الطوائف الدينية الموجودة في سوريا بعد الحقبة العثمانية، ومشروع التفكيك السابق الذي أقامته السلطة العثمانية، وظهرت إلى العلن الدويلات التالية (دولة دمشق- دولة حلب – دولةالعلويين- دولة جبل الدروز). رفض الشعب السوري التقسيم لينتهي المطاف إلى تشكيل دولتين في سوريا إحداهما دولة العلويين المستقلة، وعاصمتها اللاذقية.

1.2.3   دولة العلويين و آثارها على العلويين

بعد مئات الأعوام من العزلة، والملاحقات على أساس مذهبي والاختباء في الجبال، يحدث تبدل نوعي ينقل العلويين من مجموعة مكفرة محاصرة، إلى تجمع سكاني معترف بوجوده ضمن بقعة جغرافية سميت باسمهم وأخذت اعترافاً كدولة، ومن قام بهذا التغيير النوعي لم يكن من أبناء الوطن الأم المسلمين بل كان المستعمر الفرنسي. ورغم الاعتراف بهم كدولة لم يطرح العلويون أي فكر ديني داخل مشروع هذه الدولة، فالمذهب الديني لديهم لا يتقاطع مع مفهوم الدولة بما يحمله من مدلول سياسي.

تم الاعتراف بدولة بحدود جغرافية تعيش فيها مجموعة من الإثنيات (علويون- مسيحيون- سنة – اسماعيليون) يشكل فيها العلويون الأغلبية السكانية تعدادها الإجمالي حوالي (270 ألفاً) حينها كانت نسبة العلويين (70%)، وقامت السلطات الفرنسية بتشكيل مجلس تمثيلي يدير شؤون الدولة متكون من ستة عشر عضواً فيه: “9 علويين و3 سنة و2 مسيحيين أرثوذوكس واسماعيلي واحد ومقعد للأقليات الصغرى”[12] .تعتمد النسب في التمثيل على نسب توزع الطوائف عددياً في الساحل.

كما وأنشئ تشكيل عسكري لهذه الدولة بإدارة فرنسية، وتكوّن من ضباط وجنود من كل المذاهب، وكان من بينهم علويون، وبنت فرنسا دوائر للنفوس لتسجيل السكان وشيدت بعض المدارس في القرى العلوية، بالإضافة إلى شق الطرقات إلى مناطقهم الجبلية وإنشاء الجسور، وأرسلت العديد من الباحثين إلى القرى الجبلية العلوية النائية، للقيام بدراسات عن أتباع هذا المذهب،لإجلاء بعض الغموض، والتحقق من الأساطير التي تروى عنهم، وبذات الوقت لتختار الأساليب الأنجح للتعاطي معهم.

لنرالأثر النفسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة العلوية على أتباع المذهب العلوي:

مرت المرحلة العثمانية على العلويين وهم يملكون نوعين من الانتماء، انتماؤهم التاريخي الإرثي إلى مذهبهم، وانتماؤهم القسري إلى سلطة الدولة العثمانية، الذي كان انتماءاً قسرياً ظالماً بكلّ ما في الكلمة من معنى، وتغير الوضع نوعياً حين أتى مستعمرٌ أعاد لهم اسمهم علانيةً بعد أن كانوا يخفونه، وجعل لهم تمثيلاً وقدم بعض الخدمات، بعد أن كانوا في مرحلة العثمانيين يقدمون كل شي، وليس لهم أي حقوق. ساهم هذا التبدل الجوهري بتشكيل نمطٍ جديدٍ من الانتماء الطوعي لدى العلويين إلى الدولة الناشئة، سابقاً كانوا يسجلون مواليد أبنائهم في ذاكرتهم، وينسبونها الى تواريخ أعيادهم أو الكوارث التي تحدث، وكثيراً ما يضللون في تاريخ مواليدهم كي لا يساقوا إلى التجنيد الإجباري لدى السلطة العثمانية، أما في عهد الدولة العلوية تحت الانتداب الفرنسي أصبحوا يسجلون تواريخاً حقيقية لولاداتهم، بل أكثر من ذلك أخذوا يدفعون أبنائهم للالتحاق الطوعي في الخدمة العسكرية، أي بدأ يتشكل لديهم قبول نفسي بالانتماء إلى هذه الدولة بالإضافة إلى انتمائهم المذهبي.

من الناحية الاجتماعية: بدأ طوق العزلة الذي فرض عليهم وفرضوه على ذاتهم بالانحلال نسبياً، وبدأت علاقة بسيطة بين العلويين والمدينة  من خلال تصريف بعض الفائض من إنتاجهم الحيواني، الذي لم يكن متوفراً سابقاً في العهد العثماني، هذه الحركة التجارية الجديدة جعلتهم يحتكون بشكل مباشر مع المدينة بمكونها السني، وبدأت تعود بدايةعلاقة اجتماعية تجارية قُطعت لمئات السنين، أما الممثلون الدينيون فكان لهم الأفضلية في الاستفادة من الوضع الجديد، عن طريق إقامة علاقات مباشرة مع كل من المستعمر الفرنسي ووجهاء السنة في المدينة، وبقيت الأرض في معظم القرى العلوية مملوكة من إقطاعيين من المذهب السني، وأضيف إليهم بعض الإقطاعيون المسيحيون، أي أن السلطة الفرنسية لم تغير كثيراً في مفهوم الملكية المباشرة، وأهم تغيير حدث للعلويين في الدولة الجديدة، والذي كان له أثر واضح في المستقبل هو علاقتهم مع مفهوم العلم وأهمية التحصيل العلمي، والمستفيد حقيقة من العلويين في هذا المجال لم يكن في البدء إلا ممن ينتمون إلى فئة رجال الدين وممثلي العشائر، وبعض المتنفذين ممن يستطيعون تحمل الكلفة المالية للدراسة، وأصبح لأبنائهم أثر واضح في مستقبل سوريا التالي لتلك الفترة.

ومع كل هذا التغير النوعي، لم يتشكل حينها حزب سياسي يحوي فقط أبناء المذهب ويجعل قرارهم تجاه القضايا العامة موحداً كرؤية سياسية، رغم أنه في حينها كانت قد بدأت بعض الأحزاب السياسية بالتشكل والظهور في سوريا.

2.2.3 لماذا أتاحت فرنسا للعلويين العودة كتكوين علني اجتماعي

لم يحدث في التاريخ أن كان هدف المستعمر في أي بلد إنصاف الفئات أو الجماعات المستضعفة والمنبوذة، وهذا ما أثبتته الوقائع التاريخية في علاقة المستعمرين مع المستعمرات، ولكن التجربة التاريخية أثبتت أن للدول الاستعمارية أدوات وأساليب مختلفة تستخدمها للحصول على غايتها من المستعمرات، وغالباً يعكس التطور الحاصل لدى المستعمر طبيعته على هذه الأدوات وآلية التنفيذ، فعلى سبيل المثال “حين اجتاحت قبائل المغول بغداد نسب إليها حرق أضخم مكتبة في التاريخ الإنساني”[13]،ومن المعروف أن قبائل المغول قبائل رحّل تفرض حضورها بحد السيف، أما الاستعمار الحديث نسبياً ومنه الفرنسي، فقد اعتمد سياسة فرّق تسد، ومن الحتمي أن يعكس جزء من رؤيته الحضارية في مستعمراته، ووجد المناخ الاجتماعي للتركة العثمانية مفيداُ لتنفيذ أسلوبه، وجد بلداً منقسماً مذهبياً بشكل عمودي، على أطراف سوريا الغربية على ساحل البحر مجموعة بشرية تعيش في عزلة ومكفرة مذهبياً، فسارع إلى استغلال هذا الوضع، ومد يده لها بإعادة الاعتبار النسبي لوجودها وكان لا بد لمد اليد هذا، أن تتبعه آثار إيجابية على أتباع هذا المذهب، وإن حاول الفرنسيون نشر المسيحية في تلك المنطقة ومن قبلهم بعثات أميريكية، إلا أن المحاولة لم تكن بحد السيف، وإنما كانت عن طريق البعثات التبشيرية، التي حاولت نشر المسيحية بالإقناع مع إعطاء بعض الميزات لمن يتبعهم، والمساعدات المعيشية وأفلحت بنسبة ضئيلة في هذه الغاية، وتحولت مجموعة بسيطة من العلويين إلى الديانة المسيحية وأطلق عليهم لقب مسيحية الطحين نسبة الى تلقيهم مساعدات غذائية من الطحين، ومن جهة ثانية لم تقف فرنسا في وجه الزعماء الدينيين للطائفة العلوية إلا في حال طالبوا برحيلها، كما أنها لم تمنع العلويين من إقامة شعائرهم الخاصة، وأخذت تنشر لغتها في المدارس، وأصبح عدد لا بأس به من أبناءالمذهب العلوي يعرف الفرنسية.
يجول في خاطر المتابع لهذه الوقائع التي تم سردها وتحليلها أن العلاقة بين المستعمر الفرنسي والعلويين كانت علاقة تصالحية، ويرى قبولا كاملا من الجانب العلوي لهذه الصيغة من العلاقة، إلا أنه يجد في المذهب من يرى أن الفرنسيين مستعمرين ويجب طردهم، وهذا يقودنا إلى النضال العلوي ورفض العلويين لقبول الاستعمار الفرنسي، رغم التبدل النوعي الذي ذكر سابقاً. هذا النضال الذي تربع على عرشه “الشيخ صالح العلي”[14].

قبل الانتقال إلى “معاهدة الاستقلال عام 1936م”[15] والتي بموجبها تم إنهاء الاحتلال الفرنسي لسوريا، وبذات الوقت تم إنهاء وجود الدولة العلوية حينها، لنركز على ما تحقق للعلويين في دولتهم:

من الناحية المادية لم تتغير أوضاع العوام من أتباع المذهب كثيراً، وبقوا في حالة الفقر وهذا طبيعي لسببين: أولهم أن مناطقهم فقيرة أساساً، وثانيهم أنه لم يكن من أهداف المستعمر تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية، فهاجسه الأساسي كان تحقيق مصالحه الإقتصادية. وأهم مكاسب العلويين حقيقة في دولتهم تلك هو مكسب اجتماعي وجودي، حيث ارتفعت عوامل الأمان لوجودهم، وتم إشهار علويتهم إلى العلن كمكون من مكونات المنطقة الجغرافية التي يعيشون فيها، ولم يأت هذا الإشهار بمساعدة المرجعية الدينية السنية ، بل أتى بمساعدة المستعمر الفرنسي، الذي ينتمي إلى مصالحه الاقتصادية بشكل عملي، وأتيح لهم أيضاً كسر طوق العزلة وانفتاح أفق جديد كان ممنوعاً عنهم أثناء المرحلة العثمانية، وهو أفق التعليم. مع عدم ظهور حزب سياسي يخصهم كعلويين رغم توفر الظرف المحيط.

3.2.3  معاهدة الاستقلال عام (1936م)

نتيجة للثورات المتواصلة في وجه المستعمر الفرنسي، ولتغير الظرف الدولي، رضخت فرنسا لمطالب الشعب السوري ورغبته في الحصول على الاستقلال، وبدأت المفاوضات في باريس بين ممثلي الكتلة الوطنية حينها والحكومة الفرنسية، وتم توقيعها عام (1936م) باستقلال كامل سوريا موحدة بين الدولتين حيث الدولة العلوية لم تكن قد ضمت بعد إلى سوريا، وتم التصديق على بنود “المعاهدة عام 1941م”[16] من قبل الجنرال ديغول.

موقف العلويين من معاهدة الاستقلال

صُدم قسم من العلويين بطرح فكرة استقلال سوريا موحدة، والتي كانت قد بدأت من عام (1926م) والتي تعني ضم دولة العلويين إلى الدولة السورية، وتم إرسال “رسالة سرية منهم إلى فرنسا عام 1936”[17] وضعت العلويين حتى الآن في أنظار الكثير من السوريين في مصاف الخونة، وسنحلل بعض بنود هذه الرسالة بناءً على التاريخ التي أرسلت فيه، وما يحيط به من حقائق ووقائع، آخذين بعين الاعتبار الإرث الذي يحمله العلويون من الفترة الواقعة ما قبل الانتداب الفرنسي، أي فترة الحكم العثماني، وبذات الوقت مع رفضنا السحب التاريخي لمواقف أشخاص مهما تكن صفتهم في حينها، وتوريثها لأجيال لاحقة كأنها صبغة وراثية وهذا مناف لكل منطق علمي.

البند رقم (2) من الرسالة: (إن الشعب العلوي يرفض أن يلحق بسوريا المسلمة لأن الدين الإسلامي يُعتبر دين الدولة الرسمي والشعب العلوي يُعتبر بالنسبة للدين الإسلامي كافراً)

الحقيقة الأولى الواردة في هذا البند: وفقاً لمجموعة من الفتاوى يعتبر العلويين كفاراً ويجب قتلهم وقد تم إشهار هذه الفتاوى في أيام السلطنة العثمانية، ولم يتم التراجع عنها بعد رحيل العثمانيين من قبل المراجع الدينية السنية، ونلاحظ أن الموقعين على هذه الوثيقة وقسم منهم من مشايخ العلويين قد أقروا بأن العلويين ليسوا جزءاً من الإسلام الرسمي، رغم أنهم في العلن يصرون على كونهم جزء من الإسلام، وهذه المراوغة تتعلق بمفهوم الإظهار والإبطان بالنسبة لهم بما يحقق أمانهم، وهي مشرعة دينياً عندهم.

البند رقم (5) من الرسالة:(إننا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري، وعلى الرغبة في تحقيق الاستقلال، ولكن سوريا خاضعة لروح الإقطاعيات الدينية، ومنح السوريين استقلالهم وضم دولة العلويين لها يعني استعباد الشعب العلوي).

نلاحظ في هذا البند أن العلويين لهم ثقة بالمستعمر الفرنسي الذي لم يقم خلال تواجده في سوريا بأي سلوك يعبر فيه عن احتقارهم كمذهب، وبذات الوقت ليس لديهم أي ثقة بالمرجعية الدينية للأكثرية السنية، التي تذكرهم بالدولة الإسلامية العثمانية وفتاواها ذات المذهب السني.

ولابد من ذكر أن أحد البنود الرئيسية للمفاوضات التي كانت تتم في باريس بين الكتلة الوطنية والحكومة الفرنسية كانإعلان أن سوريا دولة مسلمة، ويرأسها رئيس مسلم، وباعتبار أن الشعوب تستند إلى الذاكرة التجريبية في توقع المستقبل فمن الطبيعي أن يكون الموقف الضمني لجزء من العلويين رافضاً لما ورد في الوثيقة، وخاصة أن بين الوثيقة وتاريخ اختبائهم في الجبال ليس أكثر من ثلاثة عقود، أي من وقّع على الوثيقة عاش فترة الاضطهاد الإسلامي الرسمي ،فترة العثمانيين لأنه علوي، كما عاشه أجداده ولمدة أربعة قرون، وحتى تاريخ كتابة هذا البحث لم يتم التراجع عن الفتاوى التي تبيح قتل العلويين لانتمائهم المذهبي واعتبارها باطلة، من أي مجمع لعلماء الاسلام الممثلين للإسلام الرسمي.

وبذات الوقت لا بد من الإشارة إلى “وثيقة ثانية أرسلت إلى السلطات الفرنسية أثناء المفاوضات عام (1936موقد وقّع عليها أيضاً العديد من الرموز الدينية العلوية، ووجهاء العائلات رافضين رفضاً كاملاً لكل ماجاء في الوثيقة المطالبة بالإبقاء على الدولة العلوية. ومطالبين بالانضمام الى سوريا الموحدة”[18]

فهل كان العلويون حقيقة هم الوحيدين الذين يملكون هذا الخوف من مشروع  دولة إسلامية حينها، أم هم من عبّر عنها بشكل رسالة واضحة؟

من الأمانة التاريخية أن نذكر أنه وأثناء وجود الوفد الوطني، الذي يفاوض على الاستقلال عام (1936) ظهرت في حلب حركة دينية أطلقت على نفسها “جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”[19]، وأخذت تمارس إرهاباً على السكان المسيحيين، وحطمت محلات بيع الخمور، ومنعت تداوله. مما حذا بالمسيحيين في حلب إلى إرسال رسائل إلى فرنسا ،كان فحوى هذه الرسائل أن المسيحيين اليوم يُمنعون من شرب الخمر وبيعه، وغداً سيمنعون من دق أجراس كنائسهم، مما أثار غضب الفرنسيين،فطرحوا الأمر على الكتلة الوطنية التي تفاوض، والتي سارعت إلى إرسال برقيات تطلب من ممثليها في حلب وقف أعمال هذه الجماعة، وفي ذات الوقت خرجت مظاهرة في منطقة الجزيرة السورية، ومكوّنها الأساسي من الأكراد والآشوريين السوريين يطالبون بشكل من أشكال الحكم الذاتي، وتم قمع هذه المظاهرة التي كان من أبرز مؤيديها البطريارك “الكاردينال تبوني”[20] بطريارك السريان الكاثوليك، الذي طلب من السلطات الفرنسية بشكل واضح حماية الأقليات، أما في جبل الدروز فقد تم إنزال العلم الممثل لسوريا الموحدة المستقلة، فهل من المعقول أن كل هؤلاء الرافضين لدولة عربية إسلامية خونة، أو أنهم لا يريدون سوريا موحدة وهم يمثلون حوالي (30%) من الشعب السوري، وتاريخياً لهم تواجد في سوريا موغل في القدم، أي إنهم من التكوين الأساسي للشعب السوري، أو أنهم خاضعون لبنى هرمية سياسية مفترضة (كردية سياسية)، (آشورية سياسية)، (علوية سياسية)… جعلتهم في لحظة يراهنون على رحمة مستعمر بدلاً من مفهوم دولة تحمل طابعاً إسلامياً؟

إذاً لابد من التوقف طويلاً عند قراءة ردود الأفعال هذه على مشروع الدولة السورية الإسلامية العربية، فالمثبت: أن هذه المكونات قد عاشت الإقصاء والاضطهاد لقرون من الزمن في ظل الدولة العثمانية الإسلامية، وهناك الكثير من الفتاوى الصادرة عن المراجع الإسلامية الرسمية التي تدعو الى احتقار هذه المكونات، وتكفيرها، فلذلك من الطبيعي وجود الفوبيا من الإسلام الرسمي عندها. المجموعات التي رفضت سوريا الإسلامية كانت تشعر بتهديد وجودي، ولا يكفي مفهوم التطمينات بأن ما حدث سابقاً لن يتكرر، فذاكرة الشعوب وخاصة الأليمة منها لا تمحى بقرار، وهي بحاجة إلى فترة من الزمن المقترن بالعمل لإثبات العكس، وبرهان أن الماضي من التاريخ الإقصائي لن يعود، وذلك يتم عبر بنية قانونية يتضح فيها مفهوم المساواة بين جميع المكونات، وليس مجرد تطمينات من أفراد أياً كان موقعهم.

رغم كل هذه الاعتراضات على سوريا الموحدة الإسلامية العربية، فلم تستجب فرنسا حينها إلى أصحاب هذه الدعوات، ووقّعت على اتفاقية تجعل من سوريا دولة مستقلة على كامل أراضيها، ما عدا قطعة في الشمال الغربي من سوريا تم اقتطاعها وإعطاؤها للإمبراطورية العثمانية، وهي ذات مكوّن علوي في تركيبته ،تسمى بلواء اسكندرون.

3.3 سوريا بعد الاستقلال

بعد (400) عام من الاحتلال العثماني و(26) عاماً من الاحتلال الفرنسي، يعود السوريون إلى حكم بلدهم بنفسهم. هذا المجتمع التواق للأفكار الجديدة ،وللحراك الاجتماعي السياسي ،كان أرضاً خصبة لبذور الفكر القادم من وراء البحار وبذات الوقت لإعادة إحياء ماتم تغييبه من إنتاجه الفكري خلال سنوات الاحتلالين. والساحل كجزء لا يتجزأ من بنية المجتمع السوري كان تواقاً للخوض في مضمار الحراك الاجتماعي السياسي، مع حساسية كبيرة تجاه كل فكر يحمل في طياته مبادئ إسلامية، ومن هذا الوضع نعرّج على أهم الأحزاب السياسية التي نشطت في الفترة الواقعة ما بين (1946-1963) في الساحل السوري وبين العلويين خصوصاً، فهي الفترة الوحيدة التي عاشت فيها سوريا صراعاً سياسياً بين قوى حزبية، أي إنها الفترة اليتيمة لصراع سياسي حر في تاريخ سوريا. من أوائل الأحزاب السياسية التي نشطت في مرحلة مبكرة في الساحل السوري الحزب الشيوعي السوري الذي كان يرى في النظرية الأممية الناتجة عن الفكر اللينيني الماركسي النظرية الأمثل لارتقاء الشعوب. استقبل العلويون عموماً هذا الفكر بشئ من التحفظ كونه يسقط النظريات الدينية، ،غير أنهم لم يناصبوه العداء بل كان بعضاً من رجالاتهم من أوائل المنضمين له في مرحلة مبكرة من نشاطه في الساحل، مثل عز الدين نعيسة من قرية بسنادا في اللاذقية، وكان مركز ثقل الحزب الشيوعي في بداياته في الساحل في منطقة كسب ذات التمركز الأرمني.

1.3.3الأحزاب السياسية في سوريا بعد الاستقلال

الحزب القومي السوري

بدأ نشاطه في مرحلة مبكرة في الساحل السوري. يؤمن “بالأمة السورية الممتدة جغرافياً على مساحة الهلال الخصيب (سوريا– العراق– الأردن–فلسطين- ­لبنان)، مضافاً إليها الأطراف ذات الامتداد الجغرافي ذاته، والمكونة من قبرص وسيناء وكيليكيا وهضبة عنتاب”[21]

ويجد هذا الحزب أن الهوية السورية مكونة من عناصر ما قبل العربية والعربية والمحلية، ويؤمن بفصل الدين عن الدولة، وكان مؤسسه المحامي أنطون سعادة وهو مسيحي الإنتماء الديني. اجتاح هذا الحزب الساحل في مرحلة مبكرة،وكان له عدد كبير من الأنصار العلويين في الجبل قبل ظهور حزب البعث إلى درجة أن هناك عائلات علوية انتمى معظم أبنائها إلى هذا الحزب، منهم على سبيل المثال (آل مخلوف- آل عثمان)، ويذكر أن والد حافظ الأسد كان من أنصار هذا الحزب وأيضاً حافظ الأسد في مرحلة مبكرة.

حزب الأخوان المسلمين

الحزب الوحيد ذو البنية الدينية العقائدية الذي نشط في الساحل السوري حيث بدأ نشاطه مع “زيارة مرشده العام 1949”[22] إلى اللاذقية للبدء في تأسيس خلاياه، وكان يعتمد فقط على أتباع المذهب السني، ويحمل أبناء الساحل العلويين العداء الكبير لهذا الحزبوأنصاره كون مرجعيته الإسلام الرسمي ومشايخ فتاوى التكفير جزء من هذه المرجعية، وكان نشاط الحزب في المراحل المبكرة، أي فترة الخمسينيات من القرن الماضي، شبه محصور على المدينة، ولا ينتسب إليه أي من التكوينات المذهبية في الساحل إلا أتباع المذهب السني، ويؤمن في جوهره أن الإسلام الرسمي  بتعليماته هو الخلاص الحقيقي للبشرية، وأن الدولة يجب أن تقام على أسس إسلامية بكل مفاصلها.

حزب البعث العربي الاشتراكي

لندخل سوية في بعض مفاصل الحزب الأكبر من حيث الانتشار في سوريا عموماً،وفي الساحل خصوصاً، مسلطين الضوء على بعض شخصياته المؤسسة الرئيسية، وعلاقتها بالساحل السوري وبالعلويين ، وهو حزب البعث العربي الاشتراكي:

وسنقسم هذه العلاقة إلى مجموعة من المراحل:

§       العلاقة بين أبناء المذهب العلوي وحزب البعث منذ نشوئه إلى استلامه للسلطة في سوريا عام (1963م)

§       العلاقة بين أبناء المذهب والحزب منذ استلامه للسلطة إلى استلام حافظ الأسد لمقاليد الحزب والحكم في سوريا.

لنعرّج في البدء على المؤسسين الرئيسين لهذا الحزب، والذين كان لهم بصمة واضحة في بداياته. من أوائل الأسماء المتفق عليها تاريخياً كأب روحي للرؤية النظرية للبعث “زكي الأرسوزي”[23]، ابن لواء اسكندرون المنحدر من المذهب العلوي كانتماء ديني، والداعم الأساسي لرؤية الحزب حول أهمية القومية العربية بكونها النقطة الجوهرية للنهوض في المجتمع السوري، وبذات الوقت رفضه الواضح لمقولة أن الإسلام هو روح الأمة العربية، فالعروبة بالنسبة له هي الوجدان القومي الذي انبعثت عنه المقدسات، وهو من أوائل من حمل راية الكفاح ضد فصل لواء اسكندرون عن سوريا، ويعزى إليه نشر ثقافة العروبة في الوسط العلوي، ولا يوجد أي إشارة في كل كتاباته إلى الخلط بين انتمائه المذهبي، وفكره السياسي بالمعنى المباشر، حيث أنه لم يروج إلى أي شكل من أشكال الديانات أو المذاهب، بل كان ميالاً للفصل بين الدين والسياسة.

ولننتقل إلى شخصية كان لها أثر عميق في تغلغل الحزب في الساحل السوري عموماً والعلويين خصوصاً.

إنه الدكتور”وهيب الغانم”[24]:

وهيب الغانم ابن مدينة لواء اسكندرون من مواليد عام (1919م) ينحدر من أسرة علوية المذهب متوسطة الدخل المادي، ويعتبر أول طبيب تخرج من أبناء لواء اسكندرون. كانت له علاقات طيبة جداً مع أبناء اللواء. تتلمذ في البداية على يد زكي الأرسوزي، وكان يرى أن الإشتراكية هي الحل الملازم للعروبة لدفع عجلة تطور المجتمع العربي، وهو المؤسس الفعلي لحزب البعث في الساحل السوري حيث استقر في اللاذقية طيلة فترة حياته، وكان شخصأ جماهيرياً بامتياز، كثير التردد على الأرياف ذات الأغلبية العلوية لنشر فكر الحزب، وكان يركز بشكل أساسي على دور الإشتراكية في تحقيق العدالة للفلاحين، ووصل درجة محبة الناس له إلى أنهم كانوا يحملونه على أكتافهم حين عبوره الطرقات الوعرة، وحتى الآن حين تسأل قدامى البعثيين من العلويين في الساحل السوري من مثلك الأعلى في النضال السياسي، سيشار إلى وهيب الغانم.

ولابد من الإشارة الى أن كلتا الشخصيتين السابقتين لم يوجد في أدبياتهما الحزبية ما يشير الى أنهما وجدا في الإسلام رافداً نظرياً لدعم حزبهم.

وطبعاً كان هناك مجموعة من المفكرين ممن له بصمات واضحة على هذا الحزب من بقية الطوائف أمثال: ميشيل عفلق، وصلاح بيطار، وجلال السيد وسامي الجندي.. إلخ.

لننتقل تحليلياً إلى هذا الحراك السياسي في الساحل السوري في تلك المرحلة ولنضع المؤشرات التالية:

§       أبناء الطائفة العلوية كانوا مشاركين بكل الأحزاب النشطة والتي تم ذكرها بفعالية جيدة ما عدا حزب الإخوان المسلمين.

§       هذه الأحزاب ما عدا حزب الاخوان المسلمين لم تعط للأديان عموماً وللإسلام خصوصاً أي أهمية في بناء مستقبل الأمة، بل على العكس كانت ترى في التداخل بين الدين والسياسة حالة خاطئة، وكان منظورها إلى المفهوم الديني عموماً أنه المركز لولادة الفكر الرجعي.

§       في المرحلة التأسيسية لحزب البعث، كان من أعلامه اثنان من المنتمين إلى الطائفة العلوية، ومن أبناء لواء اسكندرون الذين يخزنون في ذاكرتهم أسوأ الذكريات عن الحكم العثماني الإسلامي، الذي استمر بالنسبة لهم بفصل اللواء عن سوريا، ومع ذلك لا يوجد في أدبياتهم التي رفدوا بها الحزب أي إشارة أو مدلول إلى مذهبهم، ولم يعرف عنهم ترويجهم لفكر مذهبي أثناء نشاطهم الجماهيري في المناطق العلوية.

§       لم يواجه المنتمون من أبناء المذهب العلوي إلى أحد هذه الأحزاب (ماعدا حزب الأخوان المسلمين حيث كان الانتماء للعلوي مستحيلاً) أي مشاكل في بيئتهم نتيجة الانتماء السياسي، على الرغم أن الحزب الشيوعي على عداء مع النظريات الدينية، ويعتبر الدين أفيون الشعوب، وكان هناك جزء من أبناء المذهب ينتمون له.

§       لم يتشكل في المرحلة السابقة (الدولة العلوية) أو في مرحلة نشاط الأحزاب السياسية السابقة أي حزب سياسي كوادره من أبناء الطائفة العلوية فقط، على الرغم من أن الظرف العام كان مواتياً في مرحلة الحكم الفرنسي وتشكيلها لدولتهم، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، بينما نشط حزب سياسي له طابع ديني صرف، ويعتمد على أبناء مذهب واحد هو حزب الإخوان المسلمين. أي بمعنى مكثف، لا وجود لظاهرة سياسية مرتبطة بالعلويين حصرياً.

3 تغلغل حزب البعث في صفوف العلويين

عاشت سوريا بين (1947-1958)  غلياناً سياسياً،، حيث كانت الأحزاب الناشئة الفتية تبني قواعدها الشعبية وتلهب حماس الجماهير، تتتالى الانقلابات في مواقع الرئاسة.  ظهر حزب البعث الحزب الفتي المحمل بالأفكار الثورية المتمثلة بالاشتراكية وبحلم أمجاد العروبة الماضي، والمهتم بشكل مباشر بالقضية الفلسطينية ،معلناً نصرته للكفاح الفلسطيني ضد المستعمر الصهيوني، وبذات الوقت يصر في كل أدبياته على أن العمال والفلاحين هم أداة التغيير وغايته، ويعتمد في نشر فكره في الساحل على قيادات ذات حضور جماهيري قوي (وهيب الغانم)، يتحدث إليهم عن حقوقهم في ملكية الأرض التي يزرعونها، وكانت حينها ملكاً للإقطاعيين، و عن ضرورة العلم ودوره في بناء المستقبل، وهو الطبيب العارف وهم التواقون لرؤية أبنائهم يملكون هذه الميزة، يحدثهم عن مأساة أخوتهم العرب الفلسطينيين، وماذا يفعل بهم الصهاينة مما يعيد إلى ذاكرتهم القمع الذي عاشوه فترة الحكم العثماني، لا يدخل معهم في الفكر الديني وأن الله مجرد أسطورة كما يفعل دعاة الشيوعيين حين يروجون لأفكارهم. كان حزب البعث بكوادره يلامس سقف أحلامهم ويحدثهم عن همومهم، بتلك اللغة البسيطة التي يفهمونها وبدأ يحصد نتائج إتقانه الترويج لنفسه، في الشارع العلوي من كان يشعر أن هذا الحزب هو حزبهم هم البسطاء وليس حزب النخب الاجتماعية ، وبهذه الطريقة الذكية أسس حزب البعث لنفسه قواعد قوية مؤمنة به داخل أوساط العلويين، دون أن يدخل بشكل مباشر في مفهوم الصراع المذهبي المخفي الكامن بين العلويين والإسلام الرسمي. يتحدث حزب البعث عن محاربة الإقطاع الذي أرهقهم لعقود وكان يمثل السلطة القمعية للمستعمرين وينتمي لغير مذهبهم، فاقترب معظم العلويين من حزب البعث وانخرطوا فيه.

المنافس الحقيقي لحزب البعث على فكر أبناء المذهب العلوي كان حقيقة هو جمال عبد الناصر القائد العربي الذي أخذ يسطع نجمه كقائد للأمة العربية متجاوزاً المفهوم الحزبي، ولم يجد حينها العلويون تضاداً بين انتمائهم للبعث وتعلقهم بجمال عبد الناصر، فحينها لم يكن ثمة صراع بين الناصريين والبعثيين، بل كان الكثير من البعثيين يروّجون للزعيم الصاعد الذي يمثل رمزاً قومياً عربياً، وهذا يتلاقى مع طرحهم لدور القومية العربية كمحرض لنهضة الأمة.

ومن الضرورة أن نلاحظ هنا أن أبناء المذهب العلوي لم يتعاطوا مع جمال عبد الناصر من حيث انتمائه المذهبي فهو سني المذهب، ولكنه لم يطرح نفسه بناء على خلفيته الدينية.

مصادر البحث  :


1د. صادق جلال العظم (الحل بسقوط العلوية السياسية)http://all4syria.info/Archive/136561

2فواز تللو: لا نصر إلا باجتثاث العلوية السياسية والعسكريةhttp://all4syria.info/Archive/152025?wpmp_switcher=desktop

3الكاتب ماهر شرف الدين (الاتجاه المعاكس)http://www.youtube.com/watch?v=q8z5e3OJIwo

[4]د.صبري محمد خليل/الطائفية: أسبابها واّثارها ووسائل تجاوزها/أبحاث ودراسات

[5]محمد أمين غالب الطويل- تاريخ العلويين

[6]كتاب الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية (الكاتب: سليمان أفندي الأذني)

[7]تاريخ العلويين (محمد أمين غالب الطويل)

[8]البلاد العربية والدولة العثمانية/ساطع الحصري/ ص:26-27

[9]العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية

[10]فلسفة التاريخ العثماني-رسائل السلطان(الدكتور عبدالحي رضوان)

[11]محمد كرد علي (نظرة الازدراء إلى العلويين)

[12]محمد هواش (العلويين ودولتهم المستقلة)

[13]رشيد فضل الله الهمذاني (تاريخ هولاكو خان- القاهرة-1960)

[14]صحيفة الجبهة (ثورة الشيخ صالح العلي ضد الانتداب الفرنسي 1918-1921)

[15]يوسف الحكيم (سوريا والانتداب الفرنسي) دار النهار بيروت 1983

[16]الكتاب سوريا عام 1941 الحرب المخفية (الناشر: بيران–باريس-2006)

http://www.alarabiya.net/articles/2012/08/31/235337.html[17]

 18(13) Ignace Leverrier، L’Etat alaouite en Syrie، une remontée de l’histoire، Un œil sur la Syrie,

27 – 7 – 2012، HYPERLINK “http: – – syrie. blog. lemonde. fr” http: syrie. blog. lemonde. Fr

[20]العلاقات المسيحية-الإسلامية والخلافات بين المسيحيين في الشرق الأوسط / الدكتور جان جوزيف / ترجمة حنا عيسى تومـا

[21]انطون سعادة (التعاليم السورية القومية الإجتماعية – الطبعة الرابعة)

[22]مذكرات الأستاذ عدنان سعد الدين (مراقب عام في الاخوان المسلمين)

[23]د. سليم ناصر بركات (الفكرالقومي والبنية الفاسفية عند زكي الأرسوزي)

[24]بداية تأسيس البعث في ذاكرة حسن أبو زيد