°
, March 28, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

مقالة في التقمص – ديمتري أفييرينوس .

في ضوء التعاليم الثيوصوفية

لا بد لكل إنسان في وقت ما من حياته , أن يطرح أسئلة جوهرية من نوع : من أنا ؟ من أين أتيت ؟ إلى أين أذهب ؟ وقد يتفق له أحيانا , إذا اشتد عليه الألم , أن يسأل : هل حياة الإنسان وسائر الكائنات مسيرة بالمصادفة العمياء ؟ أم أن العدل هو الذي يحكم العالم ؟ هل الله موجود ؟ ما الموت ؟ وما الحكمة منه ؟

لقد حاول الفكر البشري منذ القديم , أن يقدم إجابات على تلك الأسئلة الكبرى التي تميز الظاهرة الإنسانية عن غيرها من ظاهرات الطبيعة , فكان الدين بعقائده وطقوسه وأساطيره , وكانت الفلسفة بمنطقها وطبيعياتها والهياتها وأخلاقها , وكان العلم أيضا بفرضياته ونظرياته وتجاربه . لكن عدد البشر الذين لم يقنعوا تماما بالإجابات التي جاء بها الدين والفلسفة والعلم جميعا ليس بقليل . فلئن أسكتت هذه الإجابات جوع الفكر إلى حين قد يحدث ألا تروي البته ظمأ القلب إلى يقين يطمئن إليه , مما يدفع بالإنسان الباحث إلى التفتيش عن سبل أخرى أكثر إشباعا للفكر المخلص وأكثر ريا للقلب التواق . فلهولاء القلة من البشر تتوجه الثيوصوفيا بعقائدها في الالهيات metaphysics والكونيات cosmology وعلم النفس الروحاني spiritual psychology وبمنهاجها الباطني الذي يعتمد القياس analogyأساسا . فما هي الثيوصوفيا ؟ وما هي عقائدها الأساسية ؟

الثيوصوفيا هي ذلك الجسد الحي من العقائد المغرقة في القدم الذي وصلنا بالنقل والخبرة بواسطة الوجه الباطن esotericim من الأديان والفلسفات القديمة , ويعود بإسناده إلى الخبرات الروحية الكبرى التي حققها الجنس البشري عبر مسيرته الطويلة في بحثه عن الحقيقة والتي تجسدت في حكماء كبار من الشعوب والأزمنة . عرف هذا التراث الإنساني المشترك بأسماء عديدة مختلفة باختلاف الشعوب والثقافات التي ائتمنت عليه على كر العصور . وقد أطلقت عليه السيدة بلافاتسكي , التي كتب لها أن تنهض بإحيائه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر . اسم دين الحكمة the wisdom-religiom أيضا , بالإضافة إلى اسم ” ثيو صوفيا ” theosophia الذي يعني باليونانية ” الحكمة الألهية “ 1 ففي كل دين أو فلسفة أو علم قديم نقع على متوازيات إن في العقيدة ( الالهيات والكوسمولوجيا ونشأة الكون والإنسان والرموز ) أو في الميثولوجيا ( الأساطير ) أو في الخبرات الروحية الداخلية الرفيعة التي شهد لها أصحابها شهادات تكاد تتطابق .

يجدر بنا . قبل أن نبين موقع التقمص reincarnation من التعاليم الثيوصوفية , أن نؤسس لذلك بالأرضية العقدية التي تشغل من جسم الثيوصوفيا برمته موضع القلب المغذى , ونبدد , في الوقت نفسه , شيئا من تضارب الآراء السائدة حول الموضوع وشطط أصحابها , بحيث يستطع قارئنا الإمساك بطرف خيط يجنبه التيه في الآراء المتشعبة والاجتهادات الشخصية التي لا تقوم على أساس من خبرة داخلية صحيحة , ويشق بنفسه طريق الفهم خالصا من الأقوال الخاطئة في التقمص التي تحد من كونه المبدأ وشموليته الإنسانية وتعتبره امتيازا لفئة دون فئة أو لأصحاب مذهب دون غيرهم .

ثمة , وفقا للثيوصوفيا , مبادئ أساسية يقوم عليها دين الحكمة يمكن إيجازها بالنقاط التالية :

1.الكون كائن واحد لا يتجزأ , لا يولد ولا يموت , أزلي غير محدود , ويعمل كل فيه بتناغم مطلق . إنه حي وعاقل – ككل , وفي كل جزء من أجزائه . وهو , في كليته , هو تجل لمكونه الذي هو ” الله ” أو الواحد أو المطلق .2

2. ” الله ” من هذا المنظور , ليس ” كائنا ” مستعليا transceendent على الكون , ومنشغلا بأرضنا الصغيرة وسكانها وحسب – على كثرتهم – , أو بحفنة الملايين الذين يدينون بدين معين دون غيرهم , كما أنه لم يضع قوانين خاصة بأرضنا الصغيرة , أو بدين معين من أديان سكانها , لا تشمل وحدة الكائنات الأخرى كلها , والعوالم الأخرى كافة – لا بل الكل .

3. هناك عقل منبث في كل كائن , وهو بالتالي خالد . كل ذره حية فهي لا تفنى , لكنها في تطور ( تفتح ) أبدي , وهذا التطور يتم بالخبرة والمعرفة المتناميتين . الحساسية من صفات الذهن والمشاعر والشكل ( الجسم ) , وهذه الثلاثة تمثل العاقلة والعاطفة والعمل .

4. كل ما في الكون يعمل بمقتضى نواميس تنسحب على عاقلات كل الكائنات المتفتحة في الكل , فالبشر والكائنات الأخرى جميعا مشمولة بها ولكل كائن حصته من العقل التي يمثلها مستواه من الوعي ودرجة مسؤوليته بإزاء كل ما يتصل به . القوانين سارية في كل شيء , من الذرة إلى المجرة . من هنا لا وجود لمعجزات أو كرامات خاصة. كل خير يحظى به المرء هو نتيجة ما يفعل بمحض اختياره ليس إلا , وكل أذى يبتلى به هو عاقبة ما جنت يداه فيما مضى من أفعاله . تناغم الكل تناغم واحد غير منقسم .

5. كل كائن ” شعاع ” ray في الكل ومنه , وهو بذلك ينطوي بالقوة in potentia على كافة صفات الكل ومقوماته3 من هنا لا غضاضة على الإنسان أن يرى في الكائنات الأخرى جميعا ” أشقاء ” . بعض هذه الكائنات أسن منه من حيث الخبرة وبعضها الأخر أحدث سنا , ولكنها جميعا , دونما استثناء ., تشق لنفسها دربا في مدرسة الحياة عينها التي تبدأ بأول خبرات ” الشعاع ” كذرة حياة life – atom . وهذه توالي مسيرة تطورها وتعلمها الوئيدة , حياة بعد حياة , كالطفل يذهب إلى المدرسة يوما بعد يوم . وبذا فأن ” الشعاع ” يتجسد في كل الأشكال , المرئية منها وغير المرئية , الغليظة منها واللطيفة .

6. يستغرق ” العارف ” the knower” فينا أو ” المدرك الداخلي ” the perceiver within” زمنا غير محدود لبلوغ مستوى من الوعي – هو الوعي المنعكس على ذاته , أي وعي الوعي 4 – يستطع من خلاله أن يتساءل عن أصله ومآله , لا بل وأن يتوصل بأدوات المنطق والرياضيات ( الكونية ) إلى تعيين الموقع الذي يشغله في هذا الكون الوسيع , والى التعرف إلى القوى والطاقات المعتملة فيه والصادرة عنه , والى تلمس مساره في الوجود . وعندما يخترق ” المدرك ” حدود ظاهر الأشياء إلى بواطنها يتعرف , كشفا , وجود العاقلة الصادرة عن أصل الوجود – في نفسه وفي غيره من البشر الفانين الذين يتجلى من خلالهم الإنسان الخالد .

7. تمر أعمار عديدة ( كالسنين الدراسية ) قبل أن يحين أوان ” التخرج ” يوم يحصل المرء حكمة الأرض كلها أولا , ومن بعد حكمة الكون . كل أحد يصبح بدوره معلما لل ” أشقاء الصغار ” الذين لم يبلغوا بعد من الوعي والعلم ما بلغ . وكل أحد من البشر يتطور وفقا للقانون بالرصد والملاحظة , كما بالتجربة والغلط , متعلما كل حين من الكون الذي نحيا فيه , وتشكل كل مرتبة من مراتبه قوام ” مركباتنا ” vehicles ( المرئي وغير المرئي ) , والمواهب والخصال والمقدرات التي بوسعه أن ينميها فيه عبر تقرير مصيره وبمحض اختياره : لا حدود للحكمة والتعلم .

1. من كلمتي theos و Sophia اليونانيتين اللتين تعنيان على التوالي ” اله ” و ” الحكمة ” يعرف هذا بالتراث الروحي في باطن الإسلام باسم ” علم الخواص ” , تمييزا له عن علم العوام الذي يخاطب عامة الناس , كما انه يعرف بالهند ب ” العلم المستور ” gupta-viadya .

2. لا تعبر الثيوصوفيا عن المطلق باسم ” الله ” إلا بتحفظ شديد بسبب ما علق به من صفات بشرية anthropomorphic , وتفضل استعمال مصطلحات من نوع ” الحق الأسمى ” the ultimate reality لا تقيد مطلقيته إلا بالحد الأدنى .

3. ” كل ما في الكون متداخل بعضه في بعض . فالكون كله في الإنسان . وكل الإنسان في الكون . ثم أن الكون جسد واحد . فما لمستم أقل أجزائه إلا لمستموه بكامله .” ( ميخائيل نعيمة . كتابع مرداد ص 166 )

4. يقول دجدج : ” ما هي اذن الغاية من الكون , وما هو القصد النهائي للتطور من وجود الإنسان المفكر الخالد ؟ كل هذا من أجل خبرة النفس وانعتاقها , بقصد رفع كتلة المادة المتجلية برمتها حتى قامة الألوهية وطبيعيتها وعزتها . الهدف العظيم هو بلوغ وعي الذات … كل ذرة فهي حية وتنطوي على بذرة وعي الذات .” ( محيط الثيوصوفيا , ص 60 و 62 )

من كتاب ” مقالة في التقمص ” ديمتري أفييرينوس .  من مكتبة دار إيزيس , شارع العابد , جادة الجزائر . دمشق . سوريا