°
, March 28, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

العقل والعقلانية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر

– إن مصادر العقلانية في أي حضارة من الحضارات  توجد في  فلسفتها وقوانينها  ودياناتها, وهذه الحقول تتفاعل لتنتج مركبات مختلفة من الخطاب العقلي, وكانت الفلسفة في الحضارة اليونانية ملكة الحياة الفكرية وكان الفكر اليونانية أينما ساد عبر التاريخ يوجه الإنسان وقدراته نحو العقل والعقلانية,

وأوروبا في العصور الوسطى فقدت كثير من التراث اليوناني و التراث القانوني الروماني وفقدت الجانب الأعظم من التراث اليوناني الفلسفي وأخفقت في تأسيس تقاليد فكرية  خارج الكنيسة, ولقد أدرك المفكرون الذين درسوا العصور الوسطى أن استعادة التراث القانوني الروماني إلى جانب التراث الفلسفي اليوناني أدى الى ظهور عصر النهضة في اوروبا ونتج عن ذلك أشد مظاهر الاختلاف بين مفكري أوروبا ومفكري الشرق, وظهر تأثير التراث الإغريقي والروماني في صفوف الصفوة الدينية المسيحية ولدى المشتغلين بالقانون الكنسي اللاهوتي وسادت الروح العقلانية في شتى مظاهر الحياة الفكرية وكان أهم مصدر لهذا الاتجاه العقلاني كتاب طيماوس لأفلاطون حيث تأثر به المفكرون في أوائل العصر الحديث فبدت الطبيعة كياناً منظماً كاملاً والعلم الطبيعي يحتوي على نظام عقلاني من العلل والنتائج,  وارتفع الإنسان بصفته جزءاً من هذا العالم إلى المراتب العليا لأنه كائن عاقل وبقيت الفقرة الأساسية في كتاب أفلاطون مصدراً للاقتباس والشرح والإلهام حتى تاريخه وهي أنه لا بد لكل ما يخلق أن يخلقه خالق ؟ هل كانت السماء موجودة أم العالم دائماً دون بداية ؟ أم أن العالم خلق وكانت له بداية ؟ والأفلاطونية كانت قد انتشرت في حقول المعرفة كلها بما في ذلك دراسة الطبيعة والكتاب المقدس, كذلك كان من أهم المنجزات في تلك المرحلة اكتشاف الطبيعة وفصل عالمي الطبيعة وما فوق الطبيعة, وكان وليم الكونشي 1145 الفيلسوف الأهم  والأبرز في تلك المرحلة التي تعتبر بواكير التفكير العلمي الأوروبي, وقد أكد في تحليله لكتاب أفلاطون طيماوس أنه لا شيء يمكن أن يوجد بلا سبب وكل عمل هو عمل الخالق  أو الطبيعة, أو عمل صانع بشري يحاكي الطبيعة, وإن عمل الخالق  الأول دون مادة سابقة الوجود كخلق العناصر والأرواح يخالف مجرى الطبيعة  المعتاد لأن العذراء لاتلد  طفلاً, أما عمل الطبيعة فهو أن تخلق من الأشياء أشياء مثلها  واستتبعت فكرة الطبيعة هذه فكرتي التراتبية وسيادة القانون, واكتشف القروسطيون العالم بصفته كوناً واحداً  يتشكل من أجزاء متصلة متداخلة, والكون واحد منظم وقوانين الطبيعة تعمل مستقلة بذاتها عما سواها, كذلك يؤكد الأب تيري الشارتري 1156 أن لوجود العالم أسباباً وأنه وجد بتسلسل زمني يمكن التنبؤ  به, وهذا الوجود وهذا النظام يمكن التدليل على عقلانيتهما .

 

ومع أن الفارابي وابن سينا تأثرا بأفلاطون وأرسطو تأثراً عميقاً وطورا اٌراء فلسفية أفلاطونية لم تقبلها النخبة الإسلامية المتدينة لكنهما لم يطورا نظرة عقلانية للعالم كما فعل الأفلاطونيون الأوروبيون عندما أضافوا هذه النظرة إلى البنيان الأفلاطوني وإن المتكلمين الإسلاميين لم يتقبلوا صورة للطبيعة تتكون من علل طبيعية ولم يكونوا مستعدين إلى تقبل الفكرة القائلة إن الأحداث التي يصفها القرآن يمكن تفسيرها تفسيراً طبيعياً وهذا يوصلنا إلى أن تراث النقد الكتابي تراثٌ غربيُّ خالصُ لم يظهر في الفكر الإسلامي, إذاً النظرة الأوروبية في تلك المرحلة عززت أسس البحث العلمي الذي طورته النخب الدينية التي هيمنت على الحياة الفكرية فيما سعى الفكر الكلاسيكي في التشريع الإسلامي إلى التضييق على العقل البشري بصفته مصدراً من مصادر التشريع وإلى إلغائه بينما التزم الأوروبيون القروسطيون في حقول الفلسفة واللاهوت والعلوم الطبيعية بأن الكون منظم  تنظيماً عقلياً وإن الإنسان بصفته مساهماً في خلق هذا النظام قد حباه الله ملكة العقل, وكان هذا الالتزام الميتافيزيقي إرثاً إغريقياً بالدرجة الاُولى من خلال كتاب طيماوس لأفلاطون, كذلك فإن هناك فكرة الضمير في المسيحية التي تعود إلى الكتاب المقدس حيث بيّن الشراح المسيحيون أن الضمير بغض النظر عن مكانته هو ملكة قادرة على فرض السلوك القويم, وأصل كلمة ضمير يونانية تعني الوعي بالمعرفة   بشكلٍ عام, ولكن البعد الأخلاقي   للضمير احتل مركز الصدارة في المسيحية وكان الضمير يعني لدى الرواقيين وعي الإنسان بالقانون الأخلاقي الطبيعي  ووعيه بتطابق أفعاله مع القانون أو اختلافها معه, واعتبروا أن الضمير هو الحارس الرباني داخل البشر وبذلك فإن المسحيين القروسطيين عزوا للإنسان ضمير يعني وسيلة معرفية تسمح للفرد بالتوصل إلى الحقائق الأخلاقية وعزوا إليه أيضاً ملكة عقلانية.

وكانت حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر ثورة جعلت من الضمير الحكم الأعلى حتى  في صحة النصوص المقدسة, ونتيجة ذلك  تحرر العقل والضمير وأن  الانسان بالعقل والضمير  قادر  على فهم العالم وبمقابل ذلك كان الفقهاء المسلمون يقولون إن العالم أعقد من أن يفهمه كائن  محدود  فانٍ وحاصروا استخدامات العقل, وبعد الإمام الشافعي لم يضع أحد مبادىْ شرعية جديدة ولا يجوز إضافة أي مبادىْ بعد صدور أوامر الله لأن  الإجماع وضع الحلول لكل  المسائل الأساسية ولم يبقَ للأجيال القادمة ما يكتشفونه  وليس بوسعهم الإضافة ولم يكن هناك رأيٌ فلسفي يجعل الإنسان كائناً عاقلاً يستطيع أن يتوصل إلى الحقائق دون اللجوء إلى الوحي باستثناء الفلاسفة المعتزلة حيث كانوا على استعداد  لأن يعزوا  للإنسان قوى عقلية كاملة وقالوا بتبادل العقل والنقل, وكان  العقل عندهم هو الملكة التي جعلت الإنسان خالق أفعاله وقادهم هذا التفكير إلى أن الله لا يمكن أن  يخالف العقل والعدل, ولكن هذا الاْتجاه العقلي هزمه الاْنتصار السني الذي جاء نتيجة تعاليم الأشعري 935في القرن العاشر الميلادي وأعطى للشريعة السلطة الكاملة  بحيث غدت كل المسائل بما فيها الشرع والأخلاق مسؤولية الشريعة وأدى هذا إلى القطيعة بين الفلاسفة العقلانيين والشرع والأخلاق من جانب آُخر وكانت النتيجة أن تجمدا حتى يومنا هذا, لقد صاغ الأشعري مذهب الاكتساب الحتمي الذي يمسك الله فيه العالم بإرادته وإن قدرة الانسان على الفعل محكومة باكتسابه لهذه القدرة من الله,  ويرى هذا المذهب أن الله فاعل أفعال البشر في الواقع والبشر هم وسائل وأدوات فعله وقد غدا مذهب الاكتساب مفهوماً لاهوتياً رئيسياً  من مفاهيم علم الكلام عند الأشاعرة من القرن العاشر حتى القرن الخامس عشر, ونستنتج من ذلك أن أفعال البشر تعود إلى الله وبما أن الله قادر على إجبار البشر على فعل كل شيء مما ينفي المسؤولية عنهم, ومن الظلم معاقبتهم عليها.

لأنهم حسب هذا المذهب أدوات لتنفيذ  أوامر الله بحيث تصبح صفة الله [العدل ] موضع تساؤل من حيث مصير البشر في الدنيا والآخرة, ومن الظلم معاقبتهم عليها.

وإذا عانو ا البشر  من الظلم والحرمان فأن هذا الظلم جاء من الله نفسه وبالتالي مشكلة العدالة الإلهية ليس لها حل وفكرة الاكتساب هذه  حرمت الإنسان من أي قدرة على الفعل وكان هناك دائماً هجمات عنيفة ضد الاتجاه العقلاني  توجت بالهجوم الذي قاده ابن تيمية[1263_1328]ضد المذهب العقلي حيث انتقد الفلاسفة والمتكلمين على حدٍ سواء  وكان من نتائج أعماله نفي الفلسفة  من كلية الأزهر  بالقاهرة وظلت ممنوعة فيه إلى أن وصلت الحداثة في القرن التاسع عشر,

إذاً مفكروا الشريعة  واللاهوت في الحضارة الإسلامية ضيقوا القدرات العقلية عند الإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية  التي تعزى لجميع البشر لمصلحة السير على نهج السلف واتباع التقليد وعدم الغوص في أسرار الطبيعة أو النصوص المقدسة ودعوا إلى  الاعتقاد  بأن الحكمة الربانية  وإجماع الفقهاء أعلى من الفاعلية البشرية,  وأفضل ما توصل إليه الفكر العقلاني في تلك المرحلة أعمال المعتزلة ولكن منعوا من التجديد في الدين والفكر الديني مما أدى إلى إغلاق باب الاجتهاد  ولم يستطع أعظم المفكرين الإسلاميين في الحضارة الإسلامية بعد الغزالي أن يثيروا  حول قدرات الإنسان العقلية والمنطق البرهاني أي فتوى, وشددوا بدلاً  من ذلك على قوة التقليد المتمثلة في الشريعة والسنة وكان التجديد والبدعة في الامور الدينية رديفاً للهرطقة, ولم يستطيعوا وضع  تصور عقلاني للإنسان والكون كما فعل الأوروبيون القروسطيون  وكان ما توصلوا إليه من  نظريات فلسفية ولاهوتية  ثورة في  العقل والعقلانية والبحث العلمي أدت نتائجها إلى تغيير المجتمع القروسطي ووضع الأسس العلمية والفلسفية لعصر النهضة الأوروبية, بالمقابل تم التضييق في الحضارة العربية الإسلامية على القدرات العقلية للإنسان وتم إغلاق باب الاجتهاد وإغلاق العقل وما زال مغلقاً حتى الآن.

الخلاص مرهون بوعينا بذواتنا بكل نقائصها وتناقضاتها وليس بستر عيوبها,  إن الإنسان الأوروبي يعاني حقاً ولكنه يدرك  أنه يعاني ويستطيع أن يكشف عن جذور المعاناة  دون رقيب أو حجرْ على رأيه  ودون اتهام بالزندقة وبالخروج عن  المقدس والموروث ويواجه بجرأة وحرية مشكلاته مهما تباينت الآراء أو تعارضت مع اٌراء أخرى كانت لها قداستها,   واختلاف الآراء  والأفكار ليس عيباً  بل دليل خصوبة وثراء .

أزمتنا بحاجة إلى دراسة منهجية متميزة  تستهدف الكشف عن الجذور العميقة التي نبع منها فكرنا  وبيان العوامل التي صاغت عقلنا  وسلوكنا بكل ما نعانيه من نقائص ومزايا, والأجدر بنا أن ندرس مكونات فكرنا دراسة نقدية موضوعية وحرة ومتحررة من كل قيد, ويتعين علينا أن نتعلم أن نتفق  على أن نختلف وكل ذلك مرهون بالوعي والحرية علنا نصل إلى الخلاص  وإلا سنظل نضرب في العماء .

اعتدال الكفيري : دراسات عليا في الفلسفة .