v فكرة أولى (معنى الحوار):
جاء في المعاجم اللغوية العربية كلسان العرب وقاموس المحيط وغيرهما أن الجذر اللغوي لكلمة حوار هو حَوَرٌ و حَوْرٌ,وفي لسان العرب فإن الحور هو ((الرجوع عن الشيء وإلى الشيء)).((وكل شيء تغير من حال إلى حال فقد حار يحور حوراً)) ((والمحاورة : مراجعة الكلام)).((والحواريات من
النساء : النقيَّات الألوان والجلد لبياضهن وابتعادهن عن قشف الأعراب بنظافتهن)). ((والعيون الحور هي الأعين النقيَّات البياض والشديدات سواد الحدق)).
وهذا يذكرنا بعجز بيت من الشعر: (( والضِّدُّ يظهر حُسْنَه الضِّدُّ )).
وجاء في لسان العرب أيضاً: ((والحواري هو من رُوجِعَ في اختياره مرة بعد مرة فَوُجِدَ نقيًّا من العيوب )). و((حاورته:استنطقته)) و((الأحور قد يعني المرجع أو العقل)).((والمحور أداة تتوسط بكرة تدور حولها لشدِّ كتلة ما أو نقلها)).
ماذا نستنتج ممَّا سبق :
_الحوار حال من أحوال التواصل والتفاعل, والشائع منه ما يُمارَسُ عبر الكلام الذي يجري بين متحاوريْن أو متحاوريِن بهدف تنقية فكرة ما من عيوبها أو الوصول إليها ,وقد يكون الحوار لغاية التغيير أو التحول من حال إلى حال,والحوار هنا ذو طبيعة ارتقائية تغييرية يصبح الحال بعده على غير ما كان عليه قبله ويشترط التباين وحتى التضاد أحياناً, فالأبيض لا يحاور الأبيض بل يحتويه أو يُحتوى فيه. وهنا نُحذِّر من ادعاء التغاير والتباين من قبل من لا يملكون حقيقة التباين والاختلاف؛فالتباين حقيقة يجب على من يدعيها أن يمتلك شروطها, ومن الناس من لا لون له فيخالف الألوان جميعاً بغير حق بل قد يتخذ لنفسه أي لون وفي أي فترة ليغيره في فترة أخرى ويتنكر له. ومِنَ الناس مَنْ يكون مصاباً بعمى الألوان فلا يميز بين الأخضر والبني أو الأبيض والرمادي …..إلخ .
_الحوار يشترط الدوران الإيجابي حول محور ما, أي إنَّ له سياقاً ومحوراً ما وإلا يصبح {جدلاً سفسطائياً} فارغاً لا جدوى منه ولا معنى له ولا قيمة فيه.
_والحوار يشترط المداولة بين المتحاورين, والمداولة عكس الاحتكار والغلبة لطرفٍ دون آخر,وهذا يعني وجوبَ توفرِ مناخ ديمقراطي له.
_الحوار مرجعٌ حيٌّ يطوِّر نفسه باستمرار يُغني المتحاورين ويغتني بهم.
_إ ذا كانت شِدَّة البياض تظهر جمال شدة السواد وبالعكس فإنَّ الحوار يشترط التكافؤ بالمعرفة أو بالاهتمام أو بالإحساس أو بالتطلع أو سواه أو توفر قدرة على التقاط وتحسس السياقات التي يجري الكلام ضمنها .
_الحوار استنطاق يحفز لدى الآخر طاقة التواصل والتجاوب والتفاعل .
_والحوار يشترط الاعتراف بالآخر وبحقه في الوجود, فالمحاور يلغي نفسه إذا كفَّ الآخر عن الوجود, واللون تتحدد قيمته اللونية بوجود مجاوراته من الألوان .
v فكرة ثانية (معنى الثقافة):
الثقافة لغةًً هي العملية التي كانت تُجرى باستخدام أدوات خاصة تُسوّى بها عُصيّ الرماح فتقوّم اعوجاجها وتهذب عيوبها , وبغض النظر عن الدلالات المتعددة لهذا المفهوم والتي تكرست بفعل التداول القائم على خصوصية التجربة للمجتمعات أو للأفراد , فإن هذا المصطلح يتداوله الكثيرون بالكثير من اللبس , وهنا لابد من التفريق بين الثقافة والتحصيل العلمي أو الأكاديمي أو المهني الذي يتأتى بفعل الحفظ وتخزين المعلومات ويجري ضمن سياقٍ نفعيّ لا يرضى إلا بمردودٍ سريع ومباشر وسطحي أحياناً , ومعروف أن (الكومبيوتر) أعظم خازن للمعلومات ولكنه ليس مثقفاً .
و الثقافة – بمعنى ما – هي عملية تقويم تجري للكائن حيث تجتمع وتتفاعل استعداداته الفطرية ومعارفه وخبراته وإحساساته وقدراته المتنوعة للتعاطي مع الحياة وما فيها ومن فيها بشكل أكثر صحة وتوافقية مع نواظم الوجود ومصلحة الإنسان بصفته كائناً نوعياً وصاحب هذا الكون .
والمثقف (ولا يوجد مثقف بالمطلق لأن التثقيف هو عملية مستمرة استمرار الحياة نفسها بدءاً من تشكل الإنسان في الرحم وحتى سنواته الحاضرة ناهيك عن مورثاته ) هو من طالت الثقافة بنيان شخصيته كاملاً . وضمن هذا السياق يقول إريك فروم :((إن الفرد نظام أو بنية كلية,وإذا حاولتم القيام بتغييرات طفيفة أو جزئية في شخصية ما سرعان ما تجدون أن هذه التغييرات ستزول بعد فترة من الزمن , أو أنها لم تعدل من النظام الكلي للشخصية )) . فالنظام العام للشخصية يعود ليفرض نفسه على الجزء الذي تغير ويعدل فيه ويجره بما يتناسب معه ككل ضام .
ومن هنا فإن كتباً من قبيل (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر فيهم ) أو (كيف تكون محاوراً جيداً ) أو ….. إلخ . حتى لو كانت تكسب الإنسان مهارات محددة فإنها قد تعمق أزمة التواصل مع نفسه والآخرين تواصلاً حقيقياً جوهرياً لأنها لا تعنى ببنية الإنسان الكلية .
ومن العيب أن نرى طبيباً لا يستطيع تذوق قصيدة شعر , أو لا يستطيع ولا يعرف كيف يتأمل نجمةً أو شجرة , وكذلك أن نرى شاعراً لا يتذوق الموسيقى أو لا يتحسس الحق من الباطل .
وبهذا المعنى بإمكاننا أن نشير إلى أن هناك عيناً مثقفة هي الأقدر من سواها على رؤية والتقاط ما لا تستطيع عين أخرى رؤيته والتقاطه , وأذناً مثقفة تتحسس التناغم أو سواه بين الأصوات المشتركة , ولساناً مثقفاً , ويداً مثقفة تستطيع القيام بعمليات معقدة مثل العزف على آلة موسيقية أو النحت والرسم , وتستطيع المصافحة بمحبة , …إلخ .
وهناك أيضاً عدا ثقافة الحوار التي لا تقل أهمية عن الأفكار أو المضامين المطروحة للتحاور , هناك ثقافة الإصغاء وثقافة الصمت وثقافة الجسد وثقافة الحب … إلخ .
v فكرة ثالثة (وجهان للحوار لا يستقيم إلا بهما ):
إذا كان الحوار يتطلب قدرةً على الفهم وامتلاك لغة سليمة يستطيع المحاور من خلالها أن يحقق تواصلاً جيداً مع آخر أو آخرين , فإنه يتطلب وبالشدة نفسها امتلاك قدرة على الاستماع و الإصغاء لذلك الآخر أو لأولئك الآخرين , وإلا لا يعود محاوراً بل يصبح خطيباً أو واعظاً أو معلماً أو محاوراً وما إلى ذلك , أو قد يكون ممن يعانون من ضعف ملكة التواصل لأسباب نفسية عقدية أو لأسباب تربوية ثقافية .
والإصغاء فعالية نفسية شديدة التعقيد أولاً , وهو طاقة عقلية تتضمن القدرة على التحليل والتركيب والأرشفة والتذكر والفهم والتقاط وجهة الحوار ومساره وتعقيداته ثانياً, وهو ثالثاً يشترط أن يكون المرء يعيش ضمن مناخ ثقافي يعلي من قيمة الفرد واحترام رأيه والاستماع إليه والاعتراف بحقه في ذلك .
وحسب إريك فروم فلا يمكن للمرء أن يصغي للآخرين إلا إذا كان يمتلك قدرةً على الإصغاء لنفسه : ((إن إصغاء المرء إلى نفسه شديد الصعوبة لأن هذا الفن يقتضي قدرةً أخرى نادرة في الإنسان الحديث ؛ هي قدرة المرء على أن ينفرد بذاته , ونحن في الحقيقة أنشأنا رهاب الانفراد ونفضل أتفه صحبة أو حتى أبغضها وأكثرها خلواً من المعنى على أن ننفرد بأنفسنا)) . ويتساءل (( أ لأننا نعتقد أننا سنكون في صحبةٍ بالغةِ السوء )) .
بقي أن نشير وحسب (فروم) أيضاً إلى أن ما يهدم الحوار : الدوغمائية أي التعصب والتحجر وادعاء امتلاك الحقيقة , و النسبوية التي تؤدي إلى العدمية في المعرفة واللا أدرية كأن نقول مثلاً : إن كل إنسان جيد وسيء , وكل فكرة صحيحة وخاطئة , فيصبح (هتلر) مثل (المهاتما غاندي) , و (أحمد عدوية) مثل (خوليو أغليزياس ) , و(فيروز) مثل (هيفاء وهبي) … إلخ
صايل الكفيري . ناقد أدبي . فنان تشكيلي . السويداء لموقع : www.salehalali.com