يُرجع علماء الاجتماع السياسي وفقهاء القانون السياسي الدولةَ إلى ثلاثة أركان: (السلطة، الشعب، الأرض)، ويعدّون أن قيام هذه الأركان يشير إلى قيام دولة مكتملة الأركان. وإذا أردنا البحث والتنقيب عن أسباب انهيار الدولة السورية، وانقسام الشعب السوري، وتحوّل أرضه إلى إقطاعات ومزارع وكانتونات؛ وجب علينا البحث عن العوامل التي تحمي الدولة من الانهيار، والأوطان من الخراب، عند الأزمات الكبرى، وعندما تهدَّد السلطة، وهي ركن من أركان الدولة، عبر الثورات أو الانقلابات أو التدخلات الخارجية، فكثيرٌ من البلدان جرى فيها تغيير للسلطة، وبقي الشعب عصيًا على الانقسام، والجغرافية محمية من التقسيم.
ما الذي يدفع المرء إلى حمل السلاح دفاعًا عن بلده، أو القتال تحت راية دولته؟ ما الذي يدفع الجيوش إلى أن تخوض الحروب دفاعًا عن الدولة وحدودها؟ ما الذي يدفع الناس إلى توكيل السلطة في حفظ النظام العام، حتى لو كان في هذا التوكيل تنازل عن بعض حقوقها؟
يبدو لنا أنّ جوهر تماسك الدولة يقوم على التلاحم الوطني بين أفراد الشعب، وعلى مستوى العاطفة الوطنية والشعور بالانتماء للأرض، فرحيل أي سلطة -سواء عبر صناديق الاقتراع أو عبر صناديق الرصاص أو عبر أي شكل من أشكال التغيير السياسي الهادئ أو العنيف- لن يؤثر في جوهر الدولة، ما بقيت الوطنية بين أفراد الشعب، والعاطفةُ الوجدانية المؤمنة بتراب الأرض.
الوطنية هي الحالة العاطفية والوجدانية التي تشحن المرء ليتعلق بوطنه، وتدفعه إلى العمل والإخلاص لبلده في أوقات السلم والحرب، كما جاء في شعر امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.. بسقط الّلوى بين الدخول فحومل.
يبدو لي أنّ تحطيم سورية وانقسام شعبها وانهيار دولتها وخراب عمرانها وتهديد جغرافيتها بالسلخ والتقسيم، راجعٌ أساسه بالدرجة الأولى إلى غياب الوطنية السورية، وفقدان الشعور بالانتماء إلى سورية، لدى جمهور النظام والمنافحين عنه بالسلاح والطائرة، ولدى جمهور الثورة الذين تجاوزت بندقيتهم أهداف السوريين وطموحاتهم، مع جزء كبير من نخبة الثورة الذين كانت الثورة وسيلة لبناء طموحاتهم الشخصية!
مظاهر عدم الانتماء إلى سورية الشعب – الأرض
قلنا إنّ الجيوش تحمل السلاح دفاعًا عن أوطانها، ليس من باب الوجوب القانوني والعسكري فحسب، بل من باب الوجوب الوطني والأخلاقي، فالعسكري عندما يخدم في التجنيد الإجباري، أو الضابط الذي يتطوع في المؤسسة العسكرية، يكونان قد أبرما عقدًا يتنازل فيه عن حياته لوطنه، عندما يتعرض الأخير لتهديد خارجي أو عدوان عسكري، ولذلك يسمى التجنيد الإجباري، في كثير من البلدان، بـ “خدمة العلَم”، العلم الذي يرمز للوطن والتاريخ والشعب.
قبل وصول الأسد إلى السلطة، كان الضابط أو العسكري ينال احترامه في المجتمع السوري، بسبب أن الناس كانت ترى في ذلك الضابط أو العسكري أو الشرطي موظفًا لحماية الشعب والدولة والأرض، ويحمي السلطة المعبرة عن تطلعات الشعب.
مع وصول الأسد إلى السلطة، بدأت مظاهر التداخل بين السلطة والدولة أكثر فأكثر، حتى وصلت الأمور إلى الحد الذي يدفع بها السوري رشاوي كبيرة ليهرب من خدمة العلم، فالعَلم هنا أصبح لا معنى له، ولا روح تُشعر السوري بالانتماء إليه، وأصبح التطوع في الجيش ليس من أجل حماية الدولة أو الدفاع عنها، بل لحماية السلطة أو الطائفة، في حين قبْل أن تتوغل الأسدية في مفاصل المجتمع السوري، كان الضابط يحمل شعور الانتماء إلى سورية، كما حدث مع سليم حاطوم المحكوم بالإعدام غيابيًا، عندما رجع من منفاه إلى سورية ليشارك في حرب الدفاع عنها، فكان مصيره التعذيب والإعدام.
لقد نجح الأسد الأب في تحويل جيش سورية من جيش وطني إلى جيش بلا روح وطنية مطلقًا، وفي صنع جيش بعثي يؤمن بأيديولوجية البعث، لتحلّ الروح الأسدية في هذا الجيش، وتصبح عائلة الأسد هي الأرض والشعب والوطن والعلَم، وبهذا الوضع الخطير لم يكن مستغربًا انتقام هذا الجيش من شعب صرخت حناجره بلعن هذه الروح الأسدية.
مع قيام الثورة السورية، كانت المطالبة بتغيير علَم سورية تعبيرًا عن أزمة الانتماء إلى هذا العلم، أكثر من كونه تعبيرًا عن كونه علم النظام أو علم الاستقلال، هي أزمة انتماء وطني بالدرجة الأولى، لتدخل الأعلام الصفراء والسوداء بعدها تأكيدًا لأزمة الانتماء عند السوريين.
التعفيش وسرقة بيوت السوريين الذين انتفضوا ضد النظام السوري هو أبشع جريمة اجتماعية تحمل دلالات الانقسام السوري العميق، وفقدانَ الانتماء إلى سورية، فغنائم الحرب -كما تُسمى في تاريخ الصراعات والحروب- تختلف عن المشهد السوري وتعرّيه أخلاقيًا، كثيرٌ من الجيوش دخلت مدنًا أو تعرضت لغزوات وحروب، ولم تحدث فيها تلك المشاهد المروعة القادحة في الانتماء إلى سورية، نحن نتحدث هنا عن شعب داخل شعب، وعن جيش من الشعب، وفيالق من المعفشين، هم من أهلنا وجيراننا، وليسوا من أعداء جاؤوا من خارج الحدود، هناك دول تعرضت لحروب كبيرة سارع الشعب إلى حماية آثاره ومخطوطاته وفنونه، بينما في سورية سارعت فيالق من البربرية السورية إلى سرقة هذه التحف والمخطوطات والفنون، لبيعها لمافيات الثورات والحروب.
في بدايات الثورة المسلحة وبداية خروج الأراضي السورية عن سلطة النظام ووقوع هذه الأراضي تحت سلطات ثورية أو جهادية، قام كثير من اللصوص السوريين بقطع أعمدة الكهرباء الخشبية من أجل سرقة كبال الهاتف المصنوعة من النحاس الغالي ثمنه، وسرقة المحولات الكهربائية لفك الملفات النحاسية داخلها، وقطع أشرطة الكهرباء المصنوعة من الألمنيوم وتجميعها وبيعها للتجار المحليين والإقليميين، بل إنّ من أشد صور التعفيش إيلامًا وقدحًا في وطنية السوريين فكُّ سكك حديد القطارات وبيعها (خردة وسكراب)، فكما نعلم أنّ المعادن -سواء أكانت ذهبًا أو حديدًا أو نحاسًا أو ألمنيوم- هي ثروات للأمة، وهي جزء من ميزانية الدولة وممتلكات الشعب، وإنّ تهريبها والمتاجرة بها تعبير خطير عن فقدان الشعور بالانتماء إلى سورية الوطن .
تعامل السوريون بعد الثورة السورية، على ضفتي الثورة والنظام، بالمنطلقات نفسها، على الرغم من اختلاف التجليات، فهناك كان التعبير عن عدم الانتماء لسورية من منطلق “الأسد أو نحرق البلد”، وهنا كان التعبير غير المنتمي إلى سورية: “أنا ومن بعدي الطوفان، إذا ما خربت مارح تعمر، ولست أنا وحدي من سرق، وأتحدى فلان المعارض السياسي أن يكشف من أين مصادر ثروته”، وعشرات العبارات التي تدل على أزمتنا الوطنية والسورية العميقة.
ومثال على ذلك، هروب مئات آلاف السوريين إلى خارج سورية، ونتحدث هنا عن الذين وقفوا على أرجلهم، واستقرت بهم الأحوال في تركيا وأوروبا، وليس عن ساكني الخيم والمخيمات، لو استطلعنا المعنى السوري اليوم عند معظم السوريين في الخارج؛ فسنجد أنّ الهمّ الشخصي والخلاص الفردي هو المسيّر لأحوالهم اليومية، ويبدو الارتباط بسورية يتلاشى يومًا بيوم، ولا يستنكف البعض من شتم سورية، ولم يخجل أحد أشهر المشرفين على صفحات اللجوء في ألمانيا من قوله: “السوريون لا يتمنون أن تتوقف الحرب في سورية، خوفًا من إرغامهم على الرجوع إليها وقد أصبحت دولة آمنة”، وعشرات القصص التي توحي بانفجار السوريين وانشطارهم وفقدان المعنى السوري داخلهم، وهذا يدفعنا إلى القول: كما أنّ الأسدية أفقدت السوريين شعورهم بالانتماء إلى سورية، فإنّ الثورة السورية ونخبتها السياسية والثقافية عجزت عن توليد شعور حقيقي بالانتماء إلى سورية، واسترجاعِ الروح السورية كبديل للروح الأسدية في الجسد السوري المشرف على الهلاك.
نعم، إنّ أسّ الخراب والدمار السوري هو فقدان الوطنية السورية، وعدم الشعور بالانتماء إلى سورية الوطن عند الأقليات السورية والأغلبية السورية، سواء من الذين يرون أن هويتهم السورية تتكون بدلالة آل الأسد أو من الذين لا يرون سورية سوى معبر للقدس، فثمة تشابه بين الحلم الشيوعي الأممي والحلم الإسلامي الأممي والحلم القومي العربي؛ هذه الأحلام التي ساهمت في تخريش النزعة الوطنية لدينا، وغيبت شعور الانتماء الوطني في نفوسنا وقلوبنا، فأصبحت عواطفنا نحو “الستالينية البكداشية” أو “الدولة الإسلامية” الإخوانية والجهادية والناصرية، فكان هذا الجو الذي يتحكم فيه الأشخاص والأحلام بأفكارنا وعواطفنا عاملًا مساعدًا في تهيئة الظروف لخلق الأسدية وأنصارها، وغاب الجو الديمقراطي الذي يخلق العاطفة الوطنية والعلَم الوطني والسلطة الوطنية، والأهم الشعب المنتمي إلى أرضه والمخلص لوطنه، وكما يقول فيلسوف الديمقراطية ألكسيس دو توكفيل: “ترتكز الديمقراطية على هويةٍ متماسكة تستند إليها الأمة، ولا وجود للديمقراطية من دونها، لأنّ الديمقراطية وحدها لا تقدم قراءةً تاريخية أو رؤية مستقبلية تحافظ على التماسك الاجتماعي، فالأمم التي لا تقدم تعريفًا أساسيًا لأولئك المستفيدين من ثمار المواطنة في كيانها السياسي، وتفشل في توفير البدائل للعلاقات الإقطاعية، هي الأقل احتمالًا لتأسيس ديمقراطية”.
منصور حسنو : ضابط ومدرس فلسفة سابق .
المصدر :
https://geiroon.net/archives/154051