كتب العديد من المفكرين والباحثين العرب عن “الأريفة” أو “الترييف” كل من مقاربة مختلفة، وخصوصاً من الناحية العمرانية بالمعنى المديني، بيد أن هذه الظاهرة تجاوزت في أثرها الطابع العمراني ليصل إلى كافة بنى الدولة والمجتمع الفكرية والسياسية والمؤسساتية… إلخ.
لقد أدى زحف الريف على المدينة منذ بداية الاستقلال إلى ظاهرة “الأريفة” بكافة مضامينها، وذلك على عكس السياق التاريخي في المجتمعات التي تقدمت، حيث زحفت مظاهر المدينة إلى الريف وصولاً إلى مزيد من التمدن عمرانياً وفكرياً ومؤسساتياً، بفضل -ما يُعرف- بسياسات التخطيط الإقليمي التي ربطت البعد التنموي بالبعد المكاني.
هذه الهجرة من الريف إلى المدينة التي طالت معظم المدن، لم تكن مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، بل كانت انتقالاً للمجتمع الريفي بقيمه وتقاليده وأعرافه وعصبياته إلى المجتمع “المديني” أو الحضري دون المرور بفترة انتقالية يتم فيها تفكيك تلك القيم والأعراف بما يساعد على التأقلم والانسجام والاندماج في بنى المجتمع “المديني” بطرائق تفكيره وأنماطه السلوكية والحياتية.
لو نظرنا بعمق إلى مدننا الكبرى كدمشق وحلب (كما معظم المدن العربية) لوجدنا أنها تعاني من نوعين أساسيين من “الأريفة”: “أريفة العمران البنائي” و “أريفة العمران البشري”، يتكاملان في إفراز مظاهر عديدة من التشوه.
لقد تحولت معظم هذه المدن بفعل عدم الكفاءة وغياب الرؤية والبصيرة إلى أكوام من الإسمنت المسلح المتراصة بطريقة فوضوية، تتخللها أكوام من الأوساخ والطرق المهترئة وغير المصانة، مع غياب أي نظرة جمالية في التصميم العمراني. ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين الأحياء الموروثة خلال العهد الاستعماري وتلك التي أقيمت في ظل “العهد الوطني”، لتبين لنا بأنه تم مراعاة التصميم العمراني والحضاري “المديني” في الأولى وغاب التخطيط العقلاني في الثانية، حيث ساد منطق “أريفة المدن” من خلال تكديس الأبنية بطرق لا تمت للعمران “المديني” ونحو تشويه فاضح لمنطق التمدن من خلال نشوء أحياء جديدة عبارة عن كتل إسمنتية دون أي روح ودون أدنى تصميم “مديني” حيث لا أسواق مهيئة تغزوها أسواق فوضوية… لا أماكن للترفيه … طرق وأرصفة لا تتوفر فيها أدنى المواصفات… وزاد ذلك نشوء العشوائيات التي تحولت إلى “ثكنات ريفية” في قلب المدنية، حتى يخال المرء بأنه في ريف من الأرياف المشوهة وليس في مدينة حضرية.
أُضيف إلى “أريفة العمران البنائي” نوع من “أريفة العمران البشري” حيث أصبحت المدينة مدينتين أو مجتمعين: مجتمع يعيش في الأحياء الفاخرة (لكي لا أقول الراقية) على إيقاع المدينة، وآخر يعيش في أحزمة الفقر والعشوائيات على إيقاع الريف بكل ما لذلك من إسقاطات قيمية وفكرية وسياسية، واجتماعية…إلخ. نوع من إعادة الهندسة الاجتماعية للمدينة.
هذه الهندسة الاجتماعية للمدينة بما تضمنته من خلل ديموغرافي المضاف إلى الخلل العمراني، أدت إلى نوع من التزاوج بين نمطين من أنماط العيش بإيقاعين مختلفين، الذي أدى بدوره إلى إحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية وقيمية عميقة على المجتمع “المديني”. وفي ظل غياب وضعف المؤسسات المدينية في المجتمع تّم إحياء المتخلف من قيم المدينة والريف، أذخلنا في سياق تآكل تدريجي وتهميش ممنهج لدور الطبقة الوسطى في المدينة، والتي تشكل –كما هو معروف- قلب البنية الحضرية والثقافية للمدينة والضامن لاستقرارها الاجتماعي، وحداثتها تقدمها الاجتماعي.
وباعتبار أن “الأريفة” تتعدى كونها مظهرا اجتماعيا لتشكل منظومة متكاملة من المفاهيم والرموز والميول النفسية، وباعتبار أن التمدن ليس حاجة ترفية وإنما ضرورة يقتضيها بناء مؤسسات المجتمع والدولة على صورة حداثية، فإن هذا الوضع من “الأريفة” غير المندمج في مجتمع المدينة أدى إلى إضعاف مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء. فحاملو القيم والأعراف العصبية الريفية بكثافتهم الكمية وليس النوعية اخترقوا المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، ووصلوا إلى قمة هذه المؤسسات (وهذا حقهم الشرعي استناداً لمبدأ المواطنة) وفرضوا قيمهم القروية العائلية “الأبوية” عليها*، فحولت هذه المؤسسات إلى نمط من المزارع، مما أدى إلى العجز عن بناء دولة المؤسسات والقانون، والفشل في تأسيس مؤسسات حقيقية للمجتمع المدني.
لذلك فإن منطق المؤسسة المدنية لم يولد في سوريا، وما نراه لا يعدو كونه نمطاً من صيغ علاقات وطريقة إدارة ريفية لمؤسسات الدولة والمجتمع، ترتدي مسوح المؤسسة المدنية وتتلبس الشكل الخارجي للعمل المؤسسي بينما هي في حقيقتها ريفية.
فتحولت المؤسسة إطاراً أو أداة لإضفاء الشرعية على علاقات الهيمنة العائلية داخل المؤسسة. أي أنها أنتجت نمطاً من “الترييف” بل “التزييف” لمؤسسات الدولة والمجتمع من خلال توزيع أو إشغال أو إسناد المواقع المؤسسية بناءً على قاعدة الولاء لا قاعدة الكفاءة. فأنتجت “قيادات” لهذه المؤسسات تعاني الازدواج في الشخصية حيث تتصارعها قيم العائلية الريفية وقيم المؤسساتية المدنية، فوقعت في العجز وعدم الفاعلية.
باعتقادي هذا “الترييف” لمؤسسات الدولة والمجتمع أفرز نمطاً من التفكير في المجتمع قائم على روح القدرية وعدم الرغبة في التغيير، الذي أفرز بدوره نمطاً من “ثقافة الاعتزاز بالذات” على حساب “ثقافة الإنجاز للمجتمع”.
*ملاحظة: في استخدام مصطلح “الأريفة” أو “الترييف” لا يُقصد منه على الإطلاق عدم أحقية أبناء الريف في تسلّم قيادة الدولة، ولا يقصد منه رفض قيم الريف النقية، وإنما القصد منه هو عدم إصباغ أو سيطرة القيم الريفية القدرية والعلاقاتية على العمل المؤسساتي الذي تتسم به المدينة والمدينية، والتي تعتبر أساساً لتقدم الدولة والمجتمع .
المصدر :