…أغرق في كابوس من الظلمات الغبارية , ولا أدري أين أنا , أعرف أنني في مكتبي في المركز , ولكنني أسير في الوقت نفسه مراهقا صغيرا في الليل عبر أزقة بلدتي ,متلمسا طريقي بصعوبة في الظلمة , حيث تم منع التجول وقطع الكهرباء فيها , أرتعد رعبا من صوت مفاجئ” قف مكانك , لا تتحرك , أرفع يديك , أدر وجهك نحو الحائط ” .
أتصبب عرقا وأرتجف كخرقة بالية , أكاد أسقط على الأرض , يقترب مني خمسة شباب مسلحون , أعرفهم من ملابسهم المبرقعة , شباب اللجان الثورية المناضلة ضد الرجعية , يفتشني أحدهم فيما توجهت إلي ثلاثة بنادق وقاذفة مضادة للدبابات وصاروخ مضاد للطائرات , والأصابع كلها على الزناد , يختنق صوتي وكأنني ولدت أبكم .
يقول من يجس جسدي ” لا شيء معه , لا حزام ناسف , لا سيف , لا ساطور , لا فأس , لا قوس نشاب ” .
يسأل من يبدو قائدهم ” ابحث جيدا يا رفيق وتأكد و ربما معه خنجر , سكين , شفرة ؟ “.
يقترب مني القائد , شاب صغير في العشرين من عمره , يحمل بندقية في يده , والمسدس في حزامه , وتتدلى رمانتان يدويتان من نطاقه , وبعينين تلتمعان في ظلمة الليل يرفع يده إلى وجهي ويتلمس الشعيرات الناعمة الطرية التي تغطي ذقني , التي لم أحلقها منذ أشهر كي أشعر بأنني أصبحت رجلا , ويسألني بصوته الصبياني ” أين هويتك الشخصية يا أخ ؟ ” .
أجيبه متلعثما ” لا زلت تحت سن الثامنة عشرة , ليست لدي هوية , وأنا لست أخا ” .
” ما اسمك ؟”.
نسيت اسمي من الرعب , فقلت بتأتأة شديدة ” اسمي جورج محمد , اقصد محمد جورج ” .
“من أين لك هذا الاسم ؟”.
” في حارتنا عندي خالتان , واحدة اسمها أم خالد والثانية أم أنطون ” .
“ماذا تفعل في هذه الساعة المتأخرة من الليل بالرغم من منع التجول ؟ ” .
” كنت في الصيدلية فتحها جارنا خصيصا لي لدقائق , واشتريت ضمادا ودواء مسكنا للألم , جرحت يدي وأنا أفتح علبة سردين فشعرت بصداع شديد في رأسي ” .
تفوح من جيبي رائحة زجاجة السبيرتو , فيعلق الذي يفتشني ” لا تخف , إذا كنت تشرب كحولا عند الأصدقاء , فهذا شيء جيد , لولا مهمتنا النضالية لشاركناكم ” .
يعود القائد ويسألني ” لماذا لم تصبح رفيقا ؟ ” .
. . .
من رواية مازن عرفه ” وصايا الغبار “ الصادرة عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر .