الرئيسية / ثقافة / الديموقراطية مضمون الدولة الوطنية

الديموقراطية مضمون الدولة الوطنية

الديموقراطية بالتعريف هي مضمون الدولة بوجه عام , ومضمون الدولة الوطنية الحديثة بوجه خاص . فليس للدولة مضمون سوى المجتمع الذي ينتجها والشعب الذي ينتمي إليها , ولذلك تسمى دولة وطنية ,

أو قومية ولا فرق , و دولة الشعب . ودولة المجتمع . والدولة الأمة . ويعرّفها بعضهم بأنها ” المجتمع السياسي العمومي ” في مقابل المجتمع المدني , ما يعني أن علاقة الدولة بالمجتمع هي علاقة الشكل بالمضمون , أي علاقة المجتمع بأحد أشكال وجوده .” الدولة غير الديموقراطية هي تناقض في ذاتها ” , أي هي شكل متناقض مع مضمونه , نظام حكم متناقض مع المجتمع , وسلطة متناقضة مع الشعب . ( أنظمة الحكم القديمة والوسيطة , قبل ظهور ممالك وإمارات وإمبراطوريات , أو خلافة أو سلطنة , تقوم , في الأعم الأغلب , على علاقات التبعية والولاء , التي تفرضها القوة والغلبة والقهر , فكانت بالأحرى سلطات أو أنظمة حكم مستبدة لم تفلح أي منها في دمج جميع رعاياها في مجتمع موحد , وجعلهم أمة وشعبا ومنحهم هوية وطنية أو قومية .ومن ثم فإن مفاهيم الدولة والمجتمع والشعب والأمة وحكم القانون وسيادة الشعب وغيرها مفاهيم حديثة ) .

 

الدولة , وفق تعريف الحقوقيين , أرض وشعب وسلطة سياسية عليا , ذات سيادة . الشعب ( ديموس ) والأرض والسلطة السيدة ثلاثة وجوه لحقيقة واحدة هي الدولة الوطنية , التي تعبر عن سيادة الشعب على نفسه وعلى أرضه وعلى نظامه السياسي . الشعب هو الذي ينتج السلطة السياسية , وهو الذي يمنح الأرض معنى سياسيا وأخلاقيا , ويجعل منها وطنا (الأرض بلا دولة هي مكان إقامة مؤقت موضوع تنازع ) الأرض والسلطة العليا مضافان إلى الشعب . الأرض هي الواقع الطبيعي , والشعب هو الواقع السياسي , والسلطة العليا هي الواقع الأخلاقي . وهذه ثلاثة وجوه , وثلاثة أشكال للواقع العياني , أي للوجود الاجتماعي المباشر ( المجتمع المدني هو الواقع الاجتماعي / الاقتصادي الثقافي ) . وفق هذا التحديد , لا يمكن اختزال الديموقراطية إلى ” نظام حكم ” تعيّنه ” آليات ديمقراطية ” , كالتمثيل والانتخاب , كما يظن الكثيرون عندنا , وليست مجرد حكم الأكثرية العددية , والإثنية أو المذهبية , بموجب صناديق الاقتراع . الديموقراطية ثقافة . بكل ما تنطوي عليه الثقافة من معان , تشمل العادات والتقاليد وأنماط السلوك وأشكال التواصل والتعارض , فضلا عن الأفكار والتصورات والعقائد والأساطير والآداب والعلوم والفنون , ونمط علاقات وطنية / إنسانية تعاقدية وتواصلية وتكاملية وتنافسية , ذات محتوى اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي , في الوقت عينه , ونظام أخلاقي أساسه الحرية , قبل أن تكون , ولكي تكون , تعبيرا عن سيادة الشعب , وتداولا سلميا للسلطة واستقلالا نسبيا للسلطات , و ” خضوعا ” طوعيا لحكم القانون . الديموقراطية هي حكم الأكثرية السياسية وضمانات موضوعية لحقوق الأقلية السياسية وحريتها , فهي من ثم حرية الأخر واحترام حقوقه أولا وأساسا . الديموقراطية , باختصار , ثقافة ونمط علاقات وطنية / إنسانية ونظام أخلاقي , تستمد جميع عناصرها من الشعب , لا من أي مصدر خارجي . فهي من ثم فضاء مفتوح ومشترك من الحرية , هو الفضاء الوطني . الديموقراطية بتعبير آخر هي الليبرالية مضافة إلى مفهوم الشعب , بتعبير إلياس مرقص . مفهوم الشعب هو الذي يحدد الفارق النوعي بين الليبرالية والديموقراطية .

مفهوم الشعب مفهوم سياسي محدث , يطلق على مواطنين أحرار تجمعهم علاقات اجتماعية اقتصادي وثقافية وسياسية وأخلاقية ذات محتوى وطني تعبر عنه الدولة الوطنية , التي ينتمون إليها بالتساوي , وليس مفهوما كميا , وليس مفهوما عرقيا / لغويا , (إثنيا ), وليس مفهوما دينيا أو مذهبيا . الجمع الحسابي للعشائر والمذاهب والطوائف والأثنيات والجهويات لا يساوي شعبا , والعلاقات العشائرية والمذهبية والطائفية والإثنية ليست علاقات سياسية وليست علاقات وطنية . الشعب , لغة , اسم جمع , ليس له مفرد من لفظه , المفرد منه هو المواطن , أي الفرد الذي تحرر من شبكة العلاقات الطبيعية , ما قبل الوطنية , نعني الكائن السياسي والأخلاقي , الذي ينتمي انتماء خالصا إلى الدولة الوطنية . هذا الانتماء لا ينفي انتماءاته الأخرى , بل يمنحها معنى جديدا واتجاها جديدا يفتحان إمكانية اندراجها في ما هو عام , وطني وإنساني . فلا تناقض ولا تضاد بين أن يكون الفرد سوريا مسلما أو مسيحيا , عربيا أو كورديا أو غير ذلك. الهوية الوطنية هوية جامعة لا هوية طاردة أو إقصائية , كالهويات العشائرية والدينية والمذهبية والإثنية . بهذا المعنى سكان سورية , اليوم , ليسوا سوريين بعد , فليس لهم دولة وطنية بعد . الدولة الوطنية شرط لازم وضروري لقيامة الشعب , الذي يقيم الدولة . قبل تحقيق هذا الشرط لا يمكن الذهاب في أي اتجاه , بل يمكن المراوحة في المكان والزمان , في أحسن الفروض , المراوحة ذاتها هي تنامي التأخر قياسا بتقدم الأمم الأخرى والشعوب الأخرى . لا وطنية بلا دولة وطنية , ولا ديموقراطية بلا وطنية ودولة وطنية . لا يمكن الحديث عن الديموقراطية , بوصفها حكم الشعب , قبل إعادة تعريف الشعب . ثقافتنا التقليدية لا تستطيع أن تقدم لنا أي تعريف سوى تعريف الرعية . الاستبداد المحدث , من هذه الزاوية , وهو إعادة إنتاج الرعوية / القطيعية .

بناء الوطنية السورية ينبغي أن يكون همنا الأول , قبل الديموقراطية ومن أجلها .

اخترنا تعريف الديموقراطية بأنها مضمون الدولة الوطنية الحديثة لأنه يذهب مباشرة إلى تحديد العلاقة الضرورية بين الدولة والمجتمع ( نفترض أن طلاب الثانوية العامة , على الأقل , يعرفون العلاقة الضرورية , والتي لا غنى عنها بين الشكل والمضمون سواء في الأدب آو الفن أو في غيرهما ) ونفترض أن عبارة : ” الدولة شكل سياسي للمجتمع ” أو ” شكل سياسي للوجود الاجتماعي ” ” وتحديد ذاتي للشعب ” , ( التحديد الذاتي يعني أن كل واحد من أفراد الشعب يعرّف نفسه أو يحدّد ذات بأنه سوري , ينتمي إلى الدولة الوطنية السورية , أي إلى الجمهورية السورية , ومن ثم فأن الشعب كله يعرّف نفسه أو يحدّد ذاته بأنه الشعب السوري , وبأن دولته هي الجمهورية السورية ) . نفترض أن هذه العبارات تتوفر على ما يكفي من الدقة والوضوح , وتبين أن مفهوم الدولة مختلف عن مفهوم السلطة , وأن السلطة السياسية , الوطنية . هي سلطة الدولة وحكم القانون . فأي حديث عن الديموقراطية خارج إطار هذه العلاقة الضرورية والجدلية هو حديث عن نموذج نظري مجرد غير قابل لـ ” التطبيق ” أو عن تجربة ديموقراطية في مكان آخر أو زمان آخر , لا يمكن استيرادها أو استنساخها أو تقليدها , بل هو تأويل (ما ) لتلك التجربة . وكل تجربة محققة قابلة للتأويل . التأويل , هو تأويل الفكر وتأويل الواقع , هو العلامة الفارقة للوعي الأيديولوجي المنقطع عن الفكر و وعن الواقع . ( الأيديولوجية القومية تأويل للدولة الأموية أو للتجربة الألمانية , والأيديولوجية الاشتراكية تأويل للتجربة السوفياتية والأيديولوجية الإسلامية تأويل للخلافة الإسلامية , خلافة الراشدين أو غيرها ).

هذا لا ينفي بالطبع , بل يؤكد أن مبادئ الديموقراطية ومفاهيمها وقيمها ذات طابع كوني . إنساني , كغيرها من المفاهيم والمبادئ والقيم التي أنتجها العقل الإنساني , وأنضجتها التجارب الإنسانية المختلفة , وهي مبادئ ومفاهيم وقيم محايدة , لا يمكن أن ننسبها إلا إلى العقل الإنساني الذي أنتجها . جميع المبادئ المفاهيم والقيم عابرة للقوميات والأديان وعابرة للزمان والمكان . ( مفاهيم الزمان والمكان والحركة والطاقة والجاذبية والسبب والنتيجة والمضمون والمجتمع والدولة والحرية والعدالة والمساواة والحق والقانون والصدق والأمانة والحب . . . ) وجميع المفاهيم والمبادئ والقيم ليست غربية ولا شرقية ولا مسيحية ولا إسلامية ولا بوذية ولا كونفوشية , بل هي مفاهيم ومبادئ وقيم عقلية وأخلاقية فحسب . هي أدوات العقل أو الفكر وأدوات معرفة الواقع . لكن من المؤكد أن مفاهيم المجتمع المدني والأمة والشعب وسيادة القانون والسيادة الوطنية أو سيادة الشعب وتداول السلطة , وما ينتمي إليها , هي من المفاهيم والمبادئ والقيم الحديثة , فليس ثمة مفاهيم غربية وأخرى شرقية , بل ثمة مفاهيم تقليدية وأخرى حديثة . المشكلة تكمن هنا , فالذين يرفضون الديموقراطية لا يرفضونها لأنها غربية فقط فهم مولعون بأشياء غربية كثيرة جدا , لأنها أشياء , بل لأنهم يرفضون الحداثة ومبادئها وأفكارها ومفاهيمها وقيمها دفاعا عن التراث والأصالة وعن خصوصية عربية أو إسلامية وهمية , وعن هوية خاوية إلا من الجهل والاستبداد . قضية الديموقراطية , في بلادنا وفي غيرها , لا تنفصل عن قضية الحداثة .

في كل تجربة خاصة , على الإطلاق , عنصر كوني أو عناصر كونية , عقلية أو أخلاقية , لأن الإنسان هو الإنسان , كائن عاقل وأخلاقي , اجتماعي سياسي , في كل زمان ومكان , منذ اخترع الأدوات واستوى على عرش المعرفة بستانيا للعالم , ولأن العقل قسمة مشتركة بين جميع بني آدم , ولأن التجارب السياسية وأنماط الحياة الاجتماعية والثقافية , في كل زمان ومكان , هي تجارب وأنماط حياة إنسانية في المقام الأول . ويمكن أن نضيف إلى ذلك حقيقة أن السلطة هي السلطة في كل زمان ومكان , وأن الاستبداد هو الاستبداد في كل زمان ومكان أيضا . الديموقراطية ممكنة في كل مجتمع , مثلما كان الاستبداد و لا يزال ممكنا في كل مجتمع . فليس من المنطقي والحال كذلك أن نستحضر صورة الغرب وعلاقتنا الملتبسة به كلما جرى الحديث عن الديموقراطية . إن ضمور مفهوم الإنسان ومفهوم العقل الكوني وشحوب مقولة الحياة ( الدنيا ) في وعينا وثقافتنا وفي علاقتنا بالآخر تقبع في أساس جميع الالتباسات .

جاد الكريم الجباعي – من كتاب طريق إلى الديموقراطية – دار رياض الريس للكتب والنشر طبعة شباط 2010

 

شاهد أيضاً

جواب لسؤال : هل هي ثورة ؟

أضع تعليقي هنا لسؤال دائماً أُسأله , وقد سألني إياه أخيراً صديقين مُحترمين وعزيزين الأول …