… تعود معضلة الإنسان الأولى , في نظر كريشنا مورتي , إلى ” سيرورة الأنا ” the I-process : تلك السيرورة المتمثلة في الرغبة المنغرسة في الأنا في الاستزادة من الوقود الذي يكفل لها الاستمرار في التقوقع على نفسها , ذلك التقوقع الذي لا يتجلى في الأنانية الفردية وفي الشواهد الاجتماعية والتاريخية
على عنجهية الانسان وقسوته وحسب , بل وفي المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية السائدة المشبعة بحسَّ التفوق والرضا الذاتي والغرور المقنّع .
كريشنا مورتي من القلة النادرة من الفلاسفة التي عملت على عقد صلة وثيقة مباشرة بين التعقيد الحاذق واللامنطقي للنفس البشرية , بكل صراعاتها و احباطاتها , من جهة , وبين شعلة المحبة المتقدة في الكيان الإنساني , من جهة ثانية . فهو , بإزالته المسافة الوهمية الفاصلة بين أنا الإنسان وبين ما حقيقي فيه , أي بين الإنسان كعَرَض والإنسان كجوهر , يحرّر النفس البشرية من فصام لازمها طويلا . كل ما ليس حقيقيا وآنيا ومباشرا خاضعٌ للزمن , للصيرورة , أي لاشراطات الذاكرة النفسانية , ولا يقع بالتالي , في حقل ” الإبداع ” الخالص , إنه” اغتراب عن الذات “
alienation auto – , بمعنى قريب من مفهوم إريش فروم للاغتراب .
يضع كريشنا مورتي إصبعه مباشرة على موضع العلّة التي لا يستطيع أي تحليل نفسي ” اختزالي ” أو أية تجربة ” صوفية ” عابرة أن تشفيها – ألا وهي اعتيادنا القاتل على محاكمة أنفسنا ومقارنتها بالآخرين وإدانتها , بدلا من أن نلزم الصمت , ونبقى فاعلين في العالم , حاضرين فيه , نحيا حياة هي فينا , بأن نكون , لا كما نرغب في أن نكون , بل كما نحن فعلاً .
لذا يقترح علينا كريشنا مورتي – نحن الذين نلتقي بالمجهول في كل لحظة , مزوّدين بالذهن ( وهو أفكارنا وذاكرتنا ومعلوماتنا المتراكمة ) درعاً يدرأ عنا ” خطر ” ما نجهل – تجربة جريئة , قوامها تأمل نقدي عميق في النفس , مصحوب بشك وانتباه يقظ يتملص من قبضة الذاكرات والتلقائية الآلية المترسبة فينا عبر الماضي كله , وتتفتح فيه زهرة كل لحظة جديدة بذبول زهرة اللحظة التي سبقتها , وتتوجه يقظة نهائية شافية على مستويات النفس البشرية كافة .
تلكم ثورة كلية جذرية ” نفنى فيها عن نفسنا ” بالتعبير الصوفي , وعن ذاكرتنا الماضية , فتتفتح فينا ” بصيرة “ insight ، وحدها قادرة على الإفصاح لنا عن الواقع , واقع ” ما هو موجود ” is what – الآن .أما مقاربة الواقع بالذهن وحده – وهو الماضي كله – فهي أشبه بــ ” ضخ الدم في جثة ميت ” , بحسب تعبير أحد المفكرين .
لا يركن كريشنا مورتي إلى كل فعل آلي , إلى التكرار والرتابة والاعتياد في حياتنا النفسية . ففي الذهن أيضا , كما في المادة , نزوع طبيعي إلى الاعتياد والتكرار والعطالة , وهو إن لم نتداركه في الوقت المناسب ونفهم سياقه بالكامل ,لكفيل بان يستفحل ويتحول إلى هاجس يستحوذ على حياتنا النفسية برمتها .
من هنا يميز كريشنا مورتي تمييزا دقيقا بين ” ذاكرات الوقائع ” ( وهي الذاكرات الطبيعية التي لا غنى لنا عنها ) وبين ” الذاكرات النفسانية “ التي تنجم عن تماهي identication ” أنا ” الفرد مع ذاكرات الوقائع , فهذا التماهي الذاتي التي تقوم به ” الأنا ” الخاضعة لشهوة الديمومة , خوفا من التلاشي والاضمحلال , هو المسؤول عن استنزاف حياتنا الداخلية وعن إحباط مساعينا في المعرفة الحق للنفس وللعالم .
” الأنا ” إذن , ليست سوى حزمة من أنماط السلوك والعادات التي يضعها كريشنا مورتي ضمن نطاق ” المعلوم “ . و ” العادات ” , هنا لا يعني بها كريشنا مورتي تلك الأفعال اليومية البسيطة التي يتعذر دونها استمرار الفنون والصنائع والعلاقات بين البشر – لا بل تتعذر الحياة الإنسانية نفسها – بل يعني بها تلك التصرفات ” الاعتيادية ” التي من شانها دوما إدامة ردود الفعل الدفاعية التي تحرضها أحداث رضّية مؤلمة من الماضي . إنها الجروح النفسية أو الندوب المتشكلة في النقاط التي تأذّت فيها الأنا , بقايا الأفعال الناقصة التي – لسبب أو لآخر – لم نعشها في كليتها , وبالتالي , لم نفهمها , الأحداث الرضّية الذي لم يتم استيعابها أو هضمها .
العالم في حركة دائبة , في صيرورة أبدية , والأنا , بكل ثوابتها ومكابداتها الناجمة عن رغبتها في ديمومة سكونية , إنما هي مقاومة لهذه الصيرورة . الأنا , بنظر كريشنا مورتي , هي الماضي المحفوظ في ذاكرة ليست توثيقية و / أو وظيفية , بل ذاكرة – كونها ما زالت مشحونة بالانفعال الموجع الناجم عن الفعل الرضّي – موجهة لسلوكنا كله , و تنحو إلى فرض مجرى محدد على حياتنا كلها وعلى مصيرنا برمته . هذه الذاكرة , على الرغم من تجدد الحياة الدائم , ترمي بنا , مع صباح كل يوم جديد , في أزقة مساعينا القديمة , وتكرهنا على عقد ميثاق متجدد , لا مع الحياة , بل مع طموحات ماضينا العقيمة التي تستطيع , من جراء ” الالتزام ” بهذا الميثاق غير الَموْعيّ , أن تتظاهر بالحياة وتتلقى دفعا جديدا .
إن استمرارية الأنا ما هي إلا استمرارية هذه الذاكرة , وديمومة الأنا إنما هي ديمومة الماضي – ماضٍ ليس إلا جملة تشنجات وأوجاع وقروح ومقاومة متعنتة لكل خروج عليه أو حياد عنه , لكل صيرورة عفوية , أصيلة , مبدعة .
بذا فإن صراع الأنا مع الحاضر يختزل إلى صراع بين الماضي والحاضر , كما يقول رونية فويريه . وهذا الصراع هو ما يخلق المفهوم النفسي للماضي ؛ أي أن مقاومة الصيرورة التي تكونت لدى وقوع الأحداث الماضية تخلق فينا معنى الماضي . ومن جهة أخرى , فإن عدم إشباع الرغبات هو الذي يخلق فينا مفهوم المستقبل – لا المستقبل الحقيقي الذي سوف يعاش فعلا و وحتما , بل مستقبل مفتعل , ليس في حقيقته إلا ماضيا , لأنه , عمليا , مكون , في حاضر منقوص , من ذكريات ذلك الماضي . ليس ثمة ” جديد “ حقيقي في هذا المستقبل المزيف لأنه ليس صورة معكوسة للماضي في مرآة الأنا . أما المستقبل الحقيقي , الفعلي , فلا يمكن اختباره إلا كحاضر حي .
عندما تتلاشى مركزية الأنا , مع جحافل التناقضات التي تولدها النفس , يعي المرء أن ما كان يتوسم فيه ذاته , ما كان يراه من نفسه ويحسب انه هو , لم يكن في حقيقة الأمر إلا صورة ممسوخة عن ذاته الحق وقد أضفى عليها صفة الإطلاق : حزمة من الأفكار والانفعالات والرضوض التي تختزل روعة الحياة , بتجلياتها اللانهائية , إلى قانون يتوهم أن سيجد بتطبيقه السعادة التي ينشد , وتحُول بالتالي , دون تفتحه الحقيقي والكشف عن إمكاناته الأصيلة .
ديمتري أفييرينوس من مقدمة كتبها لكتاب ” التأمل “ جدو كريشنا مورتي ترجمة وتقديم ديمتري أفييرينوس . صادر عن معابر للنشر .