°
, October 6, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

نحن أحرار لأننا مختلفون – جاد الكريم الجباعي

طبيعة الإنسان أو الطبيعة الإنسانية هي أساس الحرّيّة الإنسانية بصفة عامّة، أساس سابق لكلّ الأفعال الصادرة عنه، كما يصفها كانط، بخلاف من ينفي مقولة الطبيعة البشرية ويعتبر الكينونة سابقة على الوجود. وهذه الأفعال يجب أن تكون بالضرورة اختيارا حُرّا، فلو لم تكن كذلك لما تحمّل الإنسان مسؤوليّة انحرافاته وخروقاته للقانون الأخلاقي. وإذا كان قد اصطلح على الاختيار بأنه اختيار الخير أو الشر فإن “أساس الشرّ لا يُمكن أن يوجد في أيّ موضوع خارجيّ يحدّد الإرادة الحرّة ونزوعاتها، ولا يمكن أن يوجد في أيّ دافع طبيعي، بل يكْمُن فقط في قاعدة أَقَامَتْها الإرادة الحرّة لذاتها في ممارسة حرّيّتها، يعني أنها لا توجد إلاّ في مُسلّمة (Maxime )”. و«عندما نقول: إن الإنسان خيّر بالطّبع، أو إنه شرّير بالطبع، فهذا يعني فقط أن الإنسان يحمل في ذاته أساسا أوّليّا (ersten Grund)، بمقتضاه يمكن أن يتَبنِّي مُسلّمات خيّرة أو مسلّمات شرّيرة (مخالفة للقانون الطبيعي أو قانون العقل أو مخالفة للقانون الأخلاقي)[1]». والقانون الأخلاقي هنا إما أن يكون أمراً إلهياً أو أوامر إلهية أو أوامر عقل أعلى مفارق، كما يفترض التيولوجيون، وإما أن يكون قانوناً يضعه الواجب، كما عرفه كانط، أي أن تعامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك أو قانوناً تضعه الضرورة العمياء حتى توعى. الخير والشر مرتبطان أوثق ارتباط وأشده بملكة الحكم، إنهما حكم القيمة الذي يبطن حكم الواقع ويلابسه، وكذلك الجمال والقبح … هنا يتبين بوضوح أن الحرية هي مبدأ الحياة الأخلاقية وعامل تطورها وارتقائها، أو القاعدة التي تقيمها الذات لنفسها بمحض إرادتها.

افتراض الخير أو الشر أصلاً في الطبيعة البشرية مصادرة لا تعني أي شيء، ولا تنتج منها أي نتيجة موضوعية، لأنه افتراض تيولوجي ذو بعد أسطوري أساساً؛ حتى لدى فلاسفة العقد الاجتماعي، وكان لهم من هذه القضية موقفان متناقضان. ليست طبيعة الإنسان الخيرة أو الشريرة هي ما أوجب العقد الاجتماعي وما جعله ممكناً، بل الحاجات الأساسية المتشابهة للإفراد المختلفين والإرادة الحرة لكل منهم، ومن ثم فإن الاختلاف هو ما جعل العقد الاجتماعي ضرورياً والتشابه هو ما جعله ممكناً. والعقد “إيجاب وقبول”، بلغة الحقوقيين، وإن ضغط الحاجة على الإرادة تقابله دوماً مقاومة مختلفة الأشكال. الاختلاف والتشابه أصليان في الطبيعة البشرية، لا الخير والشر. فمن وجهة نظر أخلاقية، الإنسان خيّر أو شرّير، بفضل إرادته الحرّة وبمقتضى شروط حياته.

الاختلاف والتفاوت والتشابه والتماثل حقائق أنطولوجية قبل أن تكون مقولات مرتبطة أوثق ارتباط وأشده بمقولتي الوجود بالقوة والوجود بالفعل، إذ الظهور أو الخروج من القوة إلى الفعل هو ذاته ظهور أو خروج من التماثل والتشابه إلى الاختلاف. جميع الكائنات مختلفة، وجميع الأفراد، اختلافات لا حصر لها، مع أنها كائنات مادية أو كائنات حية، وكل اختلاف يضع فرقاً وينتج تفاوتاً. ومن ثم فإن الاختلاف والتفاوت مؤسسان في الحرية ويؤسسانها في الوقت ذاته، لا حرية بلا اختلاف وتفاوت ولا حرية لولا الاختلاف والتفاوت.

“يرجع الفضل في تقدم المجتمع إلى تفاوت أفراده في مختلف الميادين، وارتفاع أقدار بعضهم عن المتوسط الإنساني المألوف، حتى أن ما يتمثل فيهم من أصالة كثيراً ما يجذب إليهم الأنظار وكثيراً ما يبدو فيه نفع لقومهم بحيث ينزلونهم منزلة القادة، فيصبحون بناة مثل جديدة يغبطهم غيرهم أو يرمقونهم بنظرات الإعجاب” [2].

ومن هنا كان انطلاق المنظومات الفلسفية الكبرى والعقائد الدينية من الإنسان المجرد الذي يفترض مفهومه غلبة التماثل والتشابه، لا من الفرد الواقعي الذي يكشف واقعه عن الاختلاف والتفاوت، سبباً لانزلاقات خطيرة في الفكر والسياسة وحقوق الإنسان، بعضها انزلاقات وضعية، وكلها تلغي الفرد الإنساني أو تحط من شأنه. (الإنسان حيوان ناطق .. الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه .. دور العمل في تحويل القرد إلى إنسان .. الداروينية وفكرة الاطراد في الطبيعة، فضلاً عن الداروينية الاجتماعية، ناهيك عن موقف ما يسمى “الفكر الديني” و”علوم الدين” و”علوم المعاد” وشطر البشرية شطرين: شطر للخلود في النعيم وآخر للخلود في الجحيم).

بحكم الاختلاف والتفاوت والتشابه والتماثل، فقط، ينتظم الأفراد من الجنسين في فئات أو مجموعات (بالمعنى الرياضي) تتعين كل واحدة منها بصفة مشتركة بين جميع أفرادها، وتختلف المجموعات أو الفئات فيما بينها اختلافاً بيناً، وفق اختلاف الأفراد، وتلكم هي السمة الأبرز للمجتمعات المدنية الحديثة، والعامل الأهم لإنتاج سلطات مفردة مختلفة ومتنوعة تحد من تركيز سلطة الدولة المركزية ومؤسساتها، وتنافسها أحياناً، وتعمل مجتمعة على إعادة بنائها مرة تلو مرة. هذا الاختلاف والتشابه المغروزان في الطبيعة البشرية وما ينتج منهما من تنافس وتآلف وحب وكراهية يحددان الوجود الاجتماعي والأخلاقي ومستقبل الحياة الاجتماعية في كل مجتمع على حدة، ومستقبل المجتمع الدولي و”الجماعة الإنسانية”.

مبدأ الفئات أو المجموعات الرياضي هذا يكشف عن حقيقة أن الفرد بذاته، الفرد المتناهي، بحكم الكينونة والأجل، أو القدر والمصير، هو فرد غير متناه، لأنه يمكن أن ينضوي في ما لا حصر له من المجموعات، كل واحدة منها تكشف عن صفة من صفاته أو جانب من جوانب شخصيته، وعن قابلية من قابلياته أو استعداد من استعداداته ومقدرة من مقدراته وعنصر من عناصر الخلق والإبداع التي يتوفر عليها، الاختلاف والتفاوت ثروة لامتناهية. الفرد، من الجنسين، أعظم مما نظن وأكثر مما نتصور. لذلك كان الفرض الرئيس في هذا النقاش أن الحرية فردية أساساً ومحايثة دوماً، لا تعطى ولا تؤخذ ولا تشرى ولا تباع، ومحدودة بحرية الآخر وبحدي المعرفة والعمل المتحركين والمتغيرين باطراد، وتتجاوز حدودها باطراد، وكذلك المعرفة وميكروفيزياء السلطة. الحرية ذهاب إلى ما وراء الحدود وما فوق الفروق، لأنها قادمة من أو ناتجة من اللامتناهي واللامحدود واللامفروق. ثمة دائماً قبل وبعد. هل هذا تعبير آخر عن القدر والمصير؟ ليكن، ولكنه مجاز.

في ضوء العلاقات الضرورية بين هذه المقولات بات من الممكن إعادة إنتاج مقولتي “الحرية الأولية” غير المبنية وغير المؤسسة وغير العقلية .. و”الحرية الثانية” بوصفها تحققاً في الواقع المادي والأخلاقي. وندين بهاتين المقولتين، أي الحرية الأولية والحرية الثانية، للفيلسوف الروسي نيقولاي برياييف، مثلما ندين بفكرة السلطة التي تنبثق من كل شيء، بوصفها “ميكروفيزياء السلطة”، و”ميكرو سوسيولوجيا”، أو بوصفها “فكر الخارج”، للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. وبات من الضروري أيضاً إعادة التفكير في المعرفة والسلطة، وفي العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع.

من البديهي أننا لا نستطيع التعبير إلا عما نعرفه، بغض النظر عن مدى مطابقة التعبير للمعبر عنه (الفرد الذي يعبر وحده يستطيع ملاحظة الفرق بين ما يعبر عنه وما كان يريد التعبير عنه، فكلما اتسع المعنى تضيق العبارة، والعكس صحيح، لذلك بات التعبير الرياضي أقرب إلى المطابقة، ما يعني أن الدراما البشرية ستتخذ شكلاً جديداً يتمحور حول مفهوم الحقيقة). ولكننا حين نفكر إنما نفكر في ما لا نعرفه بعد، فضلاً عن التفكير في ما نعرفه، وهذا ما يؤسس الحرية في الواقع ويمنح العمل البشري خصائصه النوعية، إذ لا تفكير بلا عمل، وما يمنح الفكر صفته المستقبلية ويجعل منه شكلاً للعالم هيولياً ومواراً لا يعرف الثبات. ومن هنا افتراض أن المعرفة لا تقتصر على ما يعبر عنه، بل هي أيضاً ما لم يعبر عنه بعد. المعرفة بالتحديد هي بناء غير المبني أو تشكيل غير المتشكل، وهدم ما كان قد بني وتشكيله وإعادة بنائه من جديد. ومن هنا أيضاً يختلف مفهوم المعرفة عن مفهوم الثقافة التي تشمل كل ما يعبر عنه بأي وسيلة من وسائل التعبير وبأي أسلوب من أساليب التعبير أو طريقة من طرائقه. لولا المعرفة المتجهة إلى المجهول وإلى المستقبل لما تطورت الثقافة ولما تطورت الحياة الأخلاقية. نحن نفكر، ونعرف أننا نفكر، نفكر في العالم الخارجي، ونفكر في أنفسنا، ونفكر في تفكيرنا، وفي هذا تكمن حريتنا.

ولأن كلا منا يملك نفسه التي تسع العالم، ولا يملك غيرها في النهاية، بشهادة الموت، فإننا نستطيع تملك العالم. فإن تملك الأشياء باستهلاكها وتمثلها لتلبية الحاجات الطبيعية، عتبة مشتركة بين الإنسان والحيوان؛ فكلما امتلك الفرد الإنساني من الأشياء (والأموال) أكثر من حاجته يزداد قوة ورغبة في التملك، وإن تجاوز خط الحاجات باطراد أحد عوامل التقدم والارتقاء [3]. ما يمتاز به الإنسان أنه يتملك العالم بالإنتاج، لا بالاستهلاك فقط، أي إن الإنسان يتملك العالم بالمعرفة والعمل، فبهذين معاً ينتج الإنسان، الفرد، نفسه في العالم، أو يضع نفسه فيه، أو يموضع روحه فيه ثم يستعيد موضوعية العالم في ذاته أو يعيد اجتياف العالم، من دون أن يدمر استقلاله، لأن تدمير استقلال الموضوع أو تدمير استقلال الآخر هو في النهاية تدمير استقلال الذات. ترى هل يرد الإنسان بذلك دينه للعالم [4]، أو بعبارة أخرى هل تعود الطبيعة البشرية إلى طبيعتها الأولية، بعد أن تكون قد أنسنتها، فتصير عاملاً من عوامل نموها وتطورها وارتقائها؟! من المؤكد أنها تفعل ذلك في الحياة، لا بعد الموت. ولم يفصح الإنسان عن جميع قدراته وإمكاناته بعد، فقد دخلنا للتو في تاريخ معرفة الإنسان لنفسه، نتيجة تضافر العلوم الأساسية، الفيزياء والكيمياء والرياضيات والبيولوجيا والمعلوماتية وتكاملها. والمعول عليه في ذلك كله هو قدرة الإنسان، الفرد على اكتشاف حريته، بدءاً بحرية التفكير والتعبير.

وللبحث صلة ..

[1] – عن محمد المزوغي، المسألة الدينية عند كانط، بحث منشور على موقع الأوان www.alawan.org، وعلى موقع سؤال التنوير www assuaal.net والمقتبسات التي أوردها المزوغي مقتبسة من كتاب كانط، “الدين في حدود مجرد العقل.

[2] – راجع وليم جيمس في “بعض مشكلات الفلسفة”، ترجمة محمد فتحي الشنيطي ومراجعة الدكتور زكي نجيب محمود، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، بلا تاريخ نشر، ص 13

[3] – العدالة في توزيع الأشياء والأموال بين الناس بالتساوي مخالف للطبيعة البشرية، فليس من معنى للعدالة في مجتمع بعينه إلا تساوي الشروط أو تكافؤ الفرص، والتساوي في الحقوق والواجبات، وتحقيق نوع من توازن بين المصالح الفردية والمصلحة العامة التي تمنح الأولى قيمتها ومحتواها. المحاولات الاشتراكية التي جرت حتى اليوم كانت محاولات ثورة على الطبيعة البشرية. والمأمول أن تحدث ثورة في الطبيعة البشرية، لا ثورة عليها. الثورة في الطبيعة البشرية لا تتحقق إلا بنمو معرفة الإنسان لذاته، والخروج من ثنائية السيد والعبد، وثمة في تاريخ البشرية ما يؤيد ذلك ويبعث على الأمل.

[4] – لاحظ الجذر المشترك للدَين والدِين، الجذر الذي يعبر عن المديونية أو الدينونة، فإن دين الإنسان هو مديونيته للطبيعة التي يتوقف عليها وجوده. يجب أن نلاحظ أن وجود الإنسان وحياته يتوقفان على الطبيعة، في حين وجود الله يتوقف على الإنسان. العاطفة الدينية شعور خفي أو باطن بالمديونية للطبيعة، يغلفه شعور بالعجز والنقص والجهل، يفترض القوة المطلقة والكمال المطلق والعلم المطلق في الله. جميع الكائنات الطبيعية، بما فيها الإنسان، قوية وكاملة بما هي عليه، وضعيفة وناقصة بما يمكن أن تكون عليه. أما الجهل فصفة أصيلة في = = الإنسان تفض نفسها في المعرفة، وهذه لا حدود لها، أو هي تعرف حدودها وتتجاوزها باطراد. المعرفة، كالحرية، هي تجاوز الحدود.