°
, April 25, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

الديمقراطية كقضية غير جهادية – منير الخطيب

إن حقل الجهاد في أيديولوجيا الإسلام السياسي ،يتقابل مع حقل النضال في الأيديولوجيات القومية\ اليسارية على اختلاف تلاوينها واتجاهاتها ،كذلك شخصية المجاهد تتقابل مع شخصية المناضل ،وبالتالي فإن معظم قضايا مجتمعاتنا الكبرى ،تم تنضيدها في سياقات الجهاد والنضال والكفاح ..الخ .

 

وكانت السيكولوجية- الخلاصية ،هي الحاكمة لسلوك الكتل الاجتماعية ،وكذلك لسلوك النخب اليسارية والإسلامية على حد سواء .

فالقضايا ذات الطبيعة الجهادية والنضالية ،ارتدت طابعاَ خلاصياً ،حيث كان مؤملاً منها ،إقامة الفردوس على الأرض ،هكذا صورت الاشتراكية ،وهكذا صورت مسيرة العودة إلى السلف الصالح ،وكذلك صور بعث الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة… الخ .

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو ،نهاية ثمانينات القرن الماضي ، عاد الاهتمام عالمياً بالمسألة الديمقراطية، ففي بلادنا جرى انزياح أقسام هامة من النخب باتجاه الهدف الديمقراطي ،لاسيما النخب اليسارية ،حيث تعاملت مع قضية الديمقراطية ،بنفس الأدوات والمناهج ،الجهادية ،الخلاصية ،النضالية ،السياسوية ،فتم عزل الديمقراطية عن الحداثة أولاً،وعن مسار التقدم ثانياً،وعن مفهوم التاريخانية ثالثاً.

القضايا ،الجهادية ،النضالية ،ذات البعد الخلاصي ،تحتاج إلى كائنات أيديولوجية ،وإلى كائنات توتاليتارية ،إذ تشكل تلك القضايا ملاط الربط بين هذين النوعين من الكائنات .بينما الديمقراطية تحتاج إلى بشر عاديين ،أدركوا ماهياتهم الإنسانية أولاً،قبل أية ماهية أخرى ،بشر يستطيعون العمل والإنتاج والتفكير والشك والفرح والحب ،لاسيما حب الحياة ،بشر نما العنصر العام في روحهم وفي فكرهم ،وقرروا الارتقاء بهذا العنصر العام ،وصولاً، إلى تعاقدهم الاجتماعي ،وانضوائهم تحت سقف القانون وسقف الدولة الوطنية .

الديمقراطية بعكس القضايا ،الجهادية ،النضالية ،غير مرتبطة بالنزعة الارادوية ،وسياسات حرق المراحل ،وتسريع وتائر التطور التاريخي ،بل هي أقرب إلى سيرورة التطور الموضوعي ،ونمو القوى الاقتصادية والاجتماعية على سلم الإنتاج المجتمعي ،وكذلك مرتبطة بنمو ثقافة المجتمع المعني وثروته الروحية ،باتجاهات كونية وإنسانية ،وانعتاقها من محليتها ونزعتها الماضوية .

الديمقراطية ليست مسألة جهادية ،لأنها محكومة بمنطق الإصلاح ،الذي هو أعمق بكثير من الثورات الجهادية والنضالية ،المحكومة بمنطق الانقلاب والإقصاء ،والتي إذا وضعت على سلم التاريخ ،سينكشف مضمونها ،على أنه مجرد ثوران شعبوي وتوتاليتاري .

الديمقراطية ليست مسألة جهادية ،لأنها مرتبطة بمفاهيم ،الاعتدال والتسامح والعفو عند المقدرة، ومرتبطة بمناخات السلم الأهلي ،ونفي الحرب الداخلية من النسيج السسيولوجي للمجتمع المعني ،وإقامة الحد على عقلية الثأر والانتقام ،لذا فهي لا يمكن أن تأتي على ظهور الدبابات الامريكية أو غير الامريكية ،ولا يمكن أن تأتي” بقوانين “الاجتثاث ،”كقانون”اجتثاث البعث وغيره .

الديمقراطية ليست مسألة جهادية ،لأنها تنزع إلى الانتظام في مؤسسات القانون الوضعي ،وفي أطر الدولة الوطنية ،إذ لا ديمقراطية مع غياب الدولة ،الديمقراطية بدون الدولة هي “مخلوطة “، فوضى طوائف وعشائر وإثنيات ،تتخابط في مناخ تقهقري ركودي ،الدولة هي أهم منجزات الحداثة ،لذلك تنتشي وتقوى التنظيمات الجهادية ،النضالية، السلاحوية ،في أوضاع تلاشي الدولة ،هكذا نشطت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية على أرض “فتح لاند” في لبنان وعاثت فساداً في طوله وعرضه ،وهكذا تنشط التنظيمات القاعدية اليوم في أفغانستان والعراق واليمن .

الديمقراطية مسألة غير جهادية ،لأنها تتأسس على قضية الإنسان ،وعلى مفهوم حقوق الإنسان ،لا على شعارات أيديولوجية الطابع ،يكون الإنسان فيها مجرد وسيلة رخيصة ،لغايات “نبيلة”أو غير نبيلة .

الديمقراطية مسألة غير جهادية ،لأنها وثيقة الصلة بقضايا البشر الفعلية والواقعية ،فهي لا تتقدم إلا في أوضاع مجتمعية ،يسيطر فيها البشر على معدلات تكاثرهم ،وتنتفي فيها ظاهرة الانفجار الديمغرافي ،وهذا يستدعي تحرر المرأة ،وإنعتاقها من أسر المجتمع الذكوري ،ولا تتقدم إلا في مجتمعات الشغل والإنتاج ،التي حققت تنمية اقتصادية وحياة ميسورة لمواطنيها ، فالطبقات الاجتماعية المنتجة مادياً وروحياً هي قاطرة الديمقراطية ،في ذات الوقت الذي تشكل فيه الفئات المفقرة التي ترزخ تحت خط الفقر قاطرة المشاريع الظلامية والاصولية .

الديمقراطية ليست مسألة جهادية ،لأنها معنية ببناء أكثريات سياسية ،تقوم على مبدأ التعاقد الاجتماعي ،والتداول السلمي للسلطة ،وتحول الأكثرية إلى أقلية والعكس صحيح ،فهي تعاكس على طول الخط ،مبدأ العنف وتهتيك النسيج المجتمعي واستبداد الأكثريات بمعناها الطائفي والاثني ،تحت يافطة شعارات “مقدسة” أو غير مقدسة .

الديمقراطية ليست مسألة جهادية ،لأنها مرتبطة بمنطق الواقع ،وتعالق وتجادل قواه المختلفة ،التي تتغير مواقعها وعلاقاتها المعقدة ،باختلاف اللحظة التاريخية ،فهي بذلك تتناقض مع منطق الرأس الذاتوي .

إن انتشال المسألة الديمقراطية من مستنقع التداول السياسوي ،ونزع شحنتها الأيديولوجية ،وتأسيسها على منظومة الحداثة ،وعلى مفهومي التقدم والتاريخانية ،هو الكفيل بعدم تحولها إلى أطر” لتقدم ” التأخر ،عند ذلك فقط ،تكف تجربة البرلمان الكويتي عن كونها أقرب إلى تجارب محاكم التفتيش ،ولا تستطيع الأكثرية المذهبية في العراق انتهاك نتائج الانتخابات النيابية ،وتكف الديمقراطية اللبنانية عن كونها مجرد هدنة بين حربيين أهليتين .