°
, March 28, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

التنـــــويـــر – هاشم صالح

مفهوم التنوير ومدلولاته

يرى الباحث البلجيكي البروفيسور «رولان مورتييه»، أن القرن الثامن عشر هو أول عصر في التاريخ يشعر بذاتيته، وكيانيته، ووحدته، كما يشعر بأنه مكلف بتأدية رسالة مهمة للبشرية هي: التنوير. إنه أول عصر يبلور لنفسه برنامج عمل واضح المعالم من خلال كتابات الفلاسفة ومعاركهم الفكرية.

ومصطلح التنوير يعود إلى هذا العصر بالذات. ولكي نفهمه، ينبغي أن نقارن الأنوار/ بالظلمات، أو الواضح/ بالغامض. ولكن المصطلح يحتوي أيضا على معنى أخلاقي وإبستمولوجي (أي معرفي).

 

فالتضاد الكائن بين الأنوار/ والظلمات، يشبه ذلك الذي نجده بين الخير/ والشر، أو الحقيقة/ والخطأ، أو المعرفة/ والجهل. ويبدو أن المصطلح كان في البداية ديني المنشأ قبل أن يَتَعَلْمَن على يد الفلاسفة في عصر العقل: أي في القرن الثامن عشر بالذات. ففي «سفر التكوين» مثلاً نجد العبارة التالية: «ثم وجد الله أن النور حَسَن، وفصل بين النور والظلمات». وبما أن الله هو خالق النور، فإنه وجد فيه أنبل صفاته. ولذلك فإن الله يدعو نفسه في التوراة «بالنور الأبدي». ووجهه يضيء أو يلمع، وكلامه مصباح أو نور.. ثم جاء الإنجيل واستعاد نفس الصورة عندما قال المسيح عن نفسه: «أنا نور العالم: من يتبعني لن يمشي أبداً في الظلمات، وإنما سيكون له نور الحياة».

ويقول البروفيسور مورتييه مردفاً: ثم استمر هذا المفهوم الديني طيلة العصور الوسطى في كتابات اللاهوتيين المسيحيين والصوفيين وأصحاب التقى والورع، وهو يدل على الوحي المنير أو الإشراقي الذي يضيء للإنسان طبيعته، وغاياته في هذه الحياة الدنيا ثم الآخرة أيضاً، وكذلك الواجبات المترتبة عليه. وراح اللاهوتيون يتحدثون عن «النور الإلهي» أو «نور الإيمان» الذي يتجلّى لبعض الشخصيات الاستثنائية في التاريخ، كالأنبياء وكبار الصوفيين. ولكن المصطلح قد يدل أيضا على التراث الديني للكنيسة المسيحية، ولذلك قال بعضهم: إن أنوار الإيمان والإنجيل بدَّدت ظلمات الجنس البشري وعماه.

والآن نطرح هذا السؤال: كيف انتقل هذا المصطلح الشهير من المعجم الديني القديم، إلى المعجم الفلسفي الحديث؟ بمعنى آخر: كيف تَعَلْمَن أو تَعَقْلن، وعلى يد من؟ يبدو أن ديكارت (1596 ـ 1650) كان أول من استخدم مصطلح التنوير (أو النور) بالمعنى الحديث المفصول عن المعنى الديني، أو الإنجيلي. فهو يتحدث مثلا عن النور الطبيعي، الذي يقصد به ما يلي: مجمل الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان عن طريق استخدام العقل فقط. ولكن ديكارت، لا يستخدم هذا المصطلح كسلاح ضد الدين أو بالأحرى ضد رجال الدين كما سيفعل في ما بعد فولتير أو ديدرو. إنما يستخدمه ضمن سياق الاحترام الكامل للقيم الدينية. يقول مثلا في كتابه: مبادئ الفلسفة: إن مَلَكة المعرفة التي وهبنا اللّه إياها والتي ندعوها بالنور الطبيعي لا تلحظ أبداً أي شيء إلا وهو صحيح في ما تلحظه.. وجاء بعده لايبنتز (1646 ـ 1716)، لكي يستعيد نفس الفكرة ويقول: إن العقل هو سلسلة الحقائق التي نعرفها بواسطة النور الطبيعي (أو الضوء الطبيعي) الذي وهبنا الله إياه، لكن من بين جميع تلامذة ديكارت نلاحظ أن مالبرانش (1638 ـ 1715) هو الذي استخدم المصطلح وأحبه إلى درجة الهوس.. فهو يتكرر لديه بكثرة هائلة إلى حد أنه يزاحم مصطلح الطبيعة أو العقل.

والشيء المدهش لدى رجل دين كبير، مثل مالبرانش، هو أن المصطلح يتفوق لديه على مصطلحي العدالة والخطيئة. لنضرب هنا بعض الأمثلة على كيفية استخدام هذا المصطلح لدى مؤلف كتاب «البحث عن الحقيقة»: «ينبغي على الإنسان أن يحاكم كل شيء طبقاً للأنوار الداخلية بدون الانصياع إلى الشهادة الخاطئة والمختلطة لأحاسيسه وخيالاته». ثم يقول أيضا: «نحن ندعو الروح عقلاً عندما تفعل بذاتها، أو بالأحرى عندما يفعل الله فيها عن طريق النور الذي يضيئها»، ثم يقول عن الله: « إن نوره مشع وساطع بقدر ما هو صافٍ ونقي، ولكن أهواءنا تبقينا دائماً عمياناً.. وعن طريق ظلماتها فإنها تمنعنا أن نكون مستنيرين بنوره.. الخ».. الأمثلة عديدة جداً، ولكن هنا نلاحظ أن النور الطبيعي للعقل البشري يظل معتمداً على النور الإلهي أو مرتبطاً به بشكل لا ينفصم. والسبب واضح فمالبرانش يجمع في شخصه بين العقلانية الديكارتية الصارمة، والإيمان الديني الذي لا يتزعزع. ينتج عن ذلك بالطبع، أنه يخفض من قيمة الحدس أو الخيال، أو العواطف، لكي يركّز فقط على أهمية العقل. ولذلك تُدْعَى عقلانيته بالجافة أو الناشفة على الرغم من أهمية الرجل، وكل الديكارتيين، في تاريخ الفكر، ثم يجيء المفكر البروتستانتي بيير بايل (1647 ـ 1706)، لكي يغلّب، ولأول مرة في تاريخ الفكر، النور الطبيعي على النور فوق الطبيعي، دون أن ينكر الثاني. وهذا العمل يعتبر خطوة جديدة في اتجاه التحرر من اللاهوت الديني والتوصل إلى العَقْلَنة الكاملة لاحقاً.

وملخص كلام «بايل»، هو أن الله نفسه لا يمكن أن نتوصل إلى فهمه أو الإيمان به، إلا إذا كنا نمتلك مسبقاً النور الطبيعي للعقل. وبالتالي فالعقل هو الأول، ولكن بايل لم يتجرأ على الذهاب إلى أبعد من ذلك لكي يفصل كلياً بين النور الفوقي/ ونور العقل، لأن ذلك كان يشكل ما ندعوه بالمستحيل التفكير فيه بالنسبة لزمنه. ولكنه سيصبح ممكناً التفكير فيه في زمن فولتير وديدرو: أي بعد أقل من مائة سنة. هكذا نجد أن العقل يتقدم بشكل بطيء، ولكنه يتقدم. فالعقل البشري لم يتحرر من اللاهوت الديني المسيحي دفعة واحدة، وإنما على دفعات، وتشهد على ذلك بشكل ساطع، تجربة الفكر الأوروبي التي نستعرضها هنا. والواقع أن كلمة «الأنوار» (بالجمع)، راحت تزاحم كلمة النور (بالمفرد)، بل وتحل محلها في أحيان كثيرة. وهكذا أصبحوا يتحدثون عن عصر الأنوار، أو فلسفة الأنوار، أو الأنوار الطبيعية للعقل.. إلخ.

مهما يكن من أمر، فإن مصطلح التنوير راح يتخلص تدريجياً من الهالة الدينية المسيحية لكي يدل على عصر بأسره: هو عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر. وعندئذ راح يتخذ شكل المشروع الفكري والنضالي الذي يريد تخليص البشرية الأوروبية وغير الأوروبية من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة. بالطبع فإن المشروع كان ضمنياً لا علنياً، بسبب خوف الفلاسفة من السلطة والكنيسة المرتبطة بها عضوياً، ولم يتبلور المشروع بوضوح إلا على يد كوندورسيه في كتابه الشهير: «مخطط البيان التاريخي لتقدم الروح البشرية» (أو الفكر البشري) (1794). لكي نوضح المسافة المقطوعة بين مفكري التنوير الأوائل أو الذين مهّدوا للتنوير، وبين المفكرين التنويريين الحقيقيين، يكفي أن نقارن بين بيير بايل/ وبين فولتير أو ديدرو أو روسو، الذين جاءوا بعده وأكملوا عمله. صحيح أن «بايل» في قاموسه التاريخي والنقدي، تبنّى التصور العقلاني للدين وانتقد هيبة رجال الكنيسة وتسلّطهم على العقول، صحيح انه دعا إلى التفحص الحر للكتابات المقدسة وطالب بالحرية الفكرية والعقائدية في وقت كانت فيه فرنسا تعيش أبشع لحظات التعصب الديني وتضطهد المفكرين بطريقة مرعبة بمن فيهم «بايل» نفسه. ولكنه لم يتجرأ على تلك القفزة التي تحرر العقل كلياً من هيمنة اللاهوت الكنسي. وقد ظل أسير النظرة التشاؤمية والمسيحية للتاريخ والإنسان، وكان يشتبه في العقل البشري ويخشى أن يتجاوز الحدود التي وضعها الله له. فالعقل البشري بدون مساعدة العقل الإلهي يضلّ ويضيع ويذهب في متاهات لا نهاية لها.

ولكن يبقى السؤال مطروحاً: ألم يتطرف التنوير الأوروبي في الاتجاه المعاكس كرد فعل على العقلية الظلامية ومحاكم التفتيش؟ ثم: ألا ينبغي أن نعود إلى تنوير أكثر توازناً: اقصد التنوير الذي يجمع في وحدة واحدة بين نور العقل ونور الإيمان؟

× مسيرة التنوير من تورغو إلى فولتير

ينبغي العلم أن الحماسة لنشر التنوير كانت متوافقة ولزمن طويل مع الأرثوذكسية الدينية والسياسية، بمعنى أن فلاسفة التنوير الأوائل لم يفتحوا المعركة مع رجال الدين المسيحيين أو مع الحكم المستبد الإطلاقي في المرحلة الأولى. فالكثيرون كانوا يصفقون للتقدم الذي يحرزه العلم، والتكنولوجيا، والتاريخ في ذلك العصر، دون أن يعتبروا ذلك موجهاً ضد الدين أو معادياً للروح الدينية بالضرورة. صحيح أنهم كانوا ينادون بتطبيق المنهجية النقدية العقلانية، وإجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، بل ويطالبون بالتسامح في مجال الشؤون الدينية، ولكن دون أن يعني ذلك أنهم كانوا يريدون هدم النظام القائم أو تقويض الإيمان التقليدي. وكان أفضل ناطق رسمي باسم هذا التيار شخص يدعى تورغو (1781 – 1727 = Turgot )، وهو عالم اقتصاد ورجل سياسي فرنسي مشهور. وقد أصبح وزيراً فيما بعد، ولكنهم أسقطوه بعد أن نادى بالإصلاحات التي هددت امتيازات الطبقة العليا في المجتمع الفرنسي أثناء النظام القديم.

وكان تورغو في البداية موجهاً لدراسة اللاهوت والدخول في سلك الاكليروس المسيحي، ولذلك انخرط في الدراسات اللاهوتية حتى تخرج في السوربون عام 1750. ينبغي أن نعلم أن السوربون كانت آنذاك جامعة دينية وتسيطر فيها كلية اللاهوت المسيحي على بقية الكليات الأخرى لأن اللاهوت أم العلوم وأشرفها بحسب المنظور القديم الذي سبق الثورة الفرنسية. ونحن المعاصرين لا نكاد نتخيل أن السوربون كانت تدرس أصول الشريعة المسيحية والعلوم الدينية التي لا وجود لها فيها حالياً. فمن كثرة ما تَعَلْمَنَت السوربون، ومن كثرة ما ابتعدت عن كل ما له علاقة بالدين، نجد صعوبة في التصديق بأنها كانت معقل المحافظين والأصوليين يوماً ما!… مهما يكن من أمر فإن تورغو ألقى خطابين في السوربون ـ وباللغة اللاتينية ـ عام 1750. الأول بعنوان: ميزات سيادة المسيحية والفوائد التي جناها الجنس البشري من جراء ذلك، والثاني هو: إنجازات التقدم المتتابعة التي حققها الجنس البشري حتى الآن. وهذا الربط بين الدين المسيحي والتقدم لم يكن يدهش الناس آنذاك، فقد كان الكثيرون يعتقدون بأن الدين لا يتعارض مع التقدم والتنوير، وحده حزب الفلاسفة، أي الحزب الموسوعي، كان يعتقد باستحالة ذلك.

في البداية كان تورغو يعتقد إذن بأن المسيحية كانت تمثل النور الجديد وهو نور أعظم بألف مرة من نور الآداب والفلسفة لأنه نور الهي لا نور بشري. ولكنه بعد ثلاث سنوات فقط من ذلك التاريخ (أي عام 1753)، راح يفصل التنوير عن الدين! فماذا حصل؟ حصل أنه راح يتأثر كغيره بأفكار الفلاسفة ويشاهد أعمال التعصب التي ترتكبها الأصولية الكاثوليكية. وعندئذ، ترك الكنيسة وراح يتوجه نحو اعتناق الدين الطبيعي، أي العقلاني، الذي دعا إليه في كتابه الجديد: «رسائل حول التسامح»، وراح ينقلب على مواقفه السابقة ويقول مثلا: «يُخشى أن يحصل صراع دائم بين الخرافات والتنوير». والمقصود بالخرافات هنا إيمان العامة في وقته، وكذلك إيمان معظم رجال الدين، ويقول أيضا: « إن الدين الذي يبدو خاطئا على ضوء أنوار العقل، والذي يتبخر أمام تقدمه، كما تتبدد الظلمات أمام الأنوار، لا يستحق أن يكون مقياساً للتشريع».

إن التطور الذي طرأ على فكر تورغو خلال ثلاثة أعوام فقط (أي بين عامي 1750 ـ 1753)، يبدو لنا مدهشاً حقاً، ولكنه لم يكن حالة معزولة، كما يقول البروفيسور رولان مورتييه، الذي نعتمد عليه في إعداد هذه الدراسات. فالواقع إن الصورة كانت آنذاك على النحو التالي: اليسوعيون كانوا يخلعون على مفهوم التنوير المعنى المسيحي والأرثوذكسي (أي الأصولي). وأما معظم الكتاب والفلاسفة الكبار فكانوا يميلون إلى فصل التنوير عن المذهب الكاثوليكي الذي كان يمثل القلعة الصامدة للتزمت الديني. وبالتالي فالمعركة كانت محتدمة بين الطرفين، إما عاجلاً وإما آجلاً. فاليسوعيون، أي «الأخوان المسيحيون» إذا جاز التعبير، كانوا يسيطرون على النظام التعليمي الفرنسي بمدارسه الثانوية وجامعاته، وما كانوا مستعدين للقبول بمنافسة الفلاسفة لهم على هذه الأرضية بالذات. فالرهان كبير جداً، ويتلخص في الشيء التالي: السيطرة على عقول الملايين وتوجيهها في هذا الاتجاه أو ذاك.

وقد أحسّ الأصوليون بالخطر عندما رأوا الفلاسفة يشيعون فكراً جديداً يهدّد مشروعيتهم التاريخية وهيمنتهم المزمنة على الأرواح والعقول.. ويمكن القول بأن الطفرة الكبرى حصلت بين عامي (1750 ـ 1760)، فعندئذ أصبح التنوير ينحو باتجاه العداء للاكليروس المسيحي وحتى للمسيحية ذاتها. ومعلوم أنها كانت تمثل قدس الأقداس بالنسبة للشعب الفرنسي المتديّن وللشعوب الأوروبية بأسرها. وكانت المسيحية تقف فوق النقد لأنها تمثل دين الله أو دين الوحي السماوي. ولكن هذه الطفرة لم تحصل بشكل صارخ، وفي وضح النهار. فأبطالها الأساسيون ـ أي فولتير وديدرو ومونتسكيو وسواهم ـ كانوا يتهيّبون الدخول في معركة مكشوفة مع الدين المسيحي الراسخ في العقلية الجماعية منذ مئات السنين.

وكانت موازين القوى غير متكافئة على الإطلاق، فالفلاسفة كانوا يمثلون أقلية، أي النخبة المثقفة، هذا في حين أن جحافل الشعب كلها كانت تقف وراء رجال الدين، ولهذا السبب فإن الفلاسفة كانوا يتقدمون مقنّعين إذا جاز التعبير، ففولتير لم يكن يوقّع معظم كتبه، بل وكان ينكرها بمجرد صدورها ويحلف بأغلظ الأيمان بأنها ليست له!.. وأما ديدرو فكان يخبئها في أدراج مكتبه لكيلا تنشر إلا بعد موته.. فبطش «الأخوان المسيحيين» كان مرعباً، وسيفهم مسلّطاً على الأرواح والعقول.

يضاف إلى ذلك، أنه ينبغي التمييز بين الأعمال المنشورة على الملأ، وبين الرسائل أو النصوص الموجهة إلى الأصدقاء الحميمين فقط. وفولتير كان بارعاً في استخدام هذه الاستراتيجية. فعندما كان يوجه رسالة إلى صديق موثوق فإنه كان يعبر عن مكنون فكره بدون أي تحفظ. وعندما كان يكتب للجمهور العام كان يأخذ احتياطاته ويستخدم أسلوب التلميح المبطّن، وفي كلتا الحالتين نلاحظ أن فولتير كان يتحدث عن التنوير بصيغة المفرد (Lumiere)، لا الجمع (Lumieres)، وكان يريد بذلك إقامة تمييز بين المعنى التقليدي والحيادي للكلمة (أي تجميع المعارف والعلوم) وبين المعنى النقدي الحديث (أي نقد العقائد الدينية المسيحية).

وهناك ملاحظة أخرى مهمة أيضا وهي: أن فولتير لم يتجرأ على شنّ حربه الشعواء على الأصولية الدينية إلا بعد عام (1764)، أي خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياته، وهذا دليل على مدى تهيّبه للمسألة وخوفه من عواقبها.

لندخل الآن في التفاصيل، في كتبه المطبوعة والموقعة باسمه، كان فولتير يستخدم مصطلح التنوير للدلالة على عصره ولمعارضته بالعصر السابق له مباشرة: أي القرن السابع عشر. صحيح انه كان يشيد بالذوق الأدبي للقرن الماضي وبخاصة راسين وكورني، لكنه يعطي الأفضلية للقرن الثامن عشر فيما يخص الروح الفلسفية والعقلانية. يقول في رسالة خاصة إلى سيدة أرستقراطية مقربة من حزب الفلاسفة هي «مدام دوبيني»: «التنوير ينتشر شيئاً فشيئاً يا سيدتي، وينبغي أن نترك العميان العجائز يموتون في ظلامهم!». وفي رسالة أخرى إلى صديقه الشخصي «دارجنتال» يقول: «ليس الذنب ذنبي إذا كان هذا القرن مستنيراً، وإذا كان العقل قد تغلغل حتى إلى الكهوف والمغارات!».. وفي مكان آخر يقول: «يبدو لي أن التنوير يشع وينتشر في كل الجهات، ولكن المستنيرين لا يتواصلون فيما بينهم بما فيه الكفاية، إنهم فاترون، هذا في حين أن نار التعصب لا تزال مشتعلة».. ثم يقول: «واصلوا عملكم في تنوير العالم.. الشبيبة تتعلم، والأرواح تستنير.. لماذا تظل باريس وحدها في الظلام؟!».. ثم يقول إلى صديقه «دالامبير» فيما يخص سبب عدم توقيعه لاسمه على الكتب التي ينشرها ضد الأصوليين: «لا ينبغي إطلاقاً الكشف عن أسماء المؤلفين، ذلك انه لا يهم من أي طرف تجيء الحقيقة، المهم أن تجيء».. ثم يقول عن العصور الوسطى ومحاكم التفتيش: «إنها ثمرة العقلية الخرافية الأكثر بشاعة في تاريخ البشرية.. ولم نخرج من تلك الظلمات إلا منذ فترة قصيرة، وحتى الآن لم يستنر كل شيء».. وفي مكان آخر يدين بشدة «توجيه» عميد كلية اللاهوت في السوربون لأنه صرح بمعاداته للفلسفة ودعا الملوك الأوروبيين إلى قمعها بحجة أنها خطرة على الدين، يقول فولتير: «إن الفلسفة هي المشعل الذي ينبغي أن يضيء الطريق للبشر، وهي لم تستخدم أبدا هذا المشعل لحرق المفكرين كما فعلت محاكم التفتيش..».

بمعنى آخر فإن الفلسفة لم تقتل أحدا ولم تأمر بتصفية أي جماعة بسبب عقائدها الخاصة، أو أفكارها وميولها. الفلسفة لم تستبح دماء الناس ولم تكفرهم بشكل عشوائي، وإنما احتكمت إلى العقل والمنطق والحجة البرهانية من اجل الكشف عن الصح والخطأ في الأقوال والأفعال، واعترفت الفلسفة بتعددية الآراء والعقائد إلى درجة أن فولتير قال كلمته الشهيرة التي أسست فلسفة الديمقراطية في الغرب: قد اختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أضحي بنفسي من اجل أن يتاح لك أن تعبر عن رأيك وقناعتك.

×× اللحظات الكبرى تشبه حد السيف

في الواقع إن معظم الفلاسفة الفرنسيين كانوا مفعمين بقوة الرفض والنفي والنزعة الانقلابية. فالفيلسوف الذي لا يعرف أن يقول «لا» لعصره، «لا» لمجتمعه ليس فيلسوفاً. أول صفة من صفات المفكرين الكبار هي الرغبة العارمة في الابتعاد عن «القطيع»، في الاصطدام بالعقائد الراسخة في عصرهم، في تفكيكها وإزالتها من اجل تشييد البناء الجديد. فالمستقبل لا يمكن أن ينهض إلا على أنقاض الماضي.

صدر في باريس كتاب ضخم عن الفلسفة الفرنسية منذ العصور الوسطى وحتى اليوم. وقد أشرف عليه الباحث دوني ويسمان، أستاذ الفلسفة في جامعة نيويورك سابقاً وجامعة السوربون حالياً. وساهم فيه خمسة باحثين آخرين هم على التوالي: آلان دوليبيرا (عن مرحلة العصور الوسطى)، وكلود مورالي (عن عصر النهضة)، وماري فريدريك بيليغران (عن القرن السابع عشر والفلسفة الديكارتية) وجان لوفران (عن القرن الثامن عشر وعصر التنوير)، ثم جان لوفران نفسه (عن القرن التاسع عشر)، وأخيراً دوني ويسمان (عن القرن العشرين).

هكذا نلاحظ أن جميع العصور قد غُطيت من قبل باحثين مختصين ومشهورين في ميدانهم. والواقع إن من يريد أن يأخذ فكرة بانورامية شاملة عن الفلسفة الفرنسية ما عليه إلا أن يقرأ هذا الكتاب الذي يتجاوز الستمائة صفحة من القطع الكبير. وقد استمتعت كثيراً بقراءة ما استطعت قراءته منه، وبخاصة المقدمة العامة، والفصل المكرس لديكارت، ثم الفصل المكرس لعصر التنوير. ووجدت تحليلات جديدة وإضاءات لم أكن اعرفها سابقاً، أو لم أكن متأكداً من فهمها كما ينبغي.

في المقدمة العامة للكتاب يقول المشرف العام على المشروع: هناك حكم مسبق شائع وسائد يقول بأن فرنسا ليست بلداً فلسفياً بالمعنى الحقيقي والمليء للكلمة. والذين يطلقون هذه الإشاعة يضيفون قائلين بأن الفرنسيين لا يمتلكون «الرأس الميتافيزيقي» الذي يمتلكه جيرانهم الألمان مثلاً، أو حتى الإنجليز. بلدان لغتهم نفسها لم تخلق للفلسفة أو للتعبير عن مصطلحاتها وتراكيبها العويصة. ويصل بهم الإنكار والجحود إلى حد التساؤل: هل توجد حقاً فلسفة فرنسية؟! وعلى هذا السؤال الاستفزازي يجيب البروفيسور دوني ويسمان: نعم إن الفلسفة الفرنسية موجودة، وبقوة! ويردف مضيفاً: سوف أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول بأنها لا تخجل بأن تقارن نفسها بأعظم فلسفتين ظهرتا على وجه الأرض: الفلسفة اليونانية، والفلسفة الألمانية. ففلاسفة فرنسا، بحسب رأي المؤلف، يمكن أن يقارنوا بسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، كما بكانط وهيغل، وهيدغر، ناهيك عن مفكري الهند والصين.. (لا توجد أي إشارة إلى الفلسفة العربية أو الإسلامية. ولا اعرف لماذا نحن متخلفون عن الهند والصين في هذا المجال!).

ففلاسفتنا، يضيف المؤلف قائلاً، هم بالفعل فلاسفة وليسوا كتاباً أو أدباء فقط كما يعيرنا البعض. وما العيب في أن يكون الفيلسوف كاتباً كبيراً في ذات الوقت؟ ثم يعدد المؤلف بعض الأسماء الشهيرة من أبيلاروسان برنار في القرون الوسطى إلى ديلوز ودريدا في العصر الراهن، مروراً بمونتيني، وديكارت، وروسو، وفولتير، وباسكال، ومالبرانش، وبيرغسون، وسارتر، الخ.

في الواقع إن تحقير الفلسفة الفرنسية يجيء من المثقفين الفرنسيين أنفسهم وبخاصة أولئك المتأثرين جداً بالفلسفة الألمانية. فهؤلاء يعتقدون بأن الفرنسيين لم يخلقوا للفلسفة لأن روحهم خفيفة، سخيفة، سطحية.. والفلسفة تتطلب عقولاً ثقيلة أو أدمغة ضخمة كعقول الألمان الذين يفصلهم عن الفرنسيين نهر الراين، ولكن هذا الكلام لا يصمد لحظة واحدة أمام الامتحان. فكانط نفسه اعترف أكثر من مرة بمديونيته لجان جاك روسو. وكان يضع صورته الشخصية على مكتبه لكي يستطيع أن يشتغل بسلام وطمأنينة! وهيغل يقول عن ديكارت بأنه بطل الفكر والمؤسس الحقيقي للفلسفة الحدثية. ولا يمكننا أن نقيس حجم التأثير الضخم الذي مارسه هذا الرجل على عصره وعلى العصور الحديثة كلها. وماركس ألح على أهمية الدور الكبير الذي لعبه الاشتراكيون الفرنسيون في تطوير الفكر. وقس على ذلك.. وبالتالي فلماذا يحتقر الفرنسيون أنفسهم بنوع من المازوشية المتطرفة ويركعون أمام الألمان؟ لماذا ينبهرون بالألمان وفلاسفتهم إلى مثل هذا الحد؟! وأما فيما يخص عجز اللغة الفرنسية عن التفلسف ـ أي التعبير عن الفكر الفلسفي العميق والمعقد ـ فهو كلام سخيف لا يستحق حتى مجرد الرد (أفتح هنا قوساً وأقول بان نفس الكلام ينطبق على اللغة العربية. فبعض المتفرنجين أكثر من اللزوم يريدون إقناعنا بأن اللغة العربية ليست دقيقة ولا تستطيع أن تكون لغة علم أو فلسفة! بل ويدعون إلى تدريس العلوم الفيزيائية والطبية باللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية ومؤخراً سمعت بأنهم يدعون إلى تدريس العلوم الإنسانية والفلسفة، أيضا باللغات الأجنبية. فماذا تبقى لنا إذن؟!). ويرى ميشيل سير، أحد كبار فلاسفة فرنسا حاليا، أن الصفة الأساسية لمعظم الفلاسفة الفرنسيين على مدار العصور هي التالية: كلهم تعرضوا للاضطهاد والعيش في المنافي! فأكبرهم رينيه ديكارت، اضطر إلى الهرب من بلاده والعيش في هولندا لمدة عشرين سنة، ثم في السويد لمدة بضعة أشهر حيث مات عند الملكة «كريستين». كان يريد أن يتخلص من الجو الخانق السائد آنذاك في المملكة الفرنسية بسبب هيمنة التقليد والتحجر العقلي والأصولية الكاثوليكية. معظم فلاسفة فرنسا، كما يقول ميشيل سير، كانوا يشعرون بأنهم غرباء في وطنهم ومنبوذون من قبل معاصريهم. وقد أكدوا أنفسهم عن طريق التمرد على العقلية السائدة والامتثالية، عن طريق لغم القناعات الراسخة وتفكيكها. فديكارت نهض في وجه أرسطو والقديس توما الاكويني. ومعلوم أن الفلسفة السكولاستيكية (أي فلسفة القرون الوسطى التي كانت تعلم في مدارس ذلك الزمان من قبل اليسوعيين) كانت عبارة عن مزيج من الفلسفة الأرسطو طاليسية والعقيدة المسيحية. ومن قام بهذا المزيج أو بلور تلك التركيبة التوفيقية؟ انه القديس توما الاكويني الذي جسد الهيبة الفكرية العليا في العالم المسيحي ذي المذهب الكاثوليكي طيلة عدة قرون. بل ولا يزال تياره مستمراً حتى الآن من خلال التومائيين والفلسفة التومائية. وما الذي فعله ديكارت؟ لقد قام بأكبر انقلاب على هذه الفلسفة ودشن بذلك ولادة العصور الحديثة. من هنا خطورة ديكارت في تاريخ الفلسفة، ولهذا السبب اعتبره هيغل بطلاً من أبطال الفكر البشري، فهو شخص خطير لأنه كان يتقدم مقنعاً ولا يكشف أوراقه قبل أن يضرب ضربته الكبرى.

في الواقع إن معظم الفلاسفة الفرنسيين كانوا مفعمين بقوة الرفض والنفي والنزعة الانقلابية. فالفيلسوف الذي لا يعرف أن يقول «لا» لعصره، «لا» لمجتمعه ليس فيلسوفاً. أول صفة من صفات المفكرين الكبار هي الرغبة العارمة في الابتعاد عن «القطيع»، في الاصطدام بالعقائد الراسخة في عصرهم، في تفكيكها وإزالتها من اجل تشييد البناء الجديد. فالمستقبل لا يمكن أن ينهض إلا على أنقاض الماضي.

ولهذا السبب فإن معظم فلاسفة فرنسا أدينوا بشكل أو بآخر من قبل سلطات عصرهم، سواء أكانت سلطات لاهوتية، أم سياسية، أم اجتماعية، ولم يعرف الناس قيمتهم إلا فيما بعد: أي بعد أن ماتوا ودفعوا الثمن، وأكبر مثال على ذلك: جان جاك روسو. فقد عاش محتقراً، منبوذاً، مطارداً من مكان إلى آخر وكأنه مجرم أو شخص خطير جداً!! وكانوا يرجمونه بالحجارة ويكسرون نافذة بيته حتى تصل الحجارة إلى أقدام السرير الذي ينام عليه، ولكن بعد عشر سنوات أو أكثر قليلاً تندلع الثورة الفرنسية فإذا بهم يكرمون ذكراه، وينقلون رفاته إلى مقبرة العظماء، ويتخذون من كتبه دستوراً ومنهاجاً للجمهورية الفرنسية! وفولتير أيضا سجن في سجن الباستيل الشهير قبل أن يهرب إلى إنجلترا، بلد الحريات الأوروبية في ذلك الزمان بالإضافة إلى هولندا، ولكن فولتير، على عكس روسو، حظي بالتكريم الجماهيري في شوارع باريس قبل أن يموت بثلاثة أشهر فقط! ومع ذلك فإن الكهنة رفضوا الصلاة عليه أو قبره في مقابر المسيحيين لأنهم اعتبروه كافراً زنديقاً. وديدرو اعتقل لفترة من الزمن في سجن آخر هو «فانسين». وأما كوندرسيه فقد حكم عليه بالموت وانتحر في السجن. وقل الأمر ذاته عن عشرات المفكرين الآخرين. باختصار فإن كل من تفتخر بهم فرنسا حالياً وتضع أسماءهم على شوارعها وساحاتها العامة كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا، ولا يشذ عن ذلك فيكتور هيغو الذي نفاه نابليون الثالث لمدة عشرين سنة، قبل أن يعود كالفاتح المظفر إلى باريس.

هذا يعني أن هناك ثمناً ينبغي أن يدفعه المفكر من أجل حقيقته أو مبدئه. فإذا لم يرد أن يدفع الثمن حتى قبل أن يخطو خطوة واحدة في مجال الفكر، فليذهب وليشتغل شغلة أخرى غير الفكر والفلسفة. فلا أحد يجبره على أن يكون مفكراً آو باحثاً عن الحقيقة.

سوف أتوقف قليلاً عند الفصل المكرس لديكارت، والفصل المكرس لعصر التنوير. فيما يخص الأول يقول الكتاب بما معناه: إن القرن السابع عشر هو قرن الفلسفة الديكارتية.

فكل الفلاسفة الفرنسيين الذين جاؤوا بعد ديكارت يتموضعون بالقياس إليه إما سلبا وإما إيجاباً، إما حباً وإما كرهاً، وفلسفة ديكارت تعلن الاستقلالية الفكرية المطلقة للعقل، فالعقل هو الذي يحكم على كل شيء ويقول فيما إذا كان صحيحاً أم خطأ، خيراً أم شراً. كل عقيدة وكل فكرة ينبغي أن تخضع للتفحص العقلي والغربلة المنطقية قبل أن نرفضها أو نقبلها. بعد اليوم لا يجوز لنا أن نقبل فكرة ما بحجة أنها صادرة عن أرسطو، أو القديس توما الاكويني، أو أية هيبة دينية أو فلسفية أخرى. فلنا عقول بشرية زودنا الله بها، ومن حقنا أن نستخدمها لتمييز الصالح عن الطالح. فلماذا نظل تابعين إلى ابد الدهر للتراث المكرور وأقوال الأقدمين؟ ولكي نتوصل إلى الحقيقة الواضحة الناصعة ينبغي أن نتبع منهجية الشك الراديكالي. ولكنه شك بناء وليس هداماً على عكس ما نتوهم. فديكارت لم يكن عدمياً ولا شكاكاً حباً في الشك، وإنما كان يريد أن يصل إلى شيء، إلى نتيجة وقد وصل. والدليل على ذلك أن منهجيته العقلانية أصبحت عقيدة الغرب وأوصلته إلى مرحلة السيطرة على الطبيعة والكون، وبالتالي فهو شك منتج إذا جاز التعبير، وليس شكاً عقيماً يدمر الإنسان من الداخل. وقد وصل الأمر بديكارت إلى حد الشك في كل ما تعلمه منذ الطفولة والمدرسة والبيئة الأولى واقتلع بذلك الأفكار الخاطئة من أعماقه اقتلاعاً. وهذه عملية خطيرة وغير مضمونة العواقب.

فقد تؤدي إلى فقدان التوازن واهتزاز الشخصية لأنك عندئذ تدخل في معركة مع نفسك ومع كل ما شكلك منذ نعومة أظفارك عندما كنت لا تزال غضا طرياً بعمر الورد. هذه المعركة الهائلة للذات مع ذاتها هي التي دعانا إليها ديكارت وهي التي انتصر فيها شخصياً بعد طول حيرة وتردد وضياع، لقد ضاع ديكارت كثيراً قبل أن «يلتقي»: أي قبل أن يتوصل إلى حقيقة. ولكنه ما أن توصل إليها حتى راح يعض عليها بالنواجذ لكيلا تفلت منه بعد اليوم أبداً. إنها أغلى عليه من روحه، ولولاها لربما جن أو انتحر في تلك الليلة الليلاء (ليلة عشرة نوفمبر من عام 1619، ليلة الكشف الأعظم للحقيقة..).

ديكارت إذن هو احد مفكري القطيعات الكبرى في التاريخ، أي تلك اللحظات التي تشبه حد السيف والتي تفصل ما كان عما سيكون، بهذا المعنى فهو مؤسس العصور الحديثة ومغلق العصور الوسطى. فالفلسفة بعد ديكارت شيء، وقبله شيء آخر. نلاحظ أن الكتاب يلح هنا على تحليل كتابين أساسيين لديكارت هما: مقال في المنهج، وتأملات ميتافيزيقية، وهما متكاملان. والثاني انضج من الأول).

أما فيما يخص عصر التنوير الذي تلا عصر ديكارت مباشرة والذي يعتبر استمرارية له فلا أستطيع أن أتوقف عنده كثيراً هنا. كل ما أريد قوله هو انه العصر المؤسس للحضارة الغربية كلها أي للحضارة التي نعيش في ظلها اليوم شئنا أم أبينا. يقول الكتاب عن هذا الموضوع ما فحواه:

إن عصر التنوير لا يزال حتى اليوم، وبعد مائتي سنة على مروره، يدهشنا لحداثته وجرأته، وإبداعاته. فقد انتقل بنا، أي بالشعوب الأوروبية، من مرحلة الخضوع الأعمى للسلطة الاعتباطية المطلقة أو للعقائد اللاهوتية المسيحية إلى مرحلة الحرية وأنوار العقل. ففي هذا العصر فكك الفلاسفة أسس الأصولية المسيحية المتزمتة. وفيه فصل مونتسكيو بين السلطات الثلاث وأتاح بذلك ولادة الديمقراطية وحكم القانون.

×× خيانة التنوير

الإعجاب بالحضارة الغربية لا يعني التسليم بكل ما جاءت به. فالحداثة ليست مقدسة ولا منزَّلة من السماء، وإنما هي تجربة بشرية فيها الصالح والطالح. والمشكلة هي أن بهرجتها تخفي عنا عيوبها للوهلة الأولى، فلا نستطيع أن نراها إلا بعد فترة طويلة من الإقامة والدراسة في بلدان الغرب.

ولكي نكون منصفين ينبغي القول بأن الغرب غربان لا غربا واحدا. فهناك الغرب المتغطرس والميّال إلى التوسع والهيمنة على الآخرين، وهناك الغرب الاحتجاجي التحرري الذي طالما عارض الأول في فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار. واليوم ينقسم الغرب أيضاً إلى قسمين: قسم يؤيد العولمة الرأسمالية المتوحشة، وقسم يعارضها ويدعو إلى عولمة إنسانية أقرب ما تكون إلى العدل وتحسّس آلام الشعوب الفقيرة. وقد سقط بعض القتلى والجرحى في المظاهرات التي نظمت ضد قادة العولمة هنا أو هناك. وبالتالي فمن الخطأ أن نعتبر الغرب كتلة واحدة صماء بكماء، ولا نرى فيه إلا الوجه الإمبريالي، الاستعماري، المعادي لنا في المطلق بسبب وبدون سبب. لا ريب في أن ما يحدث في فلسطين يمثل ظلماً صارخاً ولا ينبغي أن تسكت عنه أي حضارة تستحق هذا الاسم، لكن حتى هنا نلاحظ وجود أصوات مضادة، ومظاهرات تُنظَّم في بروكسل أو سواها لدعم الحق المضطهد. ومظاهرة باريس الأخيرة، كانت ضخمة ورائعة تحت شمس الربيع الناعمة.. وبالتالي فالضمير لم يمت تماماً.

ولكن لا ريب في أنه توجد مشكلة في الحضارة الغربية، البعض يعزوها إلى انحسار القيم الروحية والدينية، وتغلُّب الفلسفة المادية الإلحادية على كل شيء. ولا ينبغي أن نستهين بوجهة النظر هذه، ولا أن ننعتها بالرجعية والتخلف قبل أي تفحص. فالواقع أنه تتبناها شخصيات فكرية مهمة في الغرب ذاته كالفيلسوف بول ريكور أو المؤرخ جان دوليمو أو سواهما عديدون. والأول فيلسوف مشهور عالمياً، والثاني أحد كبار مؤرخي فرنسا، وكلاهما يعلن إيمانه صراحة. وهو أمر ليس سهلاً في بلدان الغرب، حيث تسيطر الآيديولوجيا الإلحادية على الساحة الثقافية والفكرية والإعلامية. وأصحاب هذا التيار يأسفون لأن النجاحات التي حققتها الحضارة الغربية على صعيد العلم والتكنولوجيا لم يرافقها نفس النجاح ـ أو التقدم ـ على صعيد الأخلاق والقيم الروحية. وهناك مفكرون آخرون عديدون يعتبرون أن هذه الحضارة وصلت في تطورها إلى الجدار المسدود. فهناك أزمة معنى وقيم واضحة، وبعض الأوروبيين أخذ يعتنق أديان الشرق الأقصى كالبوذية مثلا. وهي تشهد الآن انتشاراً واسعاً في النخب الفرنسية إلى حد أنها أقلقت الفاتيكان وأثارت غيرة الكنائس المسيحية! والسبب هو أنه بعد أن فكّك الغرب كل عقائده التقليدية، وبعد أن شبع كثيراً من حياة الاستهلاك المادي، فإنه راح يشعر بظمأ روحاني، بعطش إلى المعنى، معنى الحياة والوجود. وراح يبحث عنه في أي مكان، وهذا أمر طبيعي. فبعد الإشباع المادي تجيء الحاجة إلى الإشباع الروحاني. والإنسان يتساءل عن مصيره في هذا العالم، ويشعر بالحاجة إلى معنى يقدم له التفسير والطمأنينة.

فالمنظور المادي الإلحادي ربما كان مفهوماً إلى حد ما كرد فعل على التعصب الأصولي الكنسي أثناء محاكم التفتيش، ولكنه الآن وصل إلى نهاية الشوط، واستنفد مبرراته وإمكانياته. فما الذي يقترحه على الإنسان الأوروبي في نهاية المطاف؟ إنه يقول له بما معناه: إنك كالحيوان مشكّل من جسد ووظائف عضوية فأَشْبعها وينتهي الأمر!.. ينبغي أن تنهب الشهوات والمتع نهباً حتى آخر قطرة، حتى آخر لحظة، لأنك بعدئذ ستموت وتفنى نهائياً، فلا توجد حياة أخرى بعد الموت ولا من يحزنون.. فانتهز فرصة الحياة وشهواتها إذن قبل فوات الأوان.. وهكذا يتسابق الناس على الفلوس بشكل مسعور لكي يستهلكوا بشكل مسعور أيضاً.

في الواقع إن التنوير في بداياته لم يكن ملحداً على عكس ما نتوهم، أو قل كان فيه تيار متطرف ومادي بشكل محض ولكنه صغير. أما التيار الأساسي فكان مؤمناً وأخلاقياً من أعلى طراز، وقد تجسّد هذا التيار بشخصيات كبرى ليس أقلها جان جاك روسو أو ايمانويل كانط.

ومعلوم أن كانط الذي أكمل روسو ومشى على نهجه كان يمثل ذروة العقلانية والتنوير. وأما روسو فكان يمتعض جداً من غرور الملاحدة وعنجهيتهم. وفي إحدى المرات كان فلاسفة التنوير مجتمعين في صالون «البارون دولباك» فراح بعضهم يستهزئ بالمعتقدات العليا، وعندئذ هددهم روسو بالخروج من الجلسة إذا ما قالوا كلمة إضافية واحدة ضد الذات الإلهية! ومعلوم عن روسو انه نهض في عزّ عصر التنوير لكي يطلق صرخته المدوية: لا لعلم بدون أخلاق، لا لحضارة بدون ضمير! والتنوير إذا لم يكن مبنياً على قيم العدالة والمساواة واحترام الحقيقة فإنه لا يساوي فلساً واحداً.

ولكن الشيء المؤسف، والذي حصل تاريخياً، هو أن التيار الإلحادي المتطرف في التنوير الأوروبي انتصر بعدئذ في القرن التاسع عشر وهو المسؤول بشكل مباشر أو غير مباشر عن ظهور الحركات الوثنية كالنازية والفاشية في القرن العشرين. هكذا انفصل مشروع الحداثة عن مبادئه الأولية التحريرية لكي يصبح مجرد مشروع انتهازي بارد هدفه التوسع والاستغلال دون أن يشبع أبداً، ولو لم ينحرف التنوير عن القيم الأخلاقية والروحية العليا لما حصلت المغامرات الاستعمارية، والحروب العالمية، وانقسام العالم إلى قسمين: قسم شبعان إلى حد البطر، وقسم فقير إلى حد الجوع. فبما أن المادة هي كل شيء في الوجود، بحسب المنظور الإلحادي الصرف، فإنه لم يعد هناك أي معنى للقيم الروحية والأخلاقية. وأزمة الحضارة الغربية تعود في أحد جوانبها الأساسية إلى هذه النقطة بالذات. فلو أن التنوير الإيماني أو الأخلاقي على طريقة روسو وكانط هو الذي انتصر لما وصلت هذه الحضارة إلى ما وصلت إليه الآن من أنانية، وتفسّخ، وانحلال، بل وإذا كان فيها شيء إيجابي حالياً فإن الفضل فيه يعود إلى مفكرين من هذا النوع.

وبالتالي فنحن لا نعيب على الغرب تنويره ولا عقلانيته، وإنما خيانته للتنوير والعقلانية والنزعة الإنسانية التي تجلَّت لدى مفكريه الكبار. بهذا المعنى، فإن الغرب خان مبادئ جان جاك روسو وايمانويل كانط وانحرف عنها بدون أدنى شك. ولذلك قال الرئيس البوسني علي ايزبيغوفيتش: إن الغرب لم يخن آمالنا بقدر ما خان مبادئه الخاصة بالذات! وفي فلسطين يمكن أن نقول نفس الشيء، وعلى الغرب أن يشعر بالخجل والعار بسبب محاصرة عرفات وشعبه بهذا الشكل. وبالتالي، فنحن لا نحاكم الغرب من وجهة نظر خارجية عليه سواء أكانت عربية أو إسلامية أو افريقية أو آسيوية. وإنما نحاكمه من خلال المبادئ التي تؤسس حضارته والتي يتشدّق بها صباح مساء، ثم يخونها صباح مساء أيضا! وهنا تكمن الأزمة الرهيبة للحداثة الغربية، هنا تكمن ازدواجيتها ونفاقها، ولذلك فقدت الكثير من مصداقيتها في نظر الشعوب الأخرى. فلو لم يحصل طلاق هائل بين المبادئ التنويرية وتطبيقاتها على الأرض لأصبحت الحضارة الغربية نموذجاً يحتذى لجميع شعوب العالم. يقول الفيلسوف كاستورياديس متسائلا: ما هو النموذج الأعلى الذي تقدمه الرأسمالية الليبرالية لبقية العالم؟ إنه نموذج المجتمعات الغنية ذات الثروة الهائلة والقوة التكنولوجية والعسكرية التي لا مثيل لها في التاريخ، ولكن هذا لا يكفي لصنع نموذج حضاري تحريري يفيد الإنسانية. والواقع إن المجتمعات الغربية تقدم للعالم النموذج المنفّر لا النموذج المغري بإتباعه. فهي مجتمعات مفرغة كلياً من المعاني والدلالات الإنسانية. والقيمة الوحيدة التي تهيمن عليها هي المال، والبورصة، والدولار.. ثم الشهرة والأضواء في وسائل الإعلام من تلفزيون وغيره، وكذلك السلطة بالمعنى السوقي الأكثر ابتذالاً وسخافة.. وفي مواجهة هذا الفراغ في القيم والمعاني، فإن القيم الدينية تعود إلى الساحة من جديد لكي تكتسب بعض المواقع.

باختصار، لقد توقفت الحداثة عن أن تكون حركة تحريرية للشرط البشري منذ أن كانت قد تحولت إلى آيديولوجيا غربية متعجرفة ترفض أي نقد أو مراجعة. نقول ذلك ونحن نعلم أن كانط كان يلح على الشيء التالي: ان عصرنا هو عصر النقد، وكل شيء ينبغي أن يخضع للتفحص النقدي قبل القبول به أو رفضه.. ولكن الغرب تحول فيما بعد إلى أقنوم صنمي يرفض أي نقد لذاته وبخاصة إذا ما جاء هذا النقد من مثقفي العالم الثالث. وهكذا جفّ نسغ الحداثة وانقلبت إلى عكسها، أي إلى أصولية متزمتة، أصولية عبادة المال، والركوع أمامه ثم تقديس المتعة والشهوة بلا حدود ولا شروط.

 

عن موقع : سؤال التنوير