تبدأ السياسة بالانعطاف من العالم الوهمي إلى عالم الإنسان الواقعي، والانشغال به والاشتغال فيه، أي بالخروج من شرنقة الأيديولوجية والانعطاف إلى الواقع القائم بالفعل، هنا والآن. “فلو كان التفكير أو العاطفة أو أية صورة شئت من صور الوعي الذاتي تنظر إلى الحاضر على أنه شيء باطل وتسعى إلى
تجاوزه بمنظار حكمة أعلى من حكمة العقل ذاته فإنها تجد نفسها في فراغ”، وتكون هي ذاتها باطلة، لأنها قائمة في الحاضر ذاته، بحسب هيغل. ولكن الواقع، ببعديه الطبيعي والاجتماعي، موار ومتغير، بحكم تعارضاته الملازمة، فهو واقع تناقضي، جدلي، وإمكاني واحتمالي وعنيد في الوقت ذاته، وليس فيه من حتمي سوى ما تحقق بالفعل. ولذلك لا يمكن أن تتطابق الأهداف التي يتوخاها العمل البشري والنتائج التي يحققها. والفعل السياسي خاصة أقل الأفعال موثوقية في بلوغ النتائج المرجوة منه والأهداف المنشودة من خلاله. ومن ثم فإن هنالك مغامرة معرفية وعملية في التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه الواقع، ناهيكم بما ينبغي أن يكون عليه.
والسياسة العقلانية هي العمل على ما هو ممكن لا على ما هو واجب. وهو ما يقتضي إعادة بناء صورة العالم الواقعي في الذهن والكشف عما ينطوي عليه من تعارضات واحتمالات. “وإذا استطاعت نظرية ما أن تجاوز العالم الواقع فعلاً، وأن تبني المثل الأعلى للعالم على نحو ما ينبغي أن يكون عليه، فإن هذا العالم يكون له وجود من غير شك، ولكن في رأس صاحب النظرية فحسب، على هيئة عنصر لا قوام له”[1]، كالأممية البروليتارية في رؤوس الاشتراكيين، ومنهم ماركس نفسه، والدولة القومية، دولة الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، في رؤوس القومويين والخلافة الإسلامية في رؤوس الإسلامويين والمدينة الفاضلة في رؤوس الطوباويين، وهذه لا يمكن أن تقوم أي منها إلا بمعجزة أو بثورة على الطبيعة البشرية. العقل هو عقل العالم بما هو عليه وبما يمكن أن يكون عليه، لا بما يجب أن يكون عليه؛ إنه وحدة الشكل والمضمون؛ “لأن الشكل في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع الفعلي سواء كان واقعاً أخلاقياً أو طبيعياً” [2]. إذا كان الأمر كذلك فلا مناص من إقامة الحد على الوعي الأيديولوجي والاعتراف بواقعية التجربة التاريخية؛ فحين يفعل الناس كل ما في وسعهم ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل أهدافهم ولا يبلغونها لا تكون المشكلة في الواقع وعناده وممانعته، ولا في الأهداف المشروعة أخلاقياً، كالوحدة العربية أو الاشتراكية أو “مجتمع الكفاية والعدل”، مثلاً، بل في الوعي الذي يوجه العمل، وفي تأخر بنى المجتمع كافة والبنى الأيديولوجية والسياسية خاصة، ويغدو نقد الوعي ونشر عار التأخر على الملأ واجباً سياسياً وأخلاقياً من الدرجة الأولى.
وكل نمط من أنماط الدولة يقوم على مبدأ، هذا المبدأ هو الشرف في الدولة الأوليغاشية، دولة القلة، والشجاعة في الدولة الملكية، والفضيلة السياسية في الدولة الوطنية الحديثة التي تحمل في ذاتها إمكانات التحول إلى دولة ديمقراطية. والفضيلة السياسية هي المواطنة، وهي وسط بين رذيلتين، أي بين تطرفين: تطرف من اليمين وتطرف من اليسار. وماهية الدولة الحديثة هو القانون، بصفته العامة والمجردة، فإذا ما فسد مبدأ الدولة تغدو أفضل القوانين سيئة. ولعل عدم تطبيق القوانين الجيدة هنا وهناك لا يعود إلى تعسر إداري أو فساد إداري، أو إلى عيب أخلاقي فيمن يفترض أن ينفذوا القانون ومن عليهم أن يطيعوه، بل يرجع بصورة أساسية إلى فساد مبدأ الدولة، أي إلى غياب مبدأ المواطنة.
لذلك يبدو لنا أن الممكن اليوم في أي بلد عربي هو استعادة الدولة الوطنية الحديثة أو إعادة بنائها على نحو يجعلها تعبيراً عن كلية المجتمع وتجريداً لعموميته وتعبيراً عن إرادة الشعب الحرة وعن سيادته على نفسه، لا دولة جزء من المجتمع، دولة حزب أو عشيرة أو طائفة أو طغمة، تقوم على الإكراه والقمع وإلغاء المجتمع واستباحة الثروة الوطنية وتدمير قوى الإنتاج، كما هي الحال اليوم، ولا سيما في بلدان المشروعية الثورية.
لقد بينا في مناسبات كثيرة أن الدولة الحصرية التي هذه صفاتها لا تستطيع أن تكون إلا دولة استبدادية تسلطية، تستمد مشروعيتها من أوهامها الذاتية، ومن وظيفة سياسية إقليمية تعمق تبعيتها للخارج، لا من المجتمع الذي يفترض أنها دولته، ولا من وظائفها الاجتماعية والإنسانية. ولذلك نعارضها بالدولة الوطنية. ونعتقد، بخلاف الأوهام القومية السابقة والرهانات الذاتية، عندنا وعند غيرنا، أن الدولة الوطنية شرط ضروري للوحدة العربية وليس العكس. وإلا سنظل رازحين تحت نير الاستبداد “بانتظار غودو[3]”.
فلم يعد من الجائز أن ينظر إلى المشروع الوحدوي بعد تجربة نصف قرن إلا على أنه مشروع ديمقراطي يعبر عن الإرادة الموضوعية للشعوب العربية، وهذه الإرادة الموضوعية ليست سوى الدول الوطنية التي انصرف الفكر السياسي عن الانشغال بها والاشتغال فيها ولم ير فيها سوى عقبة في طريق الدولة المنشودة تجب إزالتها. فلا يزال العربي يشيح عن الدولة القائمة بالفعل ولا يمنحها أي مشروعية، و”ينتمي روحياً وثقافياً إلى دولة متخيلة”، هي المعادل الأخلاقي الذاتي للدولة القائمة التي يرفضها، ويساوره يأس مطلق من إمكانية إصلاحها. كما لاحظ عبد الله العروي.
تقول الأيديولوجية القومية، مثلاً، إن السوريين واللبنانيين شعب واحد في دولتين، ما يعني أن إحدى هاتين الدولتين يجب أن تزول، من دون مراعاة مفاعيل ستين عاماً من عمرها، وأن أحد الشعبين يجب أن يذوب في الآخر أو يتبع له على الأقل، بصرف النظر عن إرادته، لكي تستقيم الأمور؛ فالدولة بالتعريف أرض وشعب وسلطة سياسية عامة. في حين لم يثمر التدخل السوري أو الوجود السوري أو الدور السوري في لبنان طيلة ثلاثة عقود سوى تشويه العلاقة بين الشعبين. فكرة الوحدة العربية لا تزال متناقضة مع فكرة الحرية، فلا بد من إزالة هذا التناقض أولاً. لو كان في كل من سورية ولبنان مثلاً دولة وطنية ناجزة، لما حدث ما حدث ولما وصلنا إلى ما نحن فيه.
لا يمكن أن تكون الوحدة العربية إلا تعبيراً عن الإرادة الحرة للشعوب العربية. والإرادة الحرة لأي شعب إنما تتجلى في الدولة الوطنية الديمقراطية التي ينتجها لنفسه، في كل بلد على حدة، الدولة التي تشارك جميع القوى الاجتماعية في تحديد خياراتها واتجاهات تطورها، والرهان ينعقد على هذه الخيارات، أي على حرية الشعوب وإرادتها، لا على إرادة حزب قومي ولا على إرادة قائد ملهم. ولعل الدرس الذي نسيه الجميع من تجربة الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 أن البرلمان السوري المنتخب بحرية والمعبر عن محصلة القوى الاجتماعية هو الذي اتخذ قرار الوحدة تلبية لإرادة الشعب السوري، في حين كان الانفصال انقلاباً عسكرياً، وأن الانقلابات العسكرية التالية 1963، 1966، 1970 لم تفض إلى الوحدة، بل إن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استولى على السلطة في سورية والعراق بقوة السلاح عمق الهوة بين القطرين المتجاورين وانقسم حزبين متعاديين يكيد كل منهما للآخر. لقد آن الأوان لنقل المشروع الوحدوي الممكن والواجب من حقل الأيديولوجية القومية المتهافتة وشعاراتها الفارغة إلى حقل السياسة، أي إلى حقل الإرادة الحرة للشعوب.
ونعتقد أن مجرد حرية انتقال الأفراد والبضائع والرساميل وإلغاء الحواجز الجمركية بين الدول العربية، وحق أي مواطن من مواطنيها في الإقامة والتملك والاستثمار في أي دولة عربية بدون شروط غير الشروط التي تسري على مواطنيها، من شأنه أن يدفع بالمشروع الوحدوي قدماً، ويعزز أكثر فأكثر فرص نشوء تقسيم عربي للعمل وفرص التواصل الثقافي والتعاون العلمي والتنسيق السياسي، فضلاً عن أثره المهم في تحفيز الإنتاج الوطني واستثمار الموارد والطاقات الطبيعية والبشرية المتاحة والممكنة، في كل دولة على حدة، وتمهيد السبيل للتكامل الاقتصادي، وهو الأساس الموضوعي لأي مشروع وحدوي غير قابل للانتكاس بسهولة. فليس هنالك في عالمنا ما هو أكثر غباء وأكثر تنغيصاً لحياة الشعوب من الجنرالات والحدود. لقد أقام القوميون الوحدة العربية في الشعارات والمؤتمرات، ولكن بقي أن تقوم في الواقع. وللواقع منطقه وقوانينه التي لا يمكن أن تحل محلها أي إرادة ذاتية. لن تكون الوحدة العربية إلا نتيجة إنسية المجتمعات العربية وعلمانيتها وعقلانيتها وديمقراطيتها بالتزامن مع نمو قواها المنتجة وقيام دول وطنية مستقلة فعلاً لكل منها. ومن ثم فإن المسألة القومية اليوم هي بالضبط مسألة الأنسية والعلمانية والعقلانية والديمقراطية قبل أن تكون أي شيء آخر. ولم يعد النموذج البسماركي والنموذج النابليوني قابلين للمحاكاة، بل النموذج الأوربي الحديث، نعني السوق الأوربية المشتركة والوحدة الأوربية الآخذة في النمو.
وقد لاحظ ياسين الحافظ أن الاقتصادات العربية المتشابهة والمتراصفة لا تدفع التطور العربي نحو الوحدة العربية، ولا سيما إذا أضفنا إلى ذلك هزال العمل البشري في هذه الاقتصادات التي تعتمد بصورة أساسية على السماء (الزراعة التقليدية) وعلى باطن الأرض (الثروات الباطنية ولا سيما النفط)، فضلاً عن الآثار الواضحة للتبعية الموضوعية والذاتية، وتنامي الفقر والجهل والمرض والبطالة، وهجرة الكفاءات والعقول، وعطالة نصف المجتمعات العربية، أي النساء، وتنامي المديونية الخارجية. فرأى أن السياسة، لا الاقتصاد، هي الكفيلة بدفع المشروع الوحدوي إلى الأمام. ولكن السياسة، كما عرفها ياسين الحافظ نفسه “علاقات موضوعية”، وهي، كما عرفها ماركس “اقتصاد مكثف”. ومن ثم فإنه لا يمكن الرهان على السياسة أكثر من الاقتصاد، ولا على الثقافة أكثر من السياسة، إلا حينما تمضي السياسة في طريق بناء الدولة الوطنية الحديثة الديمقراطية. وفي جميع الأحوال لا يمكن الرهان على الإرادة الذاتية وحدها.
ولم يعد من الجائز أيضاً أن يعلق مشروع إعادة بناء الدولة الوطنية على حسم الصراع العربي الإسرائيلي؛ لأن بناء دولة وطنية حقاً وفعلاً في البلدان المجاورة لفلسطين المحتلة خاصة هو شرط ضروري لتعديل ميزان القوى العربي الإسرائيلي وإنجاز تسوية تاريخية تضع حداً لعدوانية “الدولة العبرية” ولطابعها الصهيوني العنصري. فلم يعد هناك أي معنى لشعار استئخار المواجهة العسكرية ريثما تتوافر الشروط المناسبة لمواجهة عسكرية ظافرة، فالصراع العربي الإسرائيلي لم يعد حسمه ممكناً إلا بتحصين الدول العربية من الداخل وتحريرها من ربقة التأخر والاستبداد اللذين لا يقلان شؤماً و إهانة للكرامة البشرية من الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حلاً إنسانياً عادلاً على أساس حق العودة إلى الوطن. فإن مستقبل بلادنا منوط بالسلام لا بالحرب. ومصير الطابع الصهيوني العنصري ومن ثم الطابع العدواني لدولة إسرائيل يتوقف على التقدم العربي فحسب. ولعل الأهم في هذا السياق هو احترام إرادة الشعب الفلسطيني ودعم سلطته الوطنية المنتخبة بكل السبل الممكنة, لا الوصاية عليه أو النيابة عنه باسم قومية المعركة ومركزية الصراع العربي الإسرائيلي، أو باسم أيديولوجية دينية لا ترى في فلسطين سوى “وقف إسلامي”، في حين لا ترى في مكة المكرمة هذا الرأي.
ما من شك في أن هناك عوامل ذاتية وموضوعية تدفع إلى الوحدة العربية، أطلق عليها ياسين الحافظ اسم العوامل الجاذبة إلى المركز في السيرورة الوحدوية، ولكن التأخر التاريخي بوجه عام والاستبداد السياسي بوجه خاص لا يزالان عقبتين رئيستين تعترضان هذه السيرورة التي لا تتوقف، كما بينت التجربة، على “الإرادة السياسية” إلا بقدر ما تكون هذه إرادة عامة، لا إرادة حزب ولا إرادة طليعة ثورية ولا إرادة قائد كاريزمي. السيرورة الوحدوية في تعينها الواقعي هي بالأحرى سيرورة نمو الميول العقلانية والعلمانية والديمقراطية في المجتمعات العربية وصيرورتها خيارات نهائية للقوى الاجتماعية الحديثة التي تنجز قطيعة معرفية وثقافية وسياسية وأخلاقية مع الاستبداد الديني والاستبداد السياسي على السواء، وهما صنوان يتغذى كل منها من الآخر ويغذيه. ومن ثم فإن الوحدة العربية ممكنة، ولكنها ليست حتمية بأي معنى من المعاني، حتى حينما تدرك الشعوب العربية أهميتها وفائدتها، فإن مثل هذا الإدراك، على أهميته، لا يغير قوانين الواقع، فلا يمكن للوعي الذاتي والإرادة الذاتية أن يحلا محل القوانين الموضوعية.
منطقياً وتاريخياً، الوحدة ليست نقيضاً جدلياً للتجزئة الكولونيالية الحديثة، بل هي النقيض الجدلي للتعدد والاختلاف والتعارض و”التكسر الصلبي” و”نقص الاندماج القومي”، في كل مجتمع على حدة، وعلى الصعيد القومي، وهي من ثم هوية الاختلاف، وهو ما لم يدركه الفكر القومي حتى يومنا. التفتت والتناثر والتحاجز الاجتماعي وتشظي الحقل الثقافي والسياسي أقدم من التجزئة الكولونيالية، بل هي التي جعلت التجزئة الكولونيالية ممكنة. الوحدة افتراض نظري وفكرة مجردة فحسب، تتعين واقعياً في العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويتحدد مصيرها بحركة التعارضات الاجتماعية واتجاه تطورها. العلاقات الاجتماعية والتعارضات التي تعينها وتتحدد بها هي التي تجعل الوحدة ممكنة أو غير ممكنة، إذا أردنا الانطلاق من الواقع، لا من أوهام “الفكر القومي” والأيديولوجية القومية. العلاقات والبنى العشائرية والدينية والمذهبية والطائفية والأقوامية والجهوية … لا تفضي إلى الوحدة. وهذه العلاقات والبنى ونقيضها هي تجليات الإرادة في واقعها الفعلي، الإرادة الموضوعية، لا الإرادة الذاتية. الإرادة لا تحل محل القانون، بل إن كل ما تستطيع فعله هو اكتشاف القانون في الواقع المعطى والعمل بمقتضاه.
إن أي محاولة لعرقلة مشروع بناء الدولة الوطنية في أي بلد عربي باسم الوحدة العربية أو تحرير فلسطين أو باسم مواجهة الأخطار الخارجية أو باسم أولوية إقامة الدولة الإسلامية، أو بمحاولة إضفاء أي صفة من صفات الأفراد الطبيعيين على الدولة التي لا يمكن أن توصف سوى بالعمومية، لأن العمومية هي ماهيتها وجوهرها بوصفها تجريد المجتمع المدني، إنما تصب الماء في طاحون التأخر والاستبداد، وتؤدي إلى الفوضى وحرب الكل على الكل، وتنمي القابلية للاختراق الخارجي والاستعمار. الدفاع عن الوطن هو وظيفة الدولة، لا وظيفة جزء من مواطنيها، إلا حينما تزول الدولة.
[1] – هيغل، أصول فلسفة الحق، ص 116
[2] – المصدر السابق، ص 117 – 118
[3] – عنوان مسرحية صموئيل بيكيت التي تدور حول انتظار مجهول يعرف المنتظرون أنه لن يأتي.