°
, April 18, 2024 in
آخر الأخبار
قضايا

الدولة العلمانية – محمد شحرور

كثر الحديث عند العديد من الحركات السياسية في الوطن العربي عن الدولة العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، مما حصل معه انفصام كبير بين الحركات الإسلامية والحركات القومية التي بثت أطروحة الدولة العلمانية. فهل الدولة الإسلامية دولة علمانية؟

الدولة العلمانية، كما أراها، هي الدولة التي لا تأخذ شرعيتها من رجال الدين (الهامانات)، وإنما تأخذ شرعيتها من الناس، فهي لهذا دولة مدنية غير مذهبية وغير طائفية. وبما أن الإسلام لا يعترف أصلاً برجال الدين، وليس بحاجة إليهم ليعطوه الشرعية، والهامانات هم من يدّعي الاختصاص بالدين والحفاظ عليه، والرقابة على تنفيذه من الناس، فإن أهل الحل والعقد في الإسلام هم نواب الشعب المنتخبين بالاقتراع الحر (الشورى في شكلها المعاصر) والدولة العلمانية هي الدولة التي تتعدد فيها الآراء، وتصان فيها حرية الرأي والرأي الآخر.

والإسلام كدين، لا يمكن فصله عن الدولة، لأنه لا يحتوي على مركبات الحق والتشريع والأخلاق والمال، وعلى جدلية الاستقامة والحنيفية، فإسلامية الدولة تتحقق في عدم تجاوز تشريعاتها حدود الله، وفي تبني الحقيقة والبحث، بالعلم والعقل، في بنيتها، وباعتماد الوصايا في منهاجها التربوي. أما العبادات فتتبع التقوى الفردية، وهي أصلاً مفصولة عن الدولة، ولا يوجد فيها جانب الحنيفية (التطور).

وبما أن الدولة تخضع للتطور دائماً فمن الطبيعي أن تُفصل عن العبادات، وقد فصلها النبي (ص) بنفسه. وبهذا نرى أن الدولة الإسلامية دولة علمانية بحتة. فالإسلام يحوي جدل الاستقامة والحنيفية، مما يعطي المجال للتعددية الحزبية وحرية التعبير عن الرأي، والإسلام يحتمل الموقف اليساري والموقف اليميني في حل نفس المشكلة. وكلاهما إسلامي، والمطلوب هو فقط تقديم البينات، وموافقة أكثرية الناس، لا موافقة علمانية الدين، لأنه لا علاقة لهم بهذه الموافقة، وليس من حقهم إعطاء الشرعية للدولة أو للقوانين أصلاً. وتقوم الدولة العلمانية على الأسس التالية:

1- لا إكراه في الدين.

2- الكفر بالطاغوت (رفض الطغيان).

3- وأمرهم شورى بينهم.

4- فصل العبادات عن الدولة.

5- القانون الأخلاقي العام المتمثل بالوصايا.

6- حدود الله التي تتناسب مع فطرة الإنسان.

7- منهج البحث العلمي وتقديم البينات المادية أساس للتشريع وللاختلاف.

وبما أن الرأسمالية والاشتراكية لا تكونان إلا في النظام الاقتصادي، والديموقراطية والاستبداد في النظام السياسي، والليبرالية والمحافظة في النظام الاجتماعي، فقد نجد دولة من النوع التالي:

(مجتمع محافظ + نظام سياسي ديموقراطي + نظام اقتصادي رأسمالي) كاليابان مثلاً، أو من النوع التالي:

(مجتمع ليبرالي + نظام سياسي ديموقراطي + نظام اقتصادي رأسمالي) كالولايات المتحدة مثلاً، أو من النوع التالي:

(مجتمع محافظ + نظام سياسي استبدادي + نظام اقتصادي اشتراكي) مثل كوريا الشمالية مثلاً.

ونجد من تبديل حدود المعادلة أعلاه، احتمالات عديدة لها ما يقابلها في الواقع، إذا أضفنا إليها حداً جديداً هو نظام الحكم (جمهوري، ملكي، مطلق أو مقيد). إلا أن شكل الحكم ليس مهماً، فليس كل حكم ملكي سيئاً، وليس كل حكم جمهوري جيداً على الإطلاق، إذ قد يأخذ الشكلان في بعض الأحيان محتوى واحداً!! لهذا، فعندما نطرح شكل الدولة الإسلامية، علينا اختيار النموذج من الاحتمالات الممكنة عقلياً، والموجودة موضوعياً، فيما يتعلق بالمجتمع والسياسة والاقتصاد وشكل الحكم، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصائص التاريخية والمحلية.

والإسلام دين ليبرالي ومحافظ في آن معاً. إذ تظهر ليبرالية الإسلام في أنه:

1- يقر بأعراف وتقاليد وعادات كل شعوب الأرض، ما لم تتجاوز حدود الله.

2- يؤمن بأن الحرية والكرامة الانسانية هبة الله إلى الناس، للذكور والإناث على حد سواء. لذا فإن الإسلام لا يمنع اختلاط الرجل بالمرأة في العمل والشارع، لكنه يمنع الخلوة مع غير المحارم في مكان مغلق.

3- التشريع الإسلامي، فيما يتعلق بالزواج والطلاق والإرث وقانون الأحوال الشخصية، تشريع مدني انساني ضمن حدود الله، يتبع درجة التطور التاريخي للمجتمع، وتقديم البينات، وموافقة الأكثرية (مجالس التشريع المنتخبة) ويمكن تحقيق العدالة النسبية تاريخياً من خلال هذا التشريع.

4- لباس المرأة والرجل يتبع الأعراف في المجتمع ضمن حدود الله، فهناك مجتمعات محافظة من ناحية التطور التاريخي، مجتمعات ذكورية في الغالب، تتقيد بالحد الأعلى لله في اللباس، وهناك مجتمعات تتقيد بما دون ذلك، وهي كلها إسلامية.

أما الإسلام من زاوية الاستبداد والديمقراطية (الشورى) في السياسة، فهذه هي آفة الآفات وعلة العلل، والداء المزمن في المجتمعات العربية الإسلامية، منذ نهاية الخلافة الراشدية، حتى يومنا هذا، الذي يحتاج إلى جهد كبير للتخلص منه، ولتأسيس الدولة العربية الإسلامية على أساس الديموقراطية السياسية ذات المؤسسات الديموقراطية التي تتجلى في التعددية السياسية واستقلال القضاء وحرية التعبير عن الرأي وسيادة القانون، وحرمة الدستور.

إن أزمة الديموقراطية أزمة مستعصية في العقل العربي السياسي قبل أن تكون مستعصية في المؤسسات، فخلال هذه القرون الطويلة أصبح الاستبدال فلسفة تدخل ضمن شخصية الانسان العربي وقناعاته وممارساته، ورسّخ الفقه والصوفية هذه القناعات بأن أعطوها الشرعية، وتم تأطيرها فقهياً وفلسفياً.

ففقهياً من خلال طاعة أولي الأمر، بغض النظر عن كيف أصبحوا أولي أمر، وفلسفياً من خلال العقيدة الجبرية لعامة المسلمين، بأن الرزق مقسوم، والعمر محتوم.

لقد تغيرت المفاهيم في المجتمعات العربية الإسلامية من خلال التطور التاريخي، فأصبحت الحرية فوضى، والشجاعة تهور، والجبن حكمة وتعقل. يصف المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي فلسفة قبول الاستبداد لدى الناس في العالم العربي الإسلامي فيقول: “لقد ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا، وألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفنا الانقياد ولو إلى المهالك، وألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحةً واللكنة رزانةً، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضى بالظلم طاعة، ودعوة الاستحقاق غروراً، والبحث في العموميات (المصالح العامة) فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقةً، والشهامة شراسةً، وحرية القول وقاحةً، وحرية الفكر كفراً، و حب الوطن جنوناً ..” (طبائع الاستبداد، ص132).

لقد استند الاستبداد السياسي على ركائز الاستبداد العقائدي والفكري والمعرفي والاجتماعي لدى الناس، ولا أمل في التخلص من الاستبداد السياسي، قبل أن ينشأ تيار مؤمن بالديموقراطية قولاً وفعلاً، ومؤمن بأن الرأي والرأي الآخر موجود، وله حق مقدس ومصان، يصحح المناهج الاجتماعية في ضوء ذلك كله.

وبما أن الديموقراطية (الشورى) من صلب العقيدة الإسلامية، فلا يوجد في النظام السياسي الإسلامي إلا احتمال واحد، هو الديموقراطية في السياسة، وهو أمر يستحق النضال والموت في سبيله، لأنه النمط العلمي المتحضر للحياة الإنسانية.

عن موقع : سؤال التنوير