-9-
كان عشق الشيخ زكوان لحسن البنا دافعاً له ليترك سورية مسافراً إلى مصر، بعد أن ذاق السجن السياسي على يد جماعة الشيشكلي في حماة . و برغم أن زكوان كان رفيقاً في حزب أكرم الحوراني في البدايات، إلا أنه تحول بعد أن قرأ البنا و كتبه، و آمن أيماناً عميقاً بأن الطريق الصحيح لكل شاب مسلم هو طريق البنا .
كان سفره في الواقع هروباً من ملاحقة المكتب الثاني، و في القاهرة كان له أن يختلط و يتكامل مع الجماعة الأكثر تشدداً في حركة الإخوان المسلمين ، و هي التنظيم السري العسكري، و صار حلمه أن يؤسس مثيله في سورية .
صعد زكوان درج البناء الذي استأجر فيه في حي بولاق الدكرور، حاملاً معه عدة أكياس فيها خضار و خبز و حاجات بيته ، و لكن ما إن وصل إلى الطابق الرابع حتى وجد عدداً من المخبرين الواقفين أمام باب شقته .
-انت زكوان حديد ؟
– نعم أنا
– اتفضل معانا
– لوين يا أخي أنا سوري و إقامتي صحيحة تفضل
– اتفضل معانا و من سكات
– طيب بس حط الأكياس بالبيت ؟
– حطها
دخل زكوان إلى شقته واضعاً مشترياته في المطبخ ، ثم شرب كأس ماء و هو يعزم على عناصر الشرطة بعين متحدية ، ثم ذهب برفقتهم .
صعد إلى بوكس البوليس المصري فوجد صالح حفناوي الذي كان يعرفه من خلال تنظيم الإخوان، و لكنه اتبع التعليمات بأن يتصنع عدم معرفته .
في غرفة التحقيق كان زكوان حديد يدعي أنه في مصر للعمل في تجارة الجلود التي كان يجيدها و أخذها عن أبوه، و أعطى المحقق جواز سفره الذي يثبت مرواحه و غداته إلى الأردن حيث يبيع الجلود المصرية في عمان .
-10-
في قرية قريبة من جبلة على الساحل السوري كان ربحت يحاول إقناع أباه بأن يعطيه مالاً ليستأجر غرفة في اللاذقية ليكمل تعلميه و كان أبوه يقول له :
-أفيني علمكين كلكين ، روح تطوع بالجيش أو الهجانة
– يعني إجت علي أفيك تعطيني أنا؟
– يعني لو نتائجك كيسة كان فيها وما فيها بس بتنجح تشحيط أو بترسب
– هلق هيك ؟
– إي هيك
– عند الهجانة و الجمارك و الجيش، متلك متل غيرك
في تلك الليلة تأمل ربحت أو ربحات كما كان اسمه يلفظ في القرية في طموحه و مستقبله، و تأمل في ابنة الجيران التي يحبها، و يريد إقناعها بأنه فارس الأحلام فاتخذ قراره بأن التطوع في الجمرك أفضل الخيارات، فالجمركجية منتفخو الجيوب دوماً، و لهم كلمة .. كما أن هذه التطوع سيمنحه فرصة محاولة أخذ البكالوريا حراً دون مدرسة، كما يفعل الكثيرون .
استيقظ صباحاً و خرج من البيت دون أن يلقي التحية على أبيه و أمه و مشى حتى وصل إلى بيت حبيبته، و بدأ يصيح :
-هناء هنااااء
فخرج له أبوها يسأله :
-متنادي ع بنتي هناء
– إي عمي
– هيك بكل وقاحة
– و شو فيها ؟
– انت أهلك ما ربوك
– لا تكبر بالحكي عمي أنا رح صير صهرك،
– و لك انقلع و روح تعلم الأصول اساتك فرخ زلمة
– ولك أنا زلمة و سيد الزلم و بكرا بتشوف أنت و غيرك و اليوم رايح اتطوع بالجمرك و صرت عضو بحزب البعث
هاد الأب و هو يقول لزوجته التي كانت ترقب المشهد :
-لعمش ما اوقحوا شو هالجيل يا قال عضو بحزب البعث
– إي هدي حالك هدي حالك بنتك بتحبو
– نعاااام بتحبو حبا برص و عشرة خرس هي و ياه
-11-
كان النقيب علي شحادة و أخوه الملازم أحمد قد استأجرا بيتاً في منطقة المزة القديمة، و هو بيت يصعب الصعود إليه، لأن درجاته قاسية تظهر أمامك بمجرد فتح الباب الخشبي المؤدي إلى الشارع الخارجي ، و كان (باب الزقاق أو باب الزآء كما يدعى بالشامية، هو أيضاً حكاية لوحده ، فلقد صنع في بداية القرن العشرين حين شيد أبو حلمي البناء ذا الطابقين، فسكن الأرضي و أجر العلوي، حيث ضمن عبر تعليماته للمعمرجي ألا أن يكون الفصل كاملاً بين الطابقين و كأن كل شقة فيها بعيدة عن الأخرى بعداً كبيراً .
صعد الأخوين إلى الطابق العلوي و أشعل أحمد بابور الكاز بينما كان علي يقطع حبات البندورة و يخفق البيض لصنع أكلة العسكر الأشهر ( الجظ مظ ) و هي عبارة عن بندورة مطهوة بالزيت أو السمن مع البيض المخفوق ! .
-أبدك تحط بصل
– لشو مافي حاجة
– رح سخن الخبز
– سخن
– مريت ع هيام ؟
– من يومان مريت إي بس بسرعة و رجعت ع الثكنة
– كيفا ؟
– منيحة أحسن
– اليوم منمر منزورها
– أفيني أنا تعبان كان عنا مسير جبلي
– بدك تيكيل و تنام ؟
– إي
– متل أبدك ، الله يرحمو لبيك لو عايش فقعك طيارة ع رقبتك
– لشو ؟
– أكره شي عندو كان الواحد ياكل و يطب ينام
-12-
وقف توفيق أمام جبر شحادة الخارج من المدرسة في بانياس قائلاً :
-عمي جبر
– عمي توفيق
و تعانقا بحميمية
-طمن عن صحتك ، كيفك شو أخبارك
– الحمدلله عايشين
– اساتك بتحب السياسة إيلي عليك
– يوقا بيك الله يرحمه روح قلبو السياسة
– يمكن لهيك عدموه الكليب
– عدموه ظلم و طغيان
– رحمة الله عليك
مشى جبر و توفيق في شوارع بانياس حتى وصلا إلى الغرفة التي يسكنها جبر و هناك جلسا، حيث صنع جبر الشاي .
-ابني جبر جاييك بموضوع
– خير عمي تفضل
– انت بتعرف بيك كان خي الله يرحمه
– بعرف عمي بعرف
– و أنا رجال ترملت و عندي هالبنت أفي غيرها و الوالدة الله يحميها لحالها
– بعرف عمي
– جاي تا اطلب ايد امك منك
– ……. ( يصمت ) ثم يقول اي ان شالله
– عمي لا تتردد الي مقلك ياه عين الحلال و عين العقل
– صح متحكي
– بعات لخيك علي و خيك أحمد خليهن يجو الاسبوع الجاي تنعقد العقاد نتوكل على الله
– و هيام
– اي طبعا و هيام ع راس القائمة
– بس الي طلب تاني
– تفضل
– بدي تقنع امك لأن مانا موافقة
– ههههههههه ضحك
– لشو متضحك
– فكرتك محكاها و آخد موافقة
– حكيتها بس قالت لأ !! بعد شحادة ما بتاخد حدا
– هيك انتو جماعة البعث
– أنا اشتراكي
– اي مو صرتو واحد
– اي صح … و شو قصدك
– أحلام أكبر من التم ( الفم )
-13 –
في حي المالكي بدمشق كانت السيدة شرباتي ( هيام ) قد أسست صالوناً ثقافياً يجتمع فيه الأدباء و الصحفيون و السياسيون . في تلك الليلة من شهر كانون البارد، غص صالون المنزل بعدد من الشخصيات المثقفة الفاعلة في المجتمع .
قالت هيام :
-يا محترمين اليوم رح نسمع صوت من أجمل أصوات البلد ثم أشارت بإيماءة لشاب كان يجلس حاضناً عوده و قد امتلأ حياء ، فأمسك عوده و بدأ يغني :
-قبل ما تغني استاذ ياسين .. لازم عرف الحضور عليك الاستاذ ياسين محمود من أجمل الأصوات الي رح تسمعوها .. تفضل
و غنى ياسين محمود
بيش الغوازي يما ليله بيش الغوازي
وانا لشري منها بمية ل هالسمرة بيش الغوازي
طلت عليَّ يما ليله طلت عليَّ
يابا شبه القمر طالع ليلة ظلمة طلت عليَّ
كان الحضور مستمتعاً بالأغنية أيما استمتاع و هي من التراث الحموي الأصيل، و عندما انتهى ياسين من الاغنية حصد الاعجاب و التصفيق .
-يا سلام عليك يا أستاذ
– شكراً
– هلق الغوازي يعني الأساور مو هيك
– إي نعم
– يعني بالفصحى
– بكم تبيعون الأساور
– هيك شي
و ضحك الحضور
قالت هيام :
– على سيرة الفصحى، و لأن الأستاذ نادر شاعر و بيحفظ شعر ياريت نسمع منو مقاطع من شعر بدوي الجبل ..
قال نادر واقفاً :
أنا لا أرجّي غير جبّار السماء ولا أهاب
بيني وبين الله من ثقتي بلطف الله باب
أبدا ألوذ به وتعرفني الأرائك والرّحاب
لي عنده من أدمعي كنز تضيق به العياب
يا ربّ: بابك لا يردّ اللائذين به حجاب
مفتاحه بيديّ يقين لا يلمّ به ارتياب
ومحبّة لك لا تكدّر بالرّياء ولا تشاب
وعبادة لا الحشر أملاها عليّ ولا الحساب
وإذا سألت عن الذنوب فإن ّ أدمعي الجواب
هي في يميني حين أبسطها لرحمتك الكتاب
إنّي لأغبط عاكفين على الذنوب وما أنابوا
لو لم يكونوا واثقين بعفوك الهاني لتابوا
و ما أن انتهى نادر حتى دخلت خادمة هيام تحمل رسالة قالت بأنها وصلت للتو من بانياس ..
-14-
قرر عيدو أن يفتح دكاناً في حارة النزهة حيث استطاع أن يبني وحده دون مساعدة غرفتين له و لزوجته، استخدم للسقف ألواح التوتياء التي تعلم كيف تسقف بها الغرف من خبرته مع الفرنسيين . و كان يستمتع بشدة عندما يهطل مطر حمص الكثيف في الشتاء و يعزف ذاك اللحن القوي على ألواح التوتياء، و هو يقطع الأخشاب لكي يلقمها في مدفأة صنعها أيضاً بنفسه . صار أهل الحارة يختلقون عنه القصص و الروايات، فقصة أكله للنيئات بدأت بروايته عن السمك في أرواد كيف كان يضعه في فمه و يجرمه ، لكنهم رأوه مرة يأكل الكوسا و الباذنجان نيئين أيضاً ، و لأنه لم يكن يحلق ذقنه و كان لصوته بحة غريبة ، و فوق كل هذا كان بمقدوره بطح خمسة رجال مرة واحدة، صار عيدو قضية .
إحدى الغرفتين صارت دكاناً ، و في الغرفة الأخرى كانت زوجته و أولاده يعيشون.. كان في داخل عيدو طفل صغير طيب أيما طيبة برغم شكله الذي يوحي بالخوف أحياناً، فهو لا يضع عقالاً و يكتفي ب ( السلوك) أو ( الحطة) الحمراء المرقطة، بينما كل الرجال كان يضعون الحطة البيضاء التي تدل على تعلم الدين و الحكمة ، و كان لباسه مأخوذ من أيام عسكريته ، فيظهره أنه مستعد دائماً للقتال ومسبقاً للفوز في أية عركة .
لكن أولاد الحارة كانوا يحبونه فلقد كان يعطيهم النوغا ببلاش إن لم يكن الفرنك حاضراً مع أحدهم .. أما زوجته فكانت تشاجره قائلة:
-قرد شو هالتجرة تبعك متل تجرة جحي
– لشو
– طيلعتنا من الغرفة و فتحت الدكان مشان تتربح كم قرش و هيكلك متبيع ببليش
– قرد وليد وليد حرام عليكي
– لك الحارة مليانة ولاد كلين بدك تبيعين ببليش
-15-
كان لعيدو أخوين أحدهما شيخ دين تقي ورع ، و الآخر عامل كادح أعطاه الله خلقة جميلة و أكرمه فيها بأن وجهه كان شديد السماحة .
في يوم من الأيام دخل أخوه الشيخ خضر إلى الدكان فصافح أخاه و بادر إلى تقبيل يده، لكن الآخر سحبها و قال له :
-أنت خي لا تعمل هيك
– والله ايدك بتنابس يا خي
– بدنا نروح لعند خيك محمود
– زعلان منو
– أفي زعل ! مفهوم خيك هايا
– ماشي .. بس شو حالو
-عشقان
– هههه عشقان مين عشقان
– كروان
– مينا
– المطربة كروان !
ضحك عيدو ضحكة مزلزلة
-متحكي جد
– إي والله و هي عشقانتو
– إي خي حلو كتير
– بس أمعو يطعمي حالو كيف بدو يطعميها
– مو مطربة هي بتطعميه !
سكت الأخ الأكبر و نظر إلى أخيه نظرة مخيفة فيها كل أنواع التأنيب، فصاح عيدو :
– عم امزح عم امزح
– قوم تنروح لعندو نعقلوا
– يا الله بس تنادي للمرة تقعد محلي بالدكان
-16-
في إحدى القواعد العسكرية الجوية كان أصوات الضباط تتعالى على بعضهم البعض حين أتت أوامر شخصية من أديب الشيشكلي بقصف السويداء بالطيران!
كان ضباط طيران سلاح الجو يرتدون لباس الطيران و يحمل كل منهم خوذة الطيار ، فلقد أتت أولاً الأوامر بضرورة الاستنفار الكامل .
وقف المقدم الطيار صبحي محجوب قائلاً :
– الملازم خالد و الملازم رضوان معكم أوامر خطية و إحداثيات نفذ
فصاح زميله المقدم شاكر حاج علي :
-يا سيادة المقدم شو عم تحكي أنت؟؟ انت عرفان هاي الاحداثيات هي أحياء مدنية بي محافظة السويدا ؟؟
– نعم عرفان
– ماحدا بينفذ الأمر ! نحنا جيش للدفاع عن البلد مو لذبح الناس
– أولاً أنت عم تتمرد عليّ و أنا قائد القاعدة ، و عم تحرض الرتب الصغيرة ، و ثانياً في مؤامرة على البلد و الحكم و في أسلحة وصلت من العراق لقلب نظام الحكم ! و كلها مخزنة بجبل الدروز
-حتى لو كلامك صحيح ! هيك أمر بينحل بالسياسة مو بالطيران و القصف .. لك في نساء و أطفال
-الي موافق ينفذ أوامر قائد الجيش و رمز البلاد المفدى يرفع إيدو .
من بين عشرة طيارين رفع اثنان فقط أيديهما و نظر الباقون نظرة تحد إلى المقدم صبحي محجوب .
قال صبحي:
-أصلاً انتو ما بتعرفوا الحقيقة و غرر فيكن شاكر حاج علي، لك في مؤامرة و عصيان بجبل الدروز ضد الحكم و هاد ممكن يؤدي لتفتيت سورية و تقسيمها، و المفروض المشتركين بالمؤامرة يعرفوا قوة الدولة و الحكم … فهمتوا !
هنا رفع طيار ثالث يده موافقاً على الاشتراك في القصف، أما باقي الطيارين فلقد وقفوا مغادرين المكان و صاح واحد منهم :
-الجيوش خلقت لحرب المحتلين و الأعداء ، و الشأن السياسي لازم يخضع للعملية البرلمانية الي بتحل أكبر مشكلة، بعدين كلنا منعرف أن المشكلة بدأت من اعتقال أهم السياسيين بالبلد ، رشدي الكيخيا صبري العسلي و فيضي الأتاسي و حسن الأطرش و منصور الأطرش ، و النظام البرلماني ما بيقبل أسلوب الاعتقال السياسي لحل مشاكل البلد .. يعني البادي أظلم سيادة المقدم ، و الحكاية مانها مؤامرة عراقية على سورية .
في تلك الليلة المشؤومة قامت طائراتان من سلاح الجو السوري بقصف محافظة السويداء بالقنابل الحارقة و المتفجرة ، فقتلت العشرات .. أما الضباط الذين احتجوا و رفضوا تنفيذ الأوامر فجاء أمر بتسريحهم فورياً من الجيش .
-17-
كان يوهان فان ديومن يتحدث في الهاتف مع السيدة شرباتي باللغة الفرنسية :
-شكراً سيدة شرباتي على الدعوة الكريمة، كان الحوار مفيداً و ممتعاً
– شرفت سيد ديومن ، أتمنى أن يكون حضورك فيه خدمة للسوريين و الهولنديين ، يعني ما بتمنى العكس !!
– طبعاً .. طبعاً و ما هو العكس ؟ أنا هذا عملي
– العكس هو أن يتحول صالوني الدمشقي هذا لعمل مخابراتي ، … شوف أنا جريئة و صريحة، أنا وطنية سورية قبل كل شيء ، أريد الخير لبلدي و أريد أن يكون له أصدقاء
– يجب أن تعلمي أنني احترمتك أكثر لصراحتك سيدة شرباتي أو هيام شحادة العلي !
– و هل تجد فرقاً بين الاسمين ؟
– نعم إلى حد ما
– ( بتحد ) اشرح لي الفرق لو سمحت
– اسم سيدة شرباتي يليق بسيدة مجتمع بورجوازية مثقفة
– و اسم هيام شحادة العلي ، يليق بفلاحة فقيرة جاهلة
– لم أقصد ذلك بالضبط
– بل هذا ما تقصده تماماً ، لا تنسى أنني تخرجت من معاهدكم و أعرف كيف تفكرون بشأننا في أوروبا ، كن واثقاً أن تهذيبي وحده يمنع غضبي عليك .. كن بخير سيد ديومن . و أغلقت سماعة الهاتف .
أما ديومن فلقد خلقت المكالمة عنده حالة اندهاش و استغراب ، و صار يدور في صالون منزله و هو يدخن غليونه ، و يحتار ماذا يفعل .. و في النهاية جلس إلى دفتره و بدأ يكتب ما حصل معه . فكتب :
إن الصراع في سورية هو صراع الوطن القلق ، فكثير من السوريين لم يقبل بعد تلك الحدود المرسومة بالمسطرة و قلم الرصاص بخط مارك سايكس، الذي كان أقوى و أكثر تأثيراً من زميله الفرنسي فرنسوا جورج بيكو .
السوريون قلقون من تاريخهم ، فهم يحبون الكثير فيه ، لكنه يجعلهم في قلق دائم ، يشبه قلق الذرة الكيميائية الباحثة عن الاستقرار عبر الارتباط بذرة كيميائية أخرى . أو كالمرأة العاشقة التي أضاعت حبيبها .
و الجديد أنهم منقسمون بين عشق مصر و عشق العراق ، فرجل مصر الجديد القوي يحصد تأييد فقراء السوريين و خصوصاً الفلاحيين منهم ، مع أن ارتباطهم العاطفي التاريخي بالعراق لا يقل قوة … إنني أحس أن هذا البلد قلق .. حتى أن السيدة الجميلة المثقفة في معاهد فرنسا هيام شحادة شرباتي و التي أعدم الفرنسيون والدها ظلماً و رفضت أخذ تعويض مالي كبير من الحكومة الفرنسية، عندما كانت تعيش في باريس و كتبت عنها صحف فرنسا كلاماً عظيماً، كادت أن تخرج عن لياقتها اليوم معي و بالتقريب أغلقت سماعة الهاتف، لأنني قررت أن أبحث معها في بعض شؤون هذا القلق ، و لكن بشكل شخصي !
لكنني غداً سأكرر المحاولة .
دمشق 20 كانون الثاني 1954م / يوهان فان ديومن
-18-
توقفت سيارة سوداء كبيرة في إحدى شوارع القاهرة في فجر أحد الأيام حيث كان الشارع شبه خال من المارة و ألقت برجل على رصيف الشارع ثم تحركت بسرعة . كان الملقى على الأرض هو السوري زكوان حديد . بعد عدة دقائق توقف أمامه رجل عجوز و ساعده للقيام و رفع العصبة عن عينيه قائلاً :
-مالك يا ابني ؟ انتا بخير ؟ مين الي عمل فيك كدة
قام حديد قومة رجل قوي و كأن شيئاً لم يحصل، ثم نفض الغبار عن ملابسه قائلاً للعجوز بلهجته السورية:
-أنا بخير عمو شكراً
– انتا سوري
– أيوه
– لما انك سوري مش حسيبك، انتا ضيفي تعال معايا
– يا عم شكراً شكراً أنا بيتي ببولاق الدكرور
– أيوه دا بعيد قوي أنتا حتيجي معايا البيت قسماً بالله
– طالما أقسمت ما رح رد حلفانك يا عم
-19-
أمام مسجد خالد بن الوليد في حمص تجمع عدد كبير من السيارات و كانت تتوافد أخرى من كل المحافظات السورية ، و ينزل منها رجال ملتحون، أغلبهم بلباس مشيخي ، و كان ميسر يقف أمام باب المسجد ليدل كل وفد قادم على مكان الاجتماع و أن الشيخ مصطفى موجود و في انتظارهم .
-السلام عليكم
– و عليكم السلام و رحمة الله أهلاً شيخ علي نورت حمص ( قبل يده)
-كيفك يا ميسر ؟
– بدنا الدعا شيخي .. الحمدلله
– ليش ما عم تجي ع حلب
– بس تأمر بجحي ع طول
– إش يعني ع طول ؟ بدك تضل عندي ع طول ما بتحملك !! ( يضحك)
– لك لاء شيخي بالحومصي ع طول يعني فوراً
– أيواااه
أدخل الشيخ علي يده في جيبه و أعطى ميسر ورقة نقدية ، ثم اتجه نحو فناء المسجد و ذاك يدعو له . حتى وصلت سيارة أخرى قادمة من دمشق .
كان الشيخ مصطفى السباعي يقف بباب المسجد مستقبلاً أعضاء وفود جماعة الإخوان المسلمين القادمين من كل أنحاء البلاد لعقد مؤتمر الجماعة السنوي، و كان نجدت أبو سختور بينهم يمشي خلف أحد المشايخ كظله .
-20-
في قهوة الهافانا في دمشق اجتمع على طاولة زكي الارسوزي الكثير من المريدين و المثقفين، حتى أن شكل المقهى تغير تماماً فتحول إلى نوع من الندوة الفكرية، كان زكي الأرسوزي يتحدث عن عبقرية اللغة العربية :
-بالقطع اللغة العربية هي لغة الكون الأولى ، لأن الإنسان الأول ألف حروف اللغة تماشياً مع فيزياء الحياة ! يعني مثلاً حرف القاف نسمعه في الطرق أو الدق على أي شيء ، اسمعوا ( يطرق بيده على الطاولة ) و يبتسم متسائلاً : هل سمعتم حرف القاف ؟ و يجيب الحاضرون : نعم ! .. و حرف الحاء له نفس الوقع الفيزيائي ، ثم يقوم بحف يده على الطاولة ، و يسأل أسمعتم حرف الحاء الذي يدخل في كلمات ك ( حفّ) ( زحف) ، و يجيب الحضور بشغف : بلى !
من هنا ندرك عبقرية اللغة العربية و أهميتها و بالتالي عبقرية الأمة التي تتحدثها و قامت بصنع التاريخ و الأمجاد الكبرى في لحظة عبقرية ! و لكنها الآن للأسف في لحظة مختلفة تماماً و علينا استعادة عبقرية الأمة و اللحظة العبقرية .
قال الأستاذ عيسى درويش و هو أحد مريدي الأرسوزي :
-جميل جداً أستاذ ، لكن هل ممكن ننتقل لنحكي عن واقعنا شوي ، نحكي سياسة ؟
-إي منحكي سياسة .. العميل يارفاق متل كلب الصيد ! كلب الصيد لمن بيختير بيصير بلا قيمة عند صاحبو .. يعني أكل و مرعى و قلة صنعة .
-إي
– بيقرر صاحبه يقوسو مشان يخلص منو .. و لما بيطلق عليه النار الكلب الي تعود على الاخلاص لمعلمه و خيانة بلده بيشم ريحة دمه هو ! و مع ذلك بيفكر أنها طريدة قوصها الصياد و بيصير يلعق دم حالو . خلصنا سياسة !
ثم قام الأستاذ زكي و قال للجميع :
-مرتي عاملة مجدرة و صلاطة ضيعة ، يعني بندورة و بصل و زيت زيتون، الي بيجي معي أهلا و سهلا .
يتبع
ملاحظة : أي تشابه أو تطابق في الأسماء مع الواقع جاء بمحض الصدفة ، و الأحداث التي تجري صنعها الكاتب بناء على الواقع و محاكاة له ، إنما الأسماء لا تعني أبداً انها حقيقية .