°
, March 29, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

تعزيزًا للوعي بقيم الحداثة – د. يوسف سلامة*

عرفت الإنسانية عبر تطورها التاريخي الطويل تحولات هائلة اضطلعت بنقلها من حالة إلى أخرى، أي من حالة دنيا إلى حالة أكثر تقدماً وتعقداً من تلك التي تم تجاوزها أو نسخها. وهذه التطورات الجارفة لم تلغ

الأشكال القديمة للحياة إلغاءً تاماً، ذلك لأن الأشكال الجديدة للحياة تحتفظ بأفضل ما كانت تنطوي عليه الأشكال القديمة، عملاً بمبدأ (نفي النفي) من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الأشكال القديمة للحياة، التي تم تجاوزها، أو تراجعها داخل كل الحضارات دونما استثناء، لا تهزم هزيمة تامة أمام الأشكال الجديدة للحياة، إذ تظل بعض الأشكال القديمة راسخة الوجود ومعارضة للأشكال الجديدة، مما ينجم عنه صراع، داخل كل حضارة أو ثقافة، تختلف شدته وتتباين من وضع إلى وضع ومن ثقافة إلى أخرى.

 

غير أن الأمر الذي لا شك فيه هو أن اشتمال الثقافة الواحدة على أشكال متنوعة للحياة , تشكل في مجموعها سلّماً متصاعداً يبتدئ من أبسط تلك الأشكال وينتهي عند اللحظة الأخيرة التي بلغت إليها هذه الثقافة أو تلك، من شأنه أن يجعل البنية الثقافية أو الحضارية لهذه الأمة أو تلك بنية متناقضة بسبب انطوائها على مجموعة هائلة من القوى، المتعارضة والمتناقضة، والتي يعتقد كل فريق من المنتسبين إلى إحدى هذه القوى بأنها تتمتع بقيمة لا حد لها، وفي بعض الأحيان بقيمة مطلقة تتمثل، في مضمون ثقافي معين ربما يكون قد فات أوانه لأنه ينتسب إلى الماضي البعيد الذي لم يعد (روح العالم)، إن جاز التعبير، قادراً على التجسد فيه أو التعبير عن نفسه من خلاله. وبطبيعة الحال، فقد كان النظام التربوي هو أيضاً، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من البنية الثقافية أو الحضارية لهذه الأمة أو تلك، يخضع لمقتضيات الصيرورة نفسها التي تخضع لها البنية الثقافية أو الحضارية بأكملها. بل لقد كان النظام التربوي، داخل كل بنية ثقافية حضارية، يشكل تكثيفاً حقيقياً وتعبيراً عن جملة التغيرات والتطورات والصراعات التي كانت تؤدي في نهاية المطاف إلى سلب بنية ثقافية قائمة والارتقاء منها إلى بنية ثقافية جديدة تعبر عن رؤية جديدة إلى العالم مختلفة، إلى حد كبير أو صغير، عن الرؤية التي كانت تتجسد في تعبير الحياة عن ذاتها في الشكل السابق الذي اضطلع بالتعبير عن ماهية البنية الثقافية أو الحضارية لحظة ما من لحظات التطور الثقافي والحضاري لأمة بعينها.

تصور جديد للعالم

وهكذا فقد عرفت الأمم المختلفة نظماً تربوية متباينة تراوحت بين التركيز على عناصر القوة البدنية بقصد إعداد الناشئة للحياة العسكرية، كما هو الحال في نمط التربية الاسبرطية، وبين التربية الإنسانية المنفتحة بالمعنى العقلاني للكلمة – في الحدود التي كانت تدل الإنسانية على معنى محدد بالمعنى التاريخي، كما هو الحال في التربية الأثينية التي كانت ثمرة للفلسفات الكبرى عند (سقراط) و(أفلاطون) و(أرسطو).

وعلى كل حال، فلم يلبث هذان الشكلان أن طواهما الزمن وتجاوزهما في التربية المسيحية والإسلامية إلى أن ولدت (الحداثة) بمعناها الدقيق التي بدأت تفرض منظورها على أوروبا بقوة واقتدار ابتداءً من القرن السابع عشر مع ولادة تصور جديد للعالم فحواه أن (الفردية الإنسانية) هي وحدها التي يحق لها، بل ومن واجبها، أن (تضع) العالم على النحو الذي يستبين لهذه (الفردية) أنه الشكل الأمثل للحياة. ولقد تحقق لهذا المشروع الحداثي الغربي أهم عناصر النجاح وأقواها عندما استدمج الديمقراطية السياسية باعتبارها قاعدة نظرية وعملية يعبر هذا المشروع عن نفسه من خلالها، فتم بذلك تفادي النزعات الحادة بين الأفراد الذين يشتركون في تحقيق هذا المشروع من ناحية، وتحقق لهذا المشروع، من ناحية أخرى، قدر من العقلانية خلع عليه جاذبية لا تقاوم عبر جميع أنحاء العالم.

تحلل وتفكك

إن ما قلناه عن صورة التطور الإنساني الذي اتخذ شكل تطور الأمم بصورة منفصلة عن بعضها انفصالاً يكاد يكون شبه تام، قد بدأ يتحلل ويتفكك منذ مائة عام تقريباً عندما بدأت ثورات متعددة تتحقق في حياة الإنسان فتغيرها وتعيد صياغتها بصورة شبه جذرية. ولعل ثورة الاتصالات وثورة المعلومات – إلى جانب التقدم التقني الشامل الذي جعل الفجوة بين الخيال والواقع فجوة صغيرة جداً – قد لعبت دوراً عظيم الخطورة لا في إنتاج التحولات هذه المرة في حدود كل أمة بصورة منفصلة عن بقية الأمم، بل في إنتاج صورة جديدة للحياة في عالم موحد أو شبه موحد قد أصبح يميل في تطوره إلى أن يكون عالماً تتزايد عناصر الوحدة والاعتماد المتبادل فيه على حساب العناصر المنتجة للكثرة والانفصال والتعدد، وإن لم يكن من شأن هذا الميل إلى الوحدة والاعتماد المتبادل أن يلغي أسباب التوتر والتناقض التي ما تزال ماثلة بقوة ضمن هذا العالم الموحد الذي يتم إنتاج عناصر التوحيد والاعتماد المتبادل فيه بصورة ليست ناجمة في كثير من الأحيان، عن إرادة ورؤية اختياريتين، بل عن ضرورات تفرضها آليات التطور الجديدة، سواء تعلق الأمر بتطور أسلوب الإنتاج والتوزيع والتجارة، الذي لم يعد يبالي بأن يتم إنتاج هذه السلعة أو تلك في هذا المكان أو ذاك من العالم، أو بأنماط الحياة الثقافية والرؤى الجديدة للإنسان والعالم التي أخذ يميل كثير منها إلى اعتبار العالم (قرية كونية)، الأمر الذي يسمح بافتراض وجود منظومة جديدة من القيم العالمية أو العولمية التي يتعذر على المرء أن يكون جاداً في تفكيره وتحليلاته إن لم يعر اهتماماً جدياً لهذا الميل (العولمي) الذي هو قيد التشكل بصورة أو بأخرى.

ولو أننا نظرنا اليوم إلى العالم على أنه تحقق فيه من التحولات ما يكفي لأن تعد (العولمة) طريقاً يتجه العالم نحوه بصورة أو بأخرى، لتعين النظر إلى (العولمة) على أنها الشكل الثقافي أو الحضاري الراهن الذي يتطلع كثير من الأشكال الثقافية إلى مناهضته لكونه يزعم أنه أرقى أشكال الحياة التي حققها (روح العالم)، في مقابل بعض هذه الأشكال التي تحاول الدفاع عن وجودها تارة باسم الأصالة وأخرى باسم العدالة، وثالثة باسم الاحتجاج على الهيمنة السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية وربما الثقافية أيضاً.

إن ما نريد قوله هو أن الصراع حقيقة واقعة بين صور الحياة وأشكالها المختلفة سواء بين المراحل المختلفة لثقافة بعينها، أو بين الثقافات المختلفة والمتباينة التي قد ينظر إليها، من وجهة نظر ما، على أنها أشكال وصور محلية لا تتمتع إلا بقيمة جزئية في مقابل الشكل الأخير والأعلى الذي بلغه (روح العالم) وهو (العولمة) بمعانيها المختلفة.

العولمة معطى حقيقي

النتيجة الأولى التي نستخلصها من كل ما تقدم هي أن العالم يسير في طريق العولمة حتى وإن كان البعض غير مقتنع بأن (العولمة) توشك أن تكون حقيقة واقعة. والنتيجة الثانية هي أن الصراع بين أشكال الحياة المختلفة، سواء داخل ثقافة بعينها أو داخل البنية الثقافية للعالم بأسره، أمر لا مفر من مواجهته سواء كانت هذه المواجهة تتخذ شكل دعوة إلى حوار الحضارات عند المتفائلين أو شكل دعوة إلى صراع الحضارات عند المتشائمين. والنتيجة الثالثة هي أن على العرب أن يعيدوا النظر في مسلماتهم الثقافية والتربوية والأخلاقية انطلاقاً من الحقائق الراهنة للعالم، لا بقصد التكيف معها فحسب، وإنما أيضاً بقصد المشاركة في إنتاجها حتى تكون أكثر تعبيراً عما نريد أن نكون عليه من ناحية، وحتى لا نتعرض، من ناحية أخرى، لعملية سلب شاملة ناجمة عن انفراد الآخرين بصياغة العالم الراهن على قدر مصالحهم وتصوراتهم التي ليس من الضروري أن تكون مطابقة لتصوراتنا ومصالحنا.

مدخل عربي إلى التربية

وبناء على ما تقدم، لا يمكننا مناقشة مشكلة التربية، وكل ما يرتبط بها من مسائل، إلا إذا سلمنا بأن (العولمة) معطى حقيقي وواقع لا يمكننا تجاهله، الأمر الذي يلزمنا بأن نحاول استكشاف السبل والأساليب والرؤى التي قد تيسر لنا أن نقدم عدة ملاحظات من شأنها أن تكون نافعة في استنباط مدخل عربي إلى التربية في إطار عالم أصبح يميل بقوة إلى أن يصبح (قرية كونية) أو (معولماً) على الأقل. ومن حيث المبدأ فإننا نتبنى تعريف (دوركهايم) للتربية الذي مضى فيه إلى القول بأنها : “الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد من أجل الحياة الاجتماعية، وهي تعمل على خلق جملة من الحالات الجسدية والفكرية والخلقية عند الطفل وتنميتها”.

وهي الحالات التي يتطلبها المجتمع بوصفه كلاً متكاملاً، والتي يقتضيها الوسط الاجتماعي الخاص الذي يعيش فيه الطفل. وعلى ذلك فالتربية في جوهرها تتمثل في اختيارات الأجيال الراشدة التي تحاول أن تنقلها وتؤثر من خلالها في الأجيال التي ما تزال في طور التنشئة والإعداد لأولئك الذين سيحلون محل الذين يضطلعون اليوم بخلق جملة الظروف والحالات التي يرونها مناسبة وملائمة للحياة في المستقبل بالنسبة للأجيال التي ما تزال تتلقى الإعداد لتصبح هي القوة المهيمنة على التربية في وقت من الأوقات.

ويبدو أن النقاش كله أصبح اليوم يتركز حول هذه الحالات التي نريد أن نزود بها الأجيال الناشئة. فإذا كان الولاء للوطن والأمة أموراً لا يشك أحد في أهميتها وقيمتها، فإن الحياة فرضت على المربين المعاصرين مجموعات جديدة من القيم يتعين أخذها بعين الاعتبار.

فقد أصبح من الضروري، على سبيل المثال، أن ينضاف إلى الولاء إلى الأمة احترام (الطبيعة) من خلال العمل على حماية البيئة الكونية التي يحيى فيها الجميع. ومن شأن هذه الحقائق الجديدة أن تضعنا وجهاً لوجه أمام عالم شبه موحد تتزايد مظاهر الاعتماد المتبادل فيه.

وهكذا فقد أصبحت الطبيعة ذاتها جزءاً لا يتجزأ من عملية (العولمة) الجارية اليوم والتي لم تعدم مقتصرة على المظاهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية (للعولمة). ومن ذلك كله تستبين الحاجة إلى صياغة مدخل جديد للتربية العربية في مطلع القرن الحادي والعشرين متلائم مع متطلبات العالم الجديد وصورته المستحدثة.

ويبدو لنا أن الخطوة الأولى، المؤدية إلى إنتاج مدخل تربوي جديد عصري وفعال، مرهونة باستعداد المجتمع ورغبته وقدرته، متمثلاً في الدولة، وإلى جانبها القوى الأخرى كالأحزاب السياسية والجماعات المنظمة، على الاعتراف للأفراد بحقوق متساوية أمام القانون، مما يفضي إلى نوع من تحرير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإلى الشروع في خلق الشروط التي تؤدي إلى تأسيس نظرة تربوية جديدة تؤهلنا للمشاركة في إنتاج مفردات العصر داخل (الصيرورة المعولمة) ذاتها بدلاً من الاكتفاء باستهلاك نمط جاهز وساكن يطلقون عليه اسم العولمة.

ترسيخ روح النقد

وعلى كل حال فالمقصود في هذا المدخل الليبرالي ترسيخ روح النقد وهو العنصر الأكثر أهمية في بناء الشخصية الإنسانية. وبكلمة واحدة، فإن المطلوب في ضوء ما تقدم صياغة فلسفة جديدة تبنى عليها حياة جديدة أيضاً. ولا بد لهذه الفلسفة الجديدة من أن تحل محل التصورات العتيقة والموروثة بعد أن تحول الكثير منها إلى عقبات تعيق تقدم المجتمع وتطوره. ويبدو أن هذا الإصلاح التربوي الذي لا بد له من الارتكاز إلى فلسفة ليبرالية في السياسة والاجتماع ليس له أن يتحقق إلا استناداً للنقاط الأساسية التالية:

الأولى: أن يتم البدء بإصلاح مناهج الفلسفة المعتمدة حالياً في المدارس الثانوية على امتداد الرقعة الجغرافية للعالم العربي. فهذه المناهج في جملتها تقليدية وتلقينية وغير نقدية تكتفي بأن تملي على المتعلم النتائج والحلول بدلاً من أن تطرح المشكلات على عقله وتشركه في بحثها والتفكير في البدائل المحتملة والحلول المختلفة. وربما كانت تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي حملت مهمة إصلاح مناهج الفلسفة على محمل الجد. فمن يراجع المادة الفلسفية الضخمة التي تشغل الجزئين الضخمين اللذين يدرسهما الطلبة التونسيون في (البكالوريا) لا يملك إلا أن يعترف بقيمة الجهد المبذول فيهما من ناحية، وبصحة التوجه ودقة الاختيار المعتمدين في هذا المقرر الفلسفي النفيس.

الثانية: التوسع في تدريس الفلسفة بصور وأشكال مختلفة تحت عناوين متعددة ليس من الضروري أن تكون دوماً حاملة لاسم (الفلسفة). فقد يكون من شأن تدريس بعض المفاهيم النقدية، والمنهجية في المدارس الإعدادية أن يشكل قاعدة وركيزة تسمح لطلاب المدارس الثانوية في ما بعد باستقبال المشكلات الفلسفية بأفق مفتوح وعقل مستنير يؤهلهم لمقاربة هذه المشكلات والتدرب على الخوض فيها بصورة نقدية متحررة من القيود الموروثة.

الثالثة: إقناع الدول العربية التي ألغت تدريس الفلسفة في مدارسها بالعودة إلى تدريسها من جديد. ولم تفعل هذه الدول ذلك في الأصل إلا خوفاً من روح النقد والمعارضة واستبعاداً للحداثة من ناحية، وإرضاءً، من ناحية أخرى، لبعض التيارات الأصولية التي تنظر إلى الفلسفة نظرة سطحية خالية من كل حكمة عندما تقيم تطابقاً بين الفلسفة والزندقة.

إن الدعوة إلى منح الفلسفة مكانة متميزة في النظام التربوي المقترح في ظل (العولمة) لا يرمي إلا إلى تعزيز الوعي بأهمية القيم العقلية والحداثية في مقابل مجموعة القيم اللاعقلانية والتقليدية. كما أنه يستهدف دعوة الفرد إلى أن يكون ذا قدرة على التفكير المستقل بوصفه فرداً ذا هوية فردية ومستقلة، بعد أن جعلت النظم العربية المستبدة من مواطنيها نسخاً تكاد تكون متطابقة ومتشابهة.

إن يقظة الفرد فينا أصبحت الشرط الأهم الذي قد يسمح للعرب بالاندماج بالصيرورة التاريخية العولمية من خلال قدرتهم على الإسهام في إغناء هذه العولمة وتأكيد مكانتهم فيها.

وما لم يمتلك العرب الجرأة على نقد قيمهم التقليدية والانفتاح على روح العصر الجديد فسيتجاوزهم العالم وسيكونون في حالة (فوات تاريخي). وفي هذه الحالة لن يشعر العالم بخسارة لكل من لم يستطع مسايرة التقدم والتطور فيه. أما الخاسر الوحيد فسيكون هو الطرف الذي عجز عن مسايرة التقدم فتأخر عنه وتكلس ومن المحتمل بعد ذلك أن يتجمد ويموت.

_________________________

 

* أستاذ فلسفة – جامعة دمشق

عن موقع: أفكار