°
, March 29, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

واجب التقليل من الاحترام – كلود جوليان *

“حتى من تحدّثه نفسه في احتقاره، يمدّ له يده خوفاً من أن يحتاج إليه يوماً. لديه وفرة من الأصدقاء تجعله يشتهي الأعداء. إن هذه اللطافة الظاهرة المُغرية لمن يعرفه حديثاً، والتي لا تمنع الخيانات على أنواعها، والتي تسمح لنفسها بكلّ شيء وتبرّر لنفسها كلّ شيء، والتي تصرخ عالياً عند الأذيّة وتسامح بعدها، هي إحدى ميزات رجل الصحافة”.

بلزاك ( ( Une Fille d’Eve

هناك قوة أعلى من التفكير المتذاكي، وهناك نزعة يجب تسميتها بالأخلاقية تتجاهل عند الضرورة الاعتبارات الإنسانية المُبالغ فيها، تُملي على الكاتب ما يكتبه، فيرتبط خيار الكتابة بمزاج الكاتب أكثر منه بالتحليل في نهاية المطاف. والمزاج يسبق التحليل في الغالب. إنها الفرصة للاستنكار، فالغرض من التفكير لن يكون إذن سوى خدمة الأهواء الغامضة وتلبيسها بحجج كافية، لإضفاء الاحترام الذي لا مفرّ منه عليها! لكنّ تأكيداً، بعكس ذلك، يدخل في باب الادّعاء الذي لا يُطاق: كلّ ما هنالك من ثقافة مكتسبة ومحصّلة للمعارف وقدرة على التمييز والفرز والقياس والتقييم، هذا المزيج الدقيق من الذكاء والإحساس، هذه المكوّنات المغذّية للفكر والمساهمة في الكتابة، كلّها تعمل بدقّة الآلة وصرامة العلم الذي لا يقبل الخطأ ولا يراعي أية أخلاقيات. أي في المختصر إن العقل العاقل هو الضمانة الوحيدة لكلّ حكمة وكلّ حقيقة وفضيلة.

إن خيارات من يكتب هي أعقد من ذلك وأبسط في آنٍ معا. والخيارات المتوفّرة أمامه محدودة جداً.

والكاتب الهارب من الاتّجار والوصولية، المُنصرف حصراً إلى فنّه، يمكنه اختيار الانعزال، بعيداً عن الضجيج الذي غالباً ما يشوّش الرؤية والعقل ويشلّ التفكير. لكنّ هذا العالم المضطرب والسكران باهتياجه، سرعان ما يدين عزلة الكاتب الذي يُقال فيه عندها أنه يريد الهروب من العواصف ودوّاماتها. انه يخون التضامن الأخوي بين البشر، متخلّيا عن المصير المأساوي لضحايا الأزمات التي تمزّق الكرة الأرضية، كي يغرقهم أكثر في مأساة الجوع والإذلال والدم.

لكن كم من ذكاء ومهارة ـ تلك التي يتمتّع بها رؤساء الأحزاب أو الشركات، المفكرون والمهندسون والعلماء والفنانون والتكنوقراط ـ المتورّطة بصورة جنونية في دوّامة الحياة الحديثة، قد حضرت أو تسبّبت أو تفاقمت من هذه المآسي التي توفّر لهم، فيما بعد، مناسبة لكلّ هذه الابتهالات والنّواح؟ بالطبع، لم يتهرّب هؤلاء، لا بل إنهم فخورون بما فعلوه بالرغم من الشكوى من أعمالهم الخرقاء. ألمْ يكن من الأجدى سجنهم في برج غير عاجيّ؟. إن الضرر الناتج عن هياجهم الدائم، المزيّن بكلّ الذكاء الفكري، كان سيكون أكثر ضآلة… فهم استسلموا إلى الطموح الواهم بأنهم قادرون على التأثير في الأفكار والأشياء، متناسين ـ ما لم يدركوه أبدا ـ أنّ العالم لا يستغني عن المولعين بالتأمّل والتبصّر الذين يصعب تقييم تأثيرهم.

من نافل القول الإشارة هنا إلى الأمثلة الكبيرة التي حمل التاريخ آثارها، والتي حفرت لوقت طويل في الكتاب والحجر، بينما تبخّرت آثار معاصريهم المهتاجين الحاضرين في مقدّمة المسرح العام. واليوم ما تزال فعّالية التأمّل حاضرة في عالمنا: خلال الخمسينات والستينات، ومن داخل ديره، عرف الراهب الأميركي الممتنع عن الكلام، كيف يكشف حجم وأهمية المشاكل العنصرية، أفضل بكثير من علماء الاجتماع العاملين في خدمة حكومة واشنطن، وبدقة أرفع من هؤلاء المناضلين الذين شاركوا دون حساب في النضال من أجل الحقوق المدنية، وغالبيتهم تخلّوا بسرعة عن المعركة أو غيّروا من توجّههم.

لم تكن النشاطيّة المفرطة يوماً أفضل وسيلة للاشتراك بصورة مفيدة في النقاشات المعاصرة. فالدخول وسط المعمعة، لا يضمن إطلاقا حضوراً في التاريخ، كما أن الانكفاء في برج عاجيّ ليس خيانة بالضرورة. على العكس، يزداد الإغراء في هذا الانكفاء ويصبح أكثر تبريراً مع تصاعد حركة الآلة الطاحنة للبشر.

هناك احتمال آخر في الموقع المقابل تماماً، اختارها العدد الأكبر: فالمتأمّل يداه نظيفتان لكن ليس له يدان: فلْنقبلْ إذن بأن تتّسخ أيدينا بالدخول إلى المعركة، حيث لن نتسبّب بالمزيد من الأذى، بل يمكن أن نساهم في تحسين الأحوال أفضل من غيرنا. يصبح المهمّ اختيار موقع انتشار القوى، في النقاط الحسّاسة حيث تحسم نتيجة المواجهات.

هل هي رغبة في الفعّالية؟ على الأرجح. لكنّها أيضاً غرور بالوقوف والتحرّك تحت الأنظار في النقاط الاستراتيجية. احتلال موقع ولعب دور: الطموح مشروع، لكنه يقود إلى أسوأ أشكال الضياع. ذلك انه يقود المرء حتماً نحو أمكنة السلطة، حيث يسود منطق مختلف عن منطق المثقّف والكاتب. يتغيّر هنا تعريف ما هو حقيقيّ: الحقيقيّ هو الذي ينجح، فيما الباقي أضغاث أحلام صالحة فقط لمن اختار الكتابة بدل الفعل والذي يقنع نفسه، فوق ذلك، أن الكتابة هي الفعل.

لكنّ أهل السياسة لا ينخدعون. فهم يتمتّعون بامتياز تغيير موازين القوى، وعلاقات المصلحة، والسيطرة على مراكز القرار، وتوجيه الأموال العامّة، وإجراء التعيينات الهامّة، والموافقة على ما يعتبرونه مُحقاً أو (ابتذالاً) مناسباً أو رفضه. ضمن هذا الحساب قد يوافقون على ترك رجال القلم يكتبون في خدمتهم. وهؤلاء كثر.

فالسلطة تجذب المثقّفين كما العسل يجتذب الذباب. يتزاحمون حول الملوك والرؤساء، وهم ماهرون في حسن الإصغاء إليهم وتشجيعهم ونصحهم ووشوشتهم بالأسرار الكاذبة ودعوتهم إلى موائدهم… ما الفرق إذا كانوا لا يتمتّعون جميعاً بلباقة راستينياك (أحد أبطال روايات بلزاك الطموحين)، أو يقتربون من غوديسار الشهير، فهم يؤدّون خدمات مشابهة. أو هكذا يحبّون الاعتقاد.

ذلك أن لديهم حكمة خاصّة: في الابتعاد عن العرش والاكتفاء بالعمل في الأطراف ينتهي الأمر إلى تهميش الذات، وهذا ما يخشونه قبل كلّ شيء. إنهم مقتنعون بالبقاء إلى جانب السلطة، أقرب إلى الحدث والقرار. حتى اليوم الذي تترنّح فيه السلطة ثم تنقلب. هل يؤخَذون عندها على حين غرّة؟ لا تبخسوهم قدرهم، فلقد اكتسبوا مهارة كافية للانقلاب في الوقت المناسب. يهتاجون، يضجّون، يحرّكون أياديهم في الهواء كثيراً كي تُذكر أسماؤهم في التاريخ الذي شاؤوا المساهمة في صناعته. يلزمهم روائيّ مثل بلزاك، يراقبهم بحشريّة اختصاصي في الحشرات، كي يصفهم بما له من أسلوب تهكّمي.

خارج المتأمّل غير المبتعد كثيراً كما يعتقد، وخارج الطموح المضلّل بالضرورة، يبقى هناك نموذج واحد محتمل: المثقف الذي لا يطمح لحفر اسمه في الحوليّات، ولا يتوهّم بقدرته على التأثير في تطوّر الأفكار والأحداث. ومع ذلك، يناضل ولو كان مقتنعاً سلفاً بخسارته المعركة. يُقال فيه انّه متواضع ولا مصلحة خاصّة له، مع ذلك فانه يصل إلى قمم الكبرياء وأرقى الطموح، بينما الآخرون ضائعون في مستنقع التفاهة العبثية. والأسوأ انه يُعتبر مثالياً، حالماً، متشبثاً بالأوهام، يحتقر زبد الأحداث وفرقعة الصالونات، متمسّكا بواقع لا يعرفه أهل السلطة ولا يريدون التعرّف إليه.

لأنّ حقائق السلطة (سلطة الدولة وسلطة أحزاب المعارضة وسلطة المال وسلطة كلّ من يقرّر ويوجّه) لا يمكن أن تكون حقائقه. فهو يعرف انّه، حول كلّ من هذه السلطات، يتحلّق في دوائر متلاقية عدد كبير من القدرات والمهارات لا مكان له بينها. فهو يعرف، تحديداً، أن دعوة من يفكّر ويكتب هي في كشف ما تحاول السلطة إخفاءه، والإضاءة الكاملة على ما تسعى السلطة إلى إظهاره من جانب واحد فقط، ووضع الإصبع على التناقضات والأكاذيب، ولفت الأنظار إلى ما تصعب رؤيته، والإصغاء إلى من لا يملكون الوسائل الكافية لإسماع صوتهم، والتعبير إلى حدّ ما عمّا يقولونه ولو أن أحدا لا يستمع إليهم. مهمّة إذا لم يتنطّح لها خان نفسه.

في وجه جمهرة المادحين للسلطات على أنواعها، يحافظ على موقفه النقدي. وحده تقريباً. انه موقع غير مريح اجتماعياً. سعيد كانسان لكنّه قلق وعنيد. ومع ذلك، فحقّ النقد لا يسمح له بالتنكّر لكلّ ايجابية، بل يرغمه على البحث الدائم والحشرية المتيقّظة، بعيداً عن الادّعاءات والموضة والأهواء العابرة. انه أقلّوي بالضرورة ولا يضيره كثيرا تصنيفه “هامشيا”. ذلك بسبب إدراكه انه، في نظر رجل السلطة غير المهتمّ إلا بأدوات السلطة، فان “الهوامش” تعجّ بالكثرة العددية التي، تحديداً، لا تملك أيّ سلطة.

يفتقر إلى العقلانية في نظر الناس. وكيف لا يكون كذلك طالما أن العالم يفقد عقله، مستخدماً أوسع إمكانات العقل المجنون في مقاربة ارتجالية وبرغماتية وقصيرة النظر، حيث يمارس الدّجل باسم المصلحة الوطنية العليا، وفق شعارات تبسيطية يصيغها خبراء في العلاقات العامة، وحجج يسارع “المفكّرون” من خدَم السلطات إلى استحضارها على عجل؟

سيُقال له إن تلك نقطة ضعفه، وانه مخطئ في ادّعاء الحقيقة في مواجهة الجميع، وانّ طبعه أخرق ويجب تزويده بعنوان أحد الأطباء النفسيّين كي يعالجه. فنحن نعيش في زماننا وعلينا التأقلم مع مجتمع لم نختر العيش فيه. لكن، أمام توالي أصناف الموضة الشائعة، لا يميل إلى اعتماد التقلّبات الضرورية من اجل ملاءمة المناخ السائد. يُتّهم بالمثالية والسذاجة، وإذا أصرّ على ما اختاره من سلوك، يُقال انه متعجرف.

الواقع إن هذا الاتهام يرتكز على براهين قوية. فهو لم ينجرف مع موجة الالتحاق بالشيوعية (فكان مثقفاً بورجوازياً صغيراً محبّباً)، كما لم يحمله الجزر الذي رمى في المزبلة جميع أدوات التحليل الماركسيّ دون استثناء (ها هو ستاليني!). وصف ما تتميّز به الرأسمالية الأميركية من شراهة (إذن هو مُعادٍ لأميركا)، لكنه لم يرَ الحلّ في توسيع دور الدولة (انه عميل للإمبريالية!). كتب الكثير عن استغلال الشعوب المسحوقة (مغفورة له نزوة المثاليّ هذه)، لكنه ثابر في موقفه (انه صلف يدافع عن الحكّام المستبدّين الصغار في العالم الثالث). لم تُصبْه مخاطر الحرب الباردة بالهلع (انه من أنصار السلم بأيّ ثمن)، ولا يهضم التعريفات الرسمية للانفراج الدولي (ها هو يتحوّل مبشّرا بالأسوأ وبنهاية العالم، داعية حرب في المختصر).

انه لا يأبه لذلك، في الحقيقة. ضخمة هي الوسائل المستخدمة لتوجيه الرأي العام، وهي في غالبيتها، فكرية كانت أم مادية، بين أيدي أهل السلطة مباشرة أو من خلال حلقات اتصال تحت إمرتهم الإدارية أو متعاطفة معهم. ضمن هذه الشروط، يصبح ممكناً للمجتمع احترام تقاليد الديموقراطية، طالما أن هذه التقاليد لا تمسّ مصالح الأقوياء. لكنّ الحاكمين يعرفون أن وجه المجتمع سيتغيّر لو حُرّرت الديموقراطية من عوائقها. هنا الخطر، ومن أجل إبعاده يجب إقناع الجمهور العريض انه، وبالرغم من نواقص لا مجال لإنكارها، فانّ المجتمع الليبرالي المتقدّم مكان أفضل للحياة من أيّ نموذج آخر قائم في العالم. فيبذل الجهد اللازم للتشهير بالعورات الفاضحة للأنظمة الأخرى. ولم لا، إذا كان هذا التشهير لا يحرّف الأنظار عن هفوات النظام الذي نعيش في ظلّه؟. لكن النقد يتركّز عمداً على الآخر أكثر منه على الذات، وينتهي الأمر إلى إظهار المظالم المرتكبة عندنا على أنها طفيفة وغير خطيرة. إن الصليبيين الجدد، الذين يقاتلون في صفوف متراصّة الشرّ في الخارج، مستعدّون أيضا لمقارعته في الداخل. صحيح أنّ المعركة هنا أقلّ خطراً…

نحن هنا، في أوروبا الغربية، متضامنون مع مجمل العالم الغربي، من خلال العلاقات التاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. وهنا يمكننا أن نناضل، داخل الحدود وعبر التشعّبات العديدة المتجاوزة لهذه الحدود الجغرافية، وفي إطار هذا النظام غير البريء إطلاقا. وقد جنّدت السلطات القائمة في خدمتها كوكبة من القدرات والعقول ـ والكفاءات الدنيا أيضا ـ من أجل تطوير آليات احتكار السلطة، وتوزيعها غير المتوازي، وتغذية الامتيازات، ومتابعة الفساد، والتعاطف مع الديكتاتوريات، واستغلال مئات الملايين من التعساء، ومراكمة القهر واليأس والكراهية، وهم في ذلك يعدّون عدّة الانفجار الذي سيأخذ غداً في طريقه كلّ ما يدّعي أهل السلطة المحافظة عليه.

يصنّف التاريخ بين “المحافظين” من يسعون إلى حماية القيم بالتشبث بالوضع القائم الذي تجاوزته التحولات الاقتصادية والاجتماعية. لكن هؤلاء المحافظين لم يحافظوا على شيء. وقد آن الأوان لمراجعات جذرية، إذا ما أردنا الإبقاء على ما نحرص عليه: الحريات الفردية والعامة، التعددية الفلسفية والسياسية، نمط الحياة الخ… كل ما هو مهدّد إذا ما تمسّكنا بشكله الخارجي أكثر من مضمونه، بمظهره أكثر من معناه.

انه موقف محافظ على الأرجح، هذا الرافض لما يلوّح به المجتمع من موضة عابرة من أجل الوصول إلى الجوهر، وهذا الممتنع عن قبول الوعود التي يصعب الوفاء بها، والمنبّه إلى المخاطر التي تسكت عنها الحكومات، المعترض على الخطاب الرسمي، الواثق من نفسه بالأمس في “الانفراج الدولي” و”الحرب الباردة”، كما في الأزمة التي نعيشها اليوم، فيما هذا الخطاب يقود في الواقع إلى الكارثة بفعل التسويات والتراجعات والأضاليل.

انه الواجب النقدي يفرض نفسه على من يراقب ويحلّل ويفهم ويشرح. التخلّي عنه يعني التنازل عن الحرية في وجه أهل السلطة، مهما كان شكل هذه السلطة. فلْيبقَ مشكِّكا بدل الانضمام إلى كورس المدّاحين. ولْيبقَ وقحاً كي لا يشارك في موكب المجاملات.

عندما تصبح المهمّة (أو تبدو) شاقّة، يختار البعض الرفاهية الكاذبة والسهولة الواهمة ومراضاة الذات التي تؤمّنها قاعات انتظار السلطة والسلطات، لكنهم لا يدركون أنهم يضحّون بميزاتهم الفكرية دون أن تكون لهم يد في السلطة.

تبقى الطرق المشرفة الوحيدة، تعاطي التأمّل.