أدونيس : مدارات: الذاكرة، الهوية، الطبع
I – سَفَر
– 1 –
يُسافِرُ كثيراً، وفي كل سفَرٍ يتساءل:
أهو شخصُه الذي يُسافر، حقاً،
أم اسمه؟
– 2 –
يعيش ويكتب، كأنه في آنٍ،
طريدةٌ وصيّاد.
– 3 –
ما أجمل أن يصعد النثرُ
على سُلّم الشعر.
– 4 –
بماذا تأمل، ما دام الموت ينتظرك؟
عِشْ، لا تَأمَل.
– 5 –
غالباً،
يحبّ أن يظهر
حيث يشعر أنه يزداد خفاء.
– 6 –
الأكثر جحيمية في الجحيم،
هو أنها مكتوبةٌ بحبر الجنة.
II – امرأة
– 1 –
ترقص في حبّها، طائرة،
ولم تتساءل مرة واحدة:
هل أرقص في قيد؟
هل أطيرُ في قفص؟
– 2 –
لحزنها عينان
لا يراهما إلاّ الدمع.
III – هوية
– 1 –
هل البلاغة عندنا، نحن العرب، تعويضٌ عن الحميم الدفين الذي يتعذّر الإفصاحُ عنه لسبب أو آخر؟
ألهذا صارت «الهوية» العربية نفسها لغوية بلاغية؟
– 2 –
الكتابة، اليوم، في البلاد العربية وفي العالم، تكاد أن تخرج من «هويتها» الفنية – الجمالية، الى «هوية» السوق.
هكذا، بقدْرِ ما تنخفض «قيمة» الكتابة، تزدهر «سوقها».
– 3 –
الاحتفاء بالذاكرة وتراثها مسألة بالغة الأهمية والضرورة، لكن، شريطة ألاّ يُنظر إلى هذه الذاكرة بوصفها معياراً للانتماء. فالإبداع الذي تتمثل فيه الهوية، حقاً، لا تحركه الذاكرة بقدر ما تُحرّكه المخيلة.
المخيلة هي التي تفتح باب الانتماء إلى المُنجز الإبداعي الإنساني، فيما وراء القوميات والثقافات.
والمستقبل هو مدار المخيلة.
وفي المخيلة، قبل هذا كله، يكمن جوهر الانتماء إلى الذات في حركيتها الخلاّقة.
– 4 –
الحوار بين الأديان؟ نعم.
لكن، حتى الآن، نرى في ممارسة هذا الحوار أن كل طرفٍ فيه، يقف على «ذُروة» بعيدة، بحيث يتعذّر عليه أن يرى «الذروة» التي يقف الطرف الآخر عليها.
كيف يتحاور، مثلاً، «مختارٌ» من الله مع «مختار» آخر من الله، أيضاً؟
لا بد لهذا الحوار مع «الآخر» من أن يسبقه وأن يمهد له حوار مع «الذات»:
1 – في علاقة هذه الذات بنفسها و «هويتها»،
2 – في علاقتها بالمعرفة والحقيقة،
3 – في نظرتها إلى «الاختلاف»: هل تعدّه «باطلاً» أم تعدّه جزءاً من «الحقيقة»؟ دون ذلك، قد يؤدي الحوار بين الأديان إلى التأسيس لنظام جديد هو نظام اللافكر، لا على المستوى «الوطني»، وحده، وإنما كذلك على المستوى «الكونيّ».
لي سؤالٌ واحدٌ أوجّهه إلى القائمين على هذا الحوار، اليوم:
لماذا يدعونا الإيمان بدينٍ «خاص»،
إلى أن ننكر الحقيقة بوصفها «مُشتركاً» إنسانياً عاماً؟
IV – سياسة
– 1 –
كانت السياسة الأجنبية في البلدان العربية، ولا تزال حتى الآن نوعاً آخر من «التربية» لنوع آخر من «الدجاج». ساعدتها وتساعدها في ذلك «طبيعة» الأنظمة، وطبيعة «البنية» الاجتماعية. تقوم هذه البنية على «الجماعة» – «طائفة»، أو «قبيلة»، أو «أمةً»، أو «قومية»… الخ، مُرتبطة بـ «نظام» يُمثّلها، أو «يتطابق» معها.
وهذا مما أدى ويؤدي إلى «إقصاء» الحياة العربية عن الديموقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان – الفرد.
المهمة الأساسية، اليوم، سياسياً وثقافياً هي العمل على تحويل العرب من مجتمع «جماعة»، «أمة»، «طائفة»، … الخ، إلى مجتمع أفراد، مجتمع يكون فيه الفرد سيّد نفسه، وسيّد فكره، وسيّد حياته، وسيّد مصيره. وهذا ليس دعوة للفردية أو «الفحولة». وإنما هو دعوة لبناء المجتمع على الأفراد وحقوقهم، لا على الطائفة أو القبيلة، بحيث تكون الأولية، لا للجمع، بل للفرد.
وفي هذا ما يُولِّد الدينامية الفكرية والاجتماعية، وما يؤسس لبناء الديموقراطية وحرياتها وحقوقها.
دون ذلك، ستظل تلك «التربية» سائدة، وستظل العلاقات داخل المجتمع قائمة على العنف. والعنف لا ينتج إلا العنف. ولا يقود إلا إلى مزيد من الانهيار.
– 2 –
أهناك حوار حقاً بين العرب والغرب، كما يقول بعضهم، أو كما يُخيّل لبعض آخر، خارج السياسة والتجارة؟
لكن حوارنا في السياسة ليس إلا «إصغاء»،
وليس حوارنا في التجارة إلا «انقياداً».
في ما عدا ذلك،
يحاورنا الغرب بـ «مستقبله»،
ونُحاوره، نحن، بـ «ماضينا».
*
V – محمد الماغوط
يقول نوفاليس، الشاعر الألماني: «البداية الأصيلة هي الشعر – الطبيعة والنهاية هي البداية الثانية: الشعر – الفن».
الطبيعة، في الكلام على الماغوط، وتبعاً لهذا القول، ليست المكان وإنما هي الطبع.
كتابة الماغوط طبيعةٌ – طبعٌ كمثل الكتابة العربية الأولى. وبوصفها كذلك، حُقّ له، أن تُحِلّ النثر محل الوزن، ملغيةً الفرق بين النثر والشعر. صار التمييز بينهما، على الأقل، متعذراً.
أصبح من الممكن أن نسأل: هل الوزن شعرٌ بالضرورة؟
وأصبح من الممكن أن نؤكد: يمكن أن يكون النثر شعراً آخر. هكذا نصف كتابته بأنها حياته الثانية:
بالسخرية هنا هناك، تُقتحم الفاجعة،
وبالجرح تُمتحن اللغة،
وفي بسيط العبارة يُكتنزُ مُركّب الحياة.
المصدر : الحياة