كتب المؤرخ والصحافي إسحاق دويتشر، اليهودي المولد المعادي للإيديولوجية الصهيونية حتى مماته في أواخر الستينات، نحو بضعة عشر مجلداً عن أقطاب الماركسية، ابتداءً من كارل ماركس ولينين وتروتسكي وروزا لوكسمبرغ، انتهاءً بماو تسي تونغ. وهي كتب إذا بدأ القارئ بأحدها يصعب عليه الانصراف إلى غيرها، لأن المؤلف كتبها بأسلوب قصصي ممتع، وبلغة راقية. والكاتب لا يخفي ولا يعتذر عن تعاطفه مع من كتب عنهم، إذا استثنينا جوزيف ستالين، بسبب ميول المؤلف إلى جناح ليون تروتسكي.
والقارئ الموضوعي لكتب دويتشر ولغيره من المؤرخين الاجتماعيين منذ عشرات القرون كابن خلدون، سيتضح له شيء واحد مشترك بين جميع مؤلفات المؤرخين ذات الصدقية، ألا وهي أن «المنافسة» بين البشر والدول والمؤسسات، ظاهرة إنسانية توجد أينما وجد الإنسان، بصرف النظر عن معتقداته الدينية والقومية والإيديولوجية، وليست حكراً على المجتمعات الرأسمالية.
لماذا؟
بعبارة موجزة… بسبب «الندرة» النسبية لكل مرغوب فيه وكل مطلوب.
ولأن ثروة أي مجتمع – مهما كثرت – محدودة، فإن الأفراد يتنافسون للفوز بأكبر جزء يستطيعون اقتطاعه. والذي يجعل «المنافسة» ترتبط في الأذهان بالمنافسة المادية المحمومة، أنه قد يبدو أحياناً أن الأفراد لا يتنافسون إلا على الحصول على أكبر قدر ممكن من الثروة. ولكن هذا انطباع خاطئ لا يخلو من سذاجة مفرطة، إذ إن الأفراد يتنافسون بوسائل شتى، ليحصل كل منهم على أكبر قسط ممكن مما يريد، أياً كانت ماهية ما يريد، فهذا يعمل معظم ساعات النهار وجزءاً من الليل ليوفر أكبر قدر ممكن من المال، ليستطيع الحصول على ما يطمع فيه من ثروة، وهذا يفكر في كل ساعات صحوه وفي بعض من ساعات نومه في سوق الأسهم، ليكون إمبراطورية مادية، وهذا يمضي ثلث حياته في المدارس والجامعات ليبرز علمياً أو أدبياً أو فنياً، ليحصل على ثروة مادية، أو ليظفر بما يعادلها من مكانة اجتماعية مرموقة.
تعددت الوسائل والهدف واحد، كل فرد منا يود أن يظفر بكل ما يستطيع الظفر به من ثروة مادية أو مكانة اجتماعية أو جاه، أو على هذه الأشياء مجتمعة، ولو كانت الثروة المادية متوافرة بحيث ترضي رغبة كل فرد منا، ولو كان الحصول على الموقع الاجتماعي المرموق، أو المنصب القيادي المهم، يتم بسهولة ويسر، لما كان بيننا تناقض في المصالح.
إن المنافسة موجودة في كل مجتمع، وبين أعضاء أية نقابة أو مجموعة مهنية، ولكن الأشكال والمظاهر التي تتخذها المنافسة تختلف بحسب الظروف السياسية والدينية والاجتماعية السائدة. فبالطبع، لن تجد منافسة بين التجار في هافانا على كسب العملاء وإحراز الأرباح، ولكنك ستجد منافسة تصل إلى درجة الاقتتال أحياناً بين الأعضاء البارزين في الحزب الشيوعي، نظراً إلى رغبة كل منهم في تولي أعلى منصب سياسي ممكن. وقد تختلف الأهداف التي من أجلها يتنافس هؤلاء الرجال والنساء على المناصب الكبيرة في الحزب أو في الحكومة، فمنهم من يريد المنصب ليستطيع الحصول على مسكن أفضل وسيارة أكبر، ومنهم من يريد المنصب لينفذ خططه السياسية، ومنهم من يريد المنصب ليحصل على المال والسلطة معاً، وهلم جرّا.
المهم في الأمر أن الراغبين في تولي المناصب أو الأعمال المؤثرة، اكثر من عدد المناصب، وهذا هو سبب المنافسة على المناصب، وكذلك الحال بالنسبة الى تنافس رجال دولة الفاتيكان، فهم يتنافسون بشدة على مناصب دينية بحتة؛ لأن المراتب العليا أقل عدداً من ان تتوافر لجميع الراغبين فيها.
وسنجد أن مديري المشاريع الحكومية في الدول الشيوعية ينافس بعضهم بعضاً، كما يتنافس مديرو الشركات في الدول الرأسمالية، إلا أن وسائل المنافسة تأخذ مظاهر مختلفة. فالمديرون الشيوعيون والبيروقراطيون في كل مكان يتنافسون في الحصول على اكبر موازنة ممكنة لمشاريعهم؛ ولذلك يبذل كل منهم جهداً عظيماً في تملق القادة السياسيين والبيروقراطيين الماليين، ولا يهم هؤلاء المديرين غضب أو رضا المواطن العادي. أما المديرون الرأسماليون فيهمهم كسب رضاء عملائهم، والذي يحكم تصرفاتهم نحوهم هو كمية مشترياتهم، وليس مناصبهم السياسية أو مراكزهم البيروقراطية، لأن هدف كل مدير رأسمالي هو بالدرجة الأولى زيادة دخله شخصياً، ودخل مؤسسته.
وكما يتنافس الأفراد في كل مكان بوسائل شتى، لأن الموجود مما يتنافسون عليه أقل من المطلوب، كذلك تتنافس دول العالم على ثروات الكرة الأرضية، وعلى النفوذ، لأن كلاً منها تحاول الحصول على اكبر قسط من هذه الثروة ومن هذا النفوذ.
على بن طلال الجهني . أكاديمي سعودي . الحياة