°
, April 16, 2024 in
آخر الأخبار
قضايا

الإصلاح السياسي راهن دوما 2-2 جاد الكريم جباعي

. . . المواطنة في الاشتقاق اللغوي على وزن مفاعلة وتعني المشاركة في الوطن، وشروطها الحرية والتكافؤ والمساواة؛ أي إن المشاركة في الوطن نابعة من اختيار حر أو إرادة حرة، والإرادة الحرة أساس العقد الاجتماعي الذي ليس، ولا يجوز أن يكون، عقد إذعان، وليس ناتجاً من غصب أو غلبة أو قهر أو استتباع أو صهر وتذويب قسريين، كعمليات التعريب الحمقاء التي مورست عندنا على غير العرب، ولا سيما الكورد. والشركاء في الوطن متكافئون، بحكم ما بينهم من خصائص مشتركة، أهمها الحاجة إلى الاجتماع المنظم وإلى الأمن والسلم والحياة الحرة الكريمة. ومتساوون في الحقوق المدنية والسياسية. وإلا كفت المواطنة عن كونها مشاركة وتحولت إلى نوع من تساكن أو تعايش على مضض. نقول: واطن فلانٌ القومَ، أي عاش معهم في وطن واحد، فصار مواطناً شريكاً في الوطن وعضواً في الدولة، يتمتع بالحقوق التي يتمتع بها أبناء مجتمعه ودولته، فهو مواطنهم وهم مواطنوه.

ومن ثم، فالمواطنة ترتب للمواطن جملة من الحقوق المدنية والسياسية والحريات الشخصية والعامة، تقابلها جملة من الواجبات المدنية والالتزامات القانونية تُلقى على عاتقه، بصفته عضواً كامل العضوية في الدولة التي تمنحه جنسيتها، أو في المجتمع السياسي، أو الجماعة السياسية، التي تمنحه هويته السياسية. فإن مفهوم الهوية السياسية يرتكز على المواطنة، أي على عضوية الفرد في الدولة وانتمائه إليها وولائه لها. فإذ يعرِّف أحدنا نفسه بأنه (مواطن سوري، على سبيل المثال)، فإن السورية هي هويته السياسية، لا أصله الإثني ولا منبته الاجتماعي ولا موقعه الاجتماعي، ولا انتماؤه الديني أو المذهبي، ولا ميوله الفكرية أو السياسية، فهذه جميعاً خصائصه الشخصية ومحمولاته وتحديداته الذاتية. الهوية غير الأصل، وغير الاعتقاد.

“المواطنة طاعة ومقاومة كلتاهما ضروريتان لكل مواطن”، طاعة للقوانين ومقاومة لكل قسر أو إكراه أو ظلم أو تسلط واستبداد؛ الأولى، أي الطاعة، ضرورية لحفظ نظام المجتمع، والثانية، أي المقاومة، ضرورية لصون الحرية. والطاعة هنا طاعة للقوانين العامة فقط، لا لأي فرد من أفراد السلطة التنفيذية مهما علت مرتبته، ولا لأي قوة غير قوة القانون. فقد نشأ العقد الاجتماعي ووضعت القوانين لكي لا يخضع أي فرد لنظيره. (الفرد دوماً أنثى وذكر). أما المقاومة فهي مقاومة أي قسر أو إكراه خارجي يتعرض له المواطن أو المواطنة بالطبع، في حياته أو حياتها الخاصة والعامة، من أي جهة أتى، بما في ذلك القوانين الجائرة التي لا تتسق مع حرية المواطن وحقوقه الطبيعية والمكتسبة وكرامته الإنسانية، كقانون الأحوال الشخصية عندنا، وعدة قوانين جزائية وجنائية.

الطاعة الضرورية لحفظ نظام المجتمع، أي إطاعة القانون لا تتحقق بالفعل إلا إذا كان القانون المطلوبة إطاعته يسري على جميع مواطني الدولة بالتساوي، بلا استثناء ولا تمييز. فإذا ما كان هناك ولو شخص واحد فوق القانون يفقد القانون جوهره العام، وينفتح باب الاستثناء من القانون، والتمييز بين المواطنين، بحسب درجة ولائهم لأشخاص السلطة أو بحسب مواقعهم الاجتماعية وانتماءاتهم الإثنية والدينية والمذهبية. لذلك عُدَّت المساواة تجسيداً فعلياً للعدالة.

المساواة هنا مساواة في الحقوق والواجبات، لا في مقادير هذه وتلك، وتكافؤٌ في الفرص وتساوٍ في الشروط. ويمكن القول إن المساواة شيء والتكافؤ شيء آخر، فالمساواة لغة هي اتفاق شيئين في الكمية، بحيث يمكن استبدال أحدهما بالآخر من دون زيادة ولا نقصان، أما المشابهة فاتفاق في الكيفية، والمتشابهان متكافئان وإن لم يكونا متساويين في الكمية. معروف أن كل اختلاف ينفي المساواة، وما دام المواطنون مختلفين اختلافات لا حصر لها، فإن المساواة السياسية تعني تساوي الشروط وتكافؤ الفرص أولاً، وتعني أنها مؤسسة على مفهوم المواطنة ومفهوم المواطن الذي هو تجريد الفرد الطبيعي من صفات العرق واللغة والدين أو المذهب والجنس (الذكورة والأنوثة) ومن سائر محمولاته وميوله واتجاهاته، وبهذا تغدو المساواة مساواة بين مواطنين، لا بين أفراد طبيعيين. فللفرد دوماً هذا الطابع المزدوج: فرد طبيعي هو عضو في المجتمع المدني، ومواطن هو عضو في الدولة. هذا الازدواج يشبه ازدواج الحياة الشخصية لكل فرد وحياته العامة، وهذا وذاك مما يعين الفرق بين المجتمع المدني والدولة السياسية.

لذلك كله أدعي أن الديمقراطية (من ديموس، الشعب باليونانية) هي مضمون الوطنية ورافعتها، ومضمون الدولة الوطنية الحديثة، وعامل انفتاحها على آفاق إنسانية وكونية. أقول ذلك انطلاقاً من حقيقة أن الشعب هو مضمون الدولة والدولة شكل من أشكال وجوده، وأن الديمقراطية علاقة متغيرة بين الشكل والمضمون تتجه نحو اتساقهما ووحدتهما الجدلية. الشعب مصدر السيادة والشرعية ومصدر جميع السلطات، وهو الذي يضع القوانين بوساطة ممثليه في مؤسسة تشريعية منتخبة انتخاباً صحيحاً، وهو الذي يطيع هذه القوانين، فهو بذلك حاكم ومحكوم. إذا كان الأمر كذلك فإن الديمقراطية، أي حكم الشعب نفسه بنفسه، هي مضمون الوطنية ومضمون الدولة الوطنية، وهي ما يضفي على الوطنية صفة الاعتدال، ويخلصها شيئاً فشيئاً من التعصب والتطرف، بقدر ما تتسق العلاقات الداخلية بين أفراد الشعب مع علاقاته بغيره من الشعوب، فالديمقراطية لا تتجزأ.

وإلى ذلك أعتقد أن الإنسانية أساس الوطنية ورافعتها، فليس بوسعك أن تعترف بأن الآخر من أبناء وطنك مساو لك في المواطنة قبل أن تعترف بأنه مساو لك في الكرامة الإنسانية، فإذا انعدمت المساواة في الكرامة الإنسانية انعدمت المواطنة معها. ليس غريباً وهذه الحال أن المستبدين المحدثين كباراً وصغاراً يزدرون مواطنيهم ويهينون كرامتهم، ويعاملونهم معاملة الدواب. الاستبداد في أحد وجوهه هو “حيونة الإنسان”، بتعبير الراحل ممدوح عدوان، لا يتجلى ذلك في اهتضام الحقوق المدنية والسياسية والحريات الأساسية أو في الإفقار وتقفير الحياة العامة والخاصة، فقط، بل في الاستهانة بحياة المواطنين وقتلهم واختطافهم وتعذيبهم والتنكيل بهم، وحسبان ذلك كله واجباً أخلاقياً للدفاع عن الوطن والوحدة الوطنية.

لاحظ أليكسي دو توكفيل، الذي أطلق عليه المتأخرون لقب مونتسكيو القرن التاسع عشر، أن “تساوي الشروط أو الأحوال هو مفتاح كل شيء” (راجع، فرانسوا شاتلييه، المؤلفات السياسية الكبرى، من ماكيافل إلى أيامنا، ص226) . تحدث توكفيل عن ميل تاريخي، نحو الديمقراطية، انطلاقاً من نقطة واحدة هي التي تحدد الاتجاه، مبدأ واحد هو القاسم المشترك بين المجتمعات التي تغذ السير نحو الديمقراطية، هذا المبدأ هو المساواة ضد مبدأ “امتياز الولادة”، أي ضد امتياز من يولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهب، كما تقول العامة، أو في عائلات “شريفة”، وضد كل امتياز.

المساواة هي السمة الأساسية للديمقراطية، لا الحرية. الحرية هي “السم المضاد الضروري للتطرف في المساواة، السم المضاد الضروري للمساواة القصوى”. ومن المؤكد أن المساواة هنا هي مساواة سياسية، مساواة أمام القانون. أما الحرية فهي “المبدأ الأول للكينونة الأخلاقية، والنبع الذي تتدفق منه بالكفاح كل قوة وكل فضيلة” (أليكسي دي توكفيل). الحرية، بوصفها كذلك، وبوصفها أساس الكرامة الإنسانية، هي الدواء الناجع لجميع أدواء الديمقراطية وتشوهاتها، بل لجميع الأدواء الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية.

التساوي في عضوية المجتمع المدني وفي الانتماء إلى الأمة الحديثة يقود إلى المساواة السياسية، أي إلى التساوي في عضوية الدولة. ويمكن تصور نظمتين مختلفتين من المساواة السياسية: سيادة الجميع أو سلطة مطلقة لواحد على الجميع. الثانية لا تعدو كونها نوعاً من مساواة في العبودية أو التبعية. أما سيادة الجميع فهي مساواة في الحقوق وفي الحرية. المساواة في الحرية وفي الحقوق لا تنمو ولا تنبسط إلا في رحاب المجتمع المدني، حيث الشعب الذي ينتج حياته الاجتماعية وثروته المادية والروحية هو من ينتج حياته السياسية، فيضع القوانين المناسبة ويوكل إلى السلطة التنفيذية تنفيذ القوانين، ولا يترك للإدارة العامة سوى تلك الأعمال التي لا يستطيع القيام بها، ويجعلها تحس دوماً بأصلها الشعبي، فتطيع السلطة التي صدرت عنها، أي سلطة الشعب، وقد صارت سلطة الدولة أو سلطة القانون.

هذه السلطة، سلطة الشعب، سلطة مطلقة أيضاً، مع أنها ليست سلطة فرد، ولا سلطة الجميع، بل سلطة الدولة، التي تقررها الأكثرية السياسية، في نطاق علاقتها الجدلية بالأقلية السياسية. ولهذه الأخيرة أثر فعلي في وضع القوانين، لأنها قابلة لأن تصير أكثرية سياسية، ولكنها لا تستطيع تعطيل الحركة أو إعاقتها، وليس لها أي مصلحة في ذلك. فما أن تنعقد أكثرية على أمر من الأمور حتى يغدو نافذاً لا يعوقه شيء. العلاقة الجدلية بين الأكثرية السياسية والأقلية السياسية هي معيار النشاط والفاعلية في الحياة السياسية العامة، وأساس الاستقرار السياسي. والمساواة السياسية هي ما يجعل هذه العلاقة سليمة وما يجعلها محكومة دوماً بمبدأ المصلحة العامة والنفع العام والخير العام. بل يمكن القول إن هذه العلاقة هي التي تحدد اتجاه سير المجتمع و وتائر نموه وتطوره، فالمجتمع لا يكون إلا كما تجعله دولته السياسية، إلا كما تجعله الدولة، مع أنه، أي المجتمع، هو الذي ينتجها شكلاً سياسياً وأخلاقياً لحياته الاجتماعية.

السلطة المطلقة للأكثرية يمكن أن تتحول إلى دكتاتورية الأكثرية، إذا جاز التعبير، إذا تخلت عن حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن هي ما يجعل سلطة الأكثرية نوعاً من سلطة الشعب على نفسه. كلمة السر مرة أخرى هي المساواة، التي تغدو تعبيراً فعلياً عن العدالة، إذ لا يمكن أن تضيع حقوق أي فرد أو تمس كرامته الإنسانية ما دام هناك قضاء مستقل وهيئة تشريعية مستنيرة ومؤسسات مدنية وصحافة حرة ورأي عام .. كلها معنية بالدفاع عن مبدأ وجودها، أعني الحرية والمساواة. حرية الفرد هنا عنصر أساسي، بل عنصر تأسيسي، من عناصر سيادة الشعب وسلطة الأكثرية.

في ظل المساواة السياسية يشكل كل إنسان أفكاره وآراءه ومعتقداته وعواطفه وخياراته بنفسه، ويوجه حياته الوجهة التي يريد، فلا يقع تحت أي سيطرة فكرية أو أيديولوجية، ويرفض تدخل أي سلطة في حياته الشخصية وأي مساس بحقوقه المكتسبة. في هذه المنطقة السرية التي تقع تحت السطح السياسي أو تحت الطبقة السطحية للسياسة، تضرب الحرية الذاتية والأخلاق الذاتية جذورهما عميقاً في تربة المجتمع المدني، حيث تكمن قوة النظام الديمقراطي وتكمن أسباب هشاشته وعوامل مرضه أيضاً. ما يعني أن النظام الديمقراطي ناقص دوماً وهش ومفتوح دوماً على احتمالات شتى، إيجابية وسلبية.

النظام الديمقراطي أكثر النظم السياسية هشاشة بسبب الحرية والمساواة؛ وليس من علاج لمشكلاته وأمراضه وانحرافاته سوى الحرية والمساواة، وهما عنوان الإصلاح في كل زمان ومكان. وهذا ما يجعله بنية حية، ونسقاً مفتوحاً، وفضاء من الحرية، يختار فيه كل فرد نفسه، ويتعرف ذاته في الآخرين، ويعمل على تحقيقها. في هذا النظام فقط، تنشأ ثقة الفرد بنفسه، وهي أساس ثقته بالآخرين بوجه عام وبالأكثرية بوجه خاص.

ما دام كل مواطن يتوفر، في ظل المساواة، على ثقة كافية بملكاته ومقدراته وعلى اقتناع عميق بأن كل شيء في العالم قابل للتعليل، وأن لا شيء فيه يتخطى حدود ذكائه، وبأنه قادر على الفحص الفردي الحر لجميع الأفكار والآراء والمعتقدات، فلا يثق بغيره أكثر مما يثق بنفسه، وما دام وعيه الذاتي قد ارتقى إلى مستوى المواطنة وتمثل قيم الحق والخير والجمال، فلا يطيق أن يكون منعزلاً وأنانياً مسوقاً بغريزته العمياء. وما دامت شروط أمنه ورفاهيته وسعادته مرتبطة بسلامة النظام العام ومدى استجابته لمطالب الروح الإنساني، فإنه يصير ميالاً إلى الثقة برأي الأكثرية والاطمئنان إلى توجهاتها، بل يصير ميالاً إلى الاعتقاد بأن الأكثرية لا تخطئ، وإن كان هو نفسه من أنصار الأقلية أو من محازبيها. فإن لمثل هذا الاعتقاد قيمة تربوية (بيداغوجية) وأخلاقية تتجلى في حرية النقد، بما في ذلك نقد الذات وكشف أوهامها وأباطيلها.

الأكثرية ليست أكثرية لأنها الأفضل والأقلية ليست أقلية لأنها على ضلال. لو كان الأمر على خلاف ذلك لباتت هذه الثقة بالأكثرية خطراً ماحقاً على حرية الفكر واستقلال الوجدان وخطراً ماحقاً على الإبداع. لنقل بعبارة أخرى إن الكثرة هنا هي كثرة أفراد أحرار، وإن المساواة السياسية لا تلغي شخصية الفرد وذاتيته وفرادته وحريته واستقلاله، بل على العكس. لعله من الصعب علينا، نحن الذين لم نعش مثل هذه التجربة، أن نتصور إمكانية أن ينتمي الفرد إلى الكل وأن يثق بسلطة الأكثرية ويحتفظ، مع ذلك، بجميع مقومات فرديته، ولا سيما الحرية والاستقلال. حل هذه المعضلة في النظام الديمقراطي بسيط، فما أن تغدو وطأة السلطة ثقيلة على وجدان الفرد وقيداً على حريته سيجد ملايين الأفراد يمدون له يد العون؛ وما ذلك إلا لأن النظام الديمقراطي فضاء مشترك من الحرية، فما يهدد حرية أي فرد يمكن أن يهدد حرية الجميع. ومن هنا يبدأ الإصلاح.

لا يجوز أن نحرم أنفسنا متعة المناقشة الآتية: الانعتاق من التبعية والاستبداد، وتجنب أن يكون الجميع عبيداً لسيد واحد أسسا سيادة الشعب. ليس هنالك من سلطة خارجة عن الجسم الاجتماعي المنظم، المجتمع سيد نفسه، الشعب سيد نفسه، تتجلى هذه السيادة في القانون العام الذي يسري على الجميع بالتساوي. ولكن لا يجوز أن ننخدع، فإن هذه السلطة التي ينتجها المجتمع لنفسه، هي سلطة مطلقة، ولكنها ليست سلطة شخص واحد، ولا سلطة الجميع أيضاً، بل سلطة الأكثرية.

الرأي العام هو رأي الأكثرية، والسلطة التشريعية، التي يفترض أنها التعبير الفعلي عن سيادة الأمة، هي سلطة الأكثرية أيضاً، وتطيعها طاعة عمياء، السلطة التنفيذية أداة بيد الأكثرية، القوة العامة التي تحفظ الأمن هي قوة الأكثرية تحت السلاح، تداول السلطة سلماً وتحوُّل الأقلية إلى أكثرية وبالعكس لا يغيران من هذه الحقيقة شيئاً؛ أليس في هذا تهديد للحرية؟

بلى بالتأكيد، إنه طغيان الأكثرية الذي يختلف بالطبع عن طغيان الفرد أو الطغمة أو الحزب، ولكنه طغيان. ذلكم هو أحد عيوب الديمقراطية وأحد شرورها. هذا العيب معزز بالمركزية وبغياب أي جسم وسيط بين الفرد وسلطة الدولة التي تنمو قوتها باطراد.

ما الحل إذاً؟ كيف يمكن الوقوف في وجه هذا الطغيان الجديد والحد منه؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بالحرية. “السم المضاد للمساواة، التي منها تولد الفردوية، هو الحرية، ولا سيما الحرية السياسية التي تجعل الديمقراطية في مصلحة الجميع. الحل هو الحرية، أي مقاومة الطغيان؛ وهذا هو الأساس المكين للإصلاح. وقد أشرنا إلى أن المقاومة أو المعارضة ضرورية للمواطن، بل هي لا تنفصل عن طبيعته. ولكن كيف؟

إن مؤسسات المجتمع المدني الحرة، غير الحكومية، هي القوة التي يمكن أن تقف في وجه طغيان الأكثرية، وتحول دون أن يفضي النظام الديمقراطي إما إلى الاستبداد وإما إلى الفوضى، إذا لم تكن هناك قوة تعادله، وتجعله معتدلاً. الاعتدال هو فضيلة الديمقراطية. هذه القوة هي قوة المجتمع المدني، ميدان الحرية الذاتية، في مقابل الدولة التي هي ميدان القانون، أو ميدان الحرية الموضوعية. هنا يتموضع الإصلاح، في العلاقة بين المجتمع المدني والدولة الوطنية وبين الشعب والسلطة السياسية، وهذه تناظر العلاقة بين الديمقراطية والوطنية.

لعل ما تقدم يفسر قولنا أن الإصلاح راهن دوماً، وضروري دوماً، عندنا وعند غيرنا، للحفاظ على النظام والسلم الاجتماعيين، وعلى القيم الإنسانية وقيم المواطنة، بالتلازم, لأن الحياة السياسة ديناميكية متحركة ومتغيرة، بتغير نسبة القوى الاجتماعية، والتعارض بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة لا يتوقف (السياسة علاقات موضوعية، تحددها نسبة القوى الاجتماعية) والديمقراطية هشة وعرضة للتحول إما إلى دكتاتورية وإما إلى طغيان الأكثرية وإما إلى فوضى