مع أنّ تأثير هذه الآلات والمخترعات في الطبيعة الإنسانيّة ذاتيّاً ومجتمعيّاً وثقافيّاً كبير جداً؛ فالكتابة واكتشاف النار واختراع العجلة منذ أزمنة طويلة لم يقف أثرها عند كيفية استخدامها أو طبيعة محتواها، بل تجاوز ذلك إلى تأثيرها على الخبرة الإنسانيّة ذاتها.(1) ولذلك عادةً ما ينصرف الحديث حول التقنية الحديثة وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وغيره؛ عن مدى ” أخلاقية ” المحتوى وتوافقه مع الراسب الثقافي والديني الضارب بجذوره في كيان المجتمع. وذلك عبر استظهار موقف حيادي بارد يظهر على شكل السؤال التالي: ما هي مضار / فوائد التلفزيون، الفيسبوك ،الإنترنت.. إلخ؟
وبالطبع فإن الإجابة تتجه مباشرةً لأخلاقية هذا المحتوى من عدمه (القناة الفلانية تعمل على نشر التشيع، والموقع الفلاني يغذّي الأفكار الإلحادية.. إلخ) ويتم صرف الطرف عما يسميه ” يونان لينش ” بـــ “هيكل الخطيئة”، والذي يعني المواضيع الأساسية التي تعيد تعريفها وموضعتها التقنية في أطر جديدة: (الصبر، الزمان، المكان، العلاقات، الذكاء، المعرفة، المعالجة المعرفية، الحب، السياسة… الخ).(2)
ومن بين المسائل والقضايا المهمة التي طالتها يد التقنية؛ قضية ” العلاقات الإنسانية ” التي صارت تتخذ اليوم أشكالاً متعددة، وتتغير بشكل جذري، جرّاء ما اعتراها من سيولة، وتفكُكٍ أحيانًا، أو اقتحامٍ لخصوصياتٍ ومساحاتٍ شخصية جدًا. وهذا ما يدفعنا إلى إعادة التفكير في ” العلاقات الإنسانية ” وكيفية التعاطي معها. وفي ذلك يرى الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر أنّ للإنسان في تعاطيه مع وجوده أبعادًا ثلاثة، ينفعل معها، محاولًا فهمها، وإدراكها:
البعد الأول (الذات): وهي علاقة المرء بنفسه، من هو، ولِمَ أتى إلى هذا العالم، وكيف كان مأتاه؟ وهل تراني أقدر على معرفة ذاتي أم لا؟ وإن أمكن ذلك، فبأي وسيلة يكون؟ وهل نعرف ذواتنا معرفة مباشرة؟ أم أنّنا لا نعرفها إلا بالاستدلال عليها؟
البعد الثاني (الغير): وهو أفق علاقة الإنسان مع نظرائه في الخلق، كيف يراهم، وما هي حدود علاقته معهم؟ هل هم جحيم كما ادّعى سارتر في مقولته الأثيرة: “الآخرون هم الجحيم”؟ أم أنّهم “نعيم” كما راهن على ذلك ليڤي شتراوس؟
البعد الثالث (العالم): وهو قضية وجود الإنسان بين الأشياء، ما صنعه بيده، وما وجده مصنوعًا له!
وكيف ينظر إلى هذا العالم؟ وهل لنا رؤية للعالم؟ وإن كانت فما هي؟(3)
وصفعة الطبيب على جسده الرقيق: تحفيز ودفعٌ له لكي يبادر بأخذ أوّل نفسٍ له في هذه الحياة. وهكذا فالإنسان من أول لحظة له في حياته، لا يدرك نفسه ووجوده إلّا بمعاونة الآخرين له “وكأن الإنسان لا يصير إنسانًا إلا بين الناس” كما يقول الفيلسوف الألماني فيشته.(5)
وتبلغ مراسم الاحتفاء هذه ذروتها، جرّاء تعاهد الناس من حوله، على حمله، والتنقّل به، من صدر أمه إلى حضن أبيه، ومن سريره الصغير إلى أسراب المُهنّئين بقدومه. وحتى حين يخلد إلى نومه، مؤثرًا الابتعاد عن صخب المجالس وطقوس الاحتفال به؛ تُقتحم عليه عزلته – التي ينمو بها كما يُعلّمنا علم خصائص النمو، فنمو الأطفال يعتمد على عدد ساعات نومهم –(6) وذلك بأن تُرسل الأمُ أحدَ أبناءها لتفقّده، والاطمئنان عليه. وغالبًا ما يقع الطفل تحت يد أحد إخوته المزعجين، الذين لا يسأمون عبر محاولاتهم الحثيثة لإيقاظه بكل صفاقة!
هذه اللحظة الأولى وتداعياتها المضحكة-المبكية، كما حاول رصدها المفكر الفلسطيني هشام شرابي في كتابه: ” مقدمات لدراسة المجتمع العربي “(7) في معرض تحليله لبنية الإنسان في العالم العربي، وحاله في أسرته؛ تدفعنا للقول بأنّ الإنسان منذ أن وُجد، وُجدَ مع الغير، كان الغير في استقباله في هذا العالم، وسيظل الغير مصاحبًا إياه في تصاريف أيامه، سواءً كان عدوًّا أو صديقًا، وصولًا إلى اللحظة التي يحط فيها الإنسان آخر أمتعته في الدار الآخرة؛ مستقبلًا الموت. فإنّ من سيودّعه، ويحمله على الأكتاف، ويسجّيه في قبره هم الآخرون. وحتى من سيدفع ثمن كفنه هم الآخرون:
“لا شيء بالمجان إلا الموت
لكن، لا مفر من الكفن” (8)
ومسألة حضور الآخر كما أبانت عن نفسها أعلاه، هي من قبيل حكم الضرورة. فقد دافع الفلاسفة وعلماء الاجتماع عن فكرة أن الكائنات الإنسانية اجتماعية بطبعها: “الإنسان مدنيٌّ بطبعه”(9) أي: أنّ لدى البشر ميلا طبيعيا إلى أن يعيش بعضهم مع بعض، وإلى أن ينظموا أنفسهم كجماعات واتحادات ودول وأسر، لأنهم بذلك يكتسبون إنسانيتهم ويحققونها في المجتمع.(10)
فالرغبة في إقامة العلاقات ميل متأصل في الطبيعة الإنسانية. وهذا الميل عنصر فيها كما أن العين والأذن عنصران في الجسد. وعليه فلا يمكن للإنسان أن ينمو ويتطور إن لم يشبعهذه الحاجة، كما أن جسده لا يمكن أن ينمو ويتطور على خير ما يرام إذا فقد عينيه أو إحدى أعضاء جسده.(11)
في الفصل الأول من كتاب ” السياسة ” يجادل أرسطو بأن الإنسان كائن اجتماعي – مدنيٌّ بالطبع. وقد تبدو هذه القضية بديهية، لأنه من الممكن إثبات صدقها بالملاحظة التجريبية، والفهم المشترك، وشاهد الحال. ولكنها ليست كذلك عند أرسطو، ليس فقط لأن معناها ليس واضحا، ولكن لأنها تحتاج إلى برهنة. وعلى رغم كل شيء فهي افتراض أساسي للنظرية السياسية والأخلاقية.(13)
يرى أرسطو بأنّ الدولة-المدينة هي أعلى نوع من التتظيم السياسي، وهي حاصل تطور الكائنات الإنسانية، وصولّا إلى طبيعتهم الحقّة. ذلك لأنّ طبيعة الشيء تكمن في اكتمال نموه، بغض النظر عما إذا كان ما نتحدث عنه هو الانسان أو الحصان أو الأسرة. ويكون الشيء سواء كان شجرة أو أسدا طبيعاً عندما يكتمل، أو يحقق طبيعته، فهو غير طبيعي ما دام بقي غير متطور ومجرد إمكانية. وهذه الحجة ترتكز على النظرة بأن ( الطبيعة دائما تستهد الأفضل ).(14) وهذا هو السبب الذي دفع أرسطو إلى أن يجادل بأن الكائنات الانسانية مفطورة على أن تعيش في تجمّعاتٍ من جنسها. وأمّا من اختار العيش خارج نطاق الدولة-المجتمع، فإما أنه مخلوق بائس أو كائن أعلى من البشر -كما يرى أرسطو –(15)
وعطفًا على ما سبق يرى شوبنهاور أن الانسان يسعى للتواصل مع الآخر باعتبار طبيعته المدنية، ولكنه في نفس الوقت يخشى أن يؤذيه هذا التواصل باعتبار (آفة العلاقات) وهذا ما يوحي بوجود معضلة؛ إذ كيف نجمع بين رغباتنا في إقامة العلاقات، مع احتمال وقوع الأذى علينا منها؟! وهذا ما حاول شوبنهاور الحديث عنه، عبر استجداء رمزّية ( حالة القنافذ في الليالي الباردة )(17) على طريقة الفلاسفة والحُكماء، في تكثيف رؤاهم الفلسفية في رموزٌ حيّةٍ, تختصر طنين الفكر الذي يحدثه الشرح والتحليل. وذلك ما للرمز من قوة تأويليةً تتسع باتساع الملتقي. ففي تاريخ الأفكار نعرف كلب بافلوف، وقطة شرودنغر، وتفاحة باركلي ونيوتن، والغابات المتشابكة عند هايدجر، وإبريق الشاي الهائم في الفضاء عند راسل..الخ(18)
الإنسان أضعف من أن يبقى في وحدة، وأوحش من أن يبقى في كثرة. حاله حال شمع الحفل كما برع محمد إقبال في وصفه حين قال: “مثل شمع الحفل.. في الحفل: وحيد ورفيق” |
على غرار هذه الرموز المُلهمة، نحت شوبنهاور رمز ” القنفذ ” والذي صار فيما بعد نموذجاً يعرف في علم النفس الاجتماعي والفلسفة بـ “معضلة القنفذ”(19) (Hedgehog’s dilemma) حتى أنّ العالم النفسي الشهير سيجموند فرويد لمّا ذهب زائرًا أميركا لإلقاء بعض المحاضرات قال: “ذهبت لأمرين؛ لإلقاء المحاضرات، ودراسة سلوك القنافذ!”(20)
شوبنهاور كان يتحدث عن التحديات التي تواجه العلاقات الحميميّة بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ علاقات القرب والبعد، التداني والتنائي. وعمد إلى صياغة هذه العلاقة، بوصف الحالة التي تعيشها ” مجموعة قنافذ ” في الليالي المطيرة الباردة، إذ يسعى كل واحدٍ منها ليصبح على مقربة من الآخر، من أجل تبادل الحرارة خلال الطقس البارد.(21)
تتقارب القنافذ ليسري الدفء إلى أجسادها، ولكن وخز الإبر والشوك الذي يغزو جسم القنافذ، يمُلي عليها العودة إلى العراء تحت لسع البرد، وهكذا كُلما لسعها البرد، هرعت إلى روعة الدفء، لكنّ روعة الدفء مآله وخز الإبر، وكأن القانون الذي يحكم علاقات القنافذ فيما بينها، يتبادله البرد والدفء، والوخز حاضر كُلّما اقتربنا من الدفء هاربين من لسع البرد.(22) ولو نقلنا سياق الحديث إلى الإنسان فإنّ لسع البرد؛ هي حالة الاغتراب الوجودي الذي يعانيه الإنسان في رحلته الممتدة على هذه الأرض. وأمّا روعة الدفء؛ فهي الحاجة الوجودية المُلحّة عند الإنسان لإقامة العلاقات. ووخز الإبر هي آفة الاقتراب من الآخرين والالتصاق بهم.
وعودًا على معضلة القناقذ في الشتاء، فقد لاحظ شوبنهاور قيام القنافذ بحلٍّ جذريٍّ لهذه المعضلة، وذلك بأن قامت القنافذ بطريقه بسيطة وناجحة بأخذ مسافة معتدلة من السلامة تضمن لها الدفئ الكافي وفي نفس الوقت درجة ألم من الممكن احتمالها، وهي عملية أسماها شوبنهار بــ: مسافة السلامة(23) (safe distance).
ومن الضروري لفت النظر إلى استعارة المسافة لتوصيف العلاقات، وآية ذلك أنّ الاستعارة تشير إلى البنية المعرفية لدى الإنسان وطرائق التفكير لديه، كما شرح ذلك اللغوي والفيلسوف جورج لايكوف في كتابه ” الاستعارات التي نحيا بها “(26) والمعنى المراد باستعارة المسافة لتوصيف العلاقات، يحمل إشارةً تدل على فكرتي الوعي والسعي، الملازمتين للمسافات؛ وبالطبع للعلاقات. وهذا بدوره يزاحم الأفكار التي لا ترى في العلاقات إلا سلوكاتٍ جبريةٍ لا يمكن للإنسان السيطرة عليها. أي أنّ الإنسان بمقدوره تحديد علاقاته وضبطها والتحكم بها.
وختامًا فلنتذكر على الدوام بأن الإنسان أضعف من أن يبقى في وحدة، وأوحش من أن يبقى في كثرة. حاله حال شمع الحفل كما برع محمد إقبال في وصفه ذات مرّة حين قال: “مثل شمع الحفل.. في الحفل: وحيد ورفيق”(27) وتبقى الكلمة التي قالها أونوريه دي بلزاك تلخيصًا جامعًا لطبيعة الإنسان المترددة بين الوحشة والأنس وبين العزلة والألفة: “العزلة أمر جيد ولكنك تحتاج لشخص ما لتخبره بأن العزلة جيدة”.(28)
المصدر : الجزيرة .