يشير الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي إلى أن الناس قد أدركوا منذ القدم أن العدم هو أساس الوصل بين الزمان والخلق .والخلافات بين الناس حول فهم العدم يمكن أن نرجعها إلى رأيين اثنين : الأول هو رأي فلاسفة اليونان . والثاني هو رأي رجال الدين ، أمّا فلاسفة اليونان فقد ذهبوا الى أن ” العدم ليس معناها الخلو من كل وجود على أي نحو، بل هو اللاوجود بمعنى عدم التعيُّّن ، فالهيولى الخالية من الصورة هي اللاوجود ، وحالها هذه عابرة ، لأنها حال انتقال بين صورة تزول وأخرى تحل ، والخلق تبعاً لهذا هو الانتقال من حالة التعيُّن بصورة ، بالنسبة الى الهيولى ، الى رحلة الأخذ بصورة ما ، أي التغيّر بالمعنى العام ” 1
وهنا لا بد أن يقال : إن التغيُّر – أي تغيُّر – يتوجب أن يكون بين حالتين أو طرفين يتعاقبان , على موضوع غير محدد أو غير معيّن وهذا يقتضي ألا يتم التغيُّر إذا كان جارياً بين وجودٍ أو لا وجود أو عدم , بل يتوجّب أن يكون التغيُّر سارياً من وجودٍ إلى وجودٍ آخر . فالتغيُّر لا يتم إذا لم يقيّض له أن يكون انبثاقه من نقطة بَدْء وجوديّة .
وهذا كلام دقيق يفضي بنا إلى التأكيد على أنه إذا سلمنا بأن الخلق تغيُّر , أي نقل مادة من حال عدم تشكُّلها إلى حال تشكلها توجب علينا ألا نفهم نقل أو انتقال هذه المادة بوصفِه انتقالاً من العدم الصِرْف إلى الوجود , لأنا سوف نفتقر في هذه الحالة إلى نقطة البَدْء الوجوديّة اللازمة لانطلاق التغيُّر وبالتعويل على هذا الوعي بالأمور قال الفلاسفة إن العدم لا يمكن أن يكون أساساً لحدوث الأشياء ولا يمكن أن يتم خلق شيء من المعدوم .
” وعلى العكس من هذا نرى النظرة الدينية تقول إن الخلق , أو على الأقل فعل الخلق الأول الذي أوجد به الله الوجود و يتم من العدم إلى الوجود , العدم المطلق النافي لكلّ وجود , على أي نحو كان هذا الوجود . وتبعاً لهذا تقول بعكس النظرة الفلسفية القديمة ( اليونانية ) , إن كل ما خلق فقد خلق عن العدم أوَّل الخلق على الأقل ” 2
ويوجه بدوي نقدا عنيفا لكل من النظريتين حول العدم ( = الفلسفية والدينية ) مشيراً إلى النظريتين قد ربطتا الخلق بالزمان , فالنظرة الفلسفية تؤكد على أزلية الزمان انطلاقاً من كون التغير أزلياً . والنظرة الدينية اعتبرت أن الزمان مخلوقٌ , لأن التغيُّر (= الحركة )مخلوقٌ أو حادثٌ ونبّه بدوي إلى أن ربط النظرتين للخلق بالزمان هو ربط ظاهريٌّ أو خارجيٌّ لا يدلُّ على الصلة الصميمية التي تربط بين الزمان والتغيُّر (= الحركة , الخلق ) فالزمان تَبْعٌ لفعل الخلق باعتبار أنه قَيْس الحركةِ الأزلية كما يرى فلاسفة اليونان أو قيس الحركة الحادثة كما يرى رجال الدين .
وتجدر الإشارة إلى أن كلا من النظرتين لم يبيّن معنى العدم من حيث هو ما هو . وتعتبر النظرة الدينية أقل قدرة على اكتناه معنى العدم وكل ما تطرقت له في هذا السياق هو المعدوم لا العدم , والمعدوم هو الأشياء الخاضعة لحالة العدم . والناظر في علم الكلام الإسلامي سوف يجد مشكلة المعدوم وقد أخذت بعداً هاما ً : فقد تمَّ طرح السؤال بالنسبة لعلماء الكلام المسلمين حول إذا ما كان المعدومُ شيئاً أو ليس بشيء . وترتد مشكلة المعدوم أصلاً إلى مشكلة العلاقة بين الوجود والماهيّة : ” فمن قال إن الوجود غير الماهية , أمكنه تصور الماهية غير موجودة وسماها في هذه الحال بالمعدومة , أي غير المتحققة في الوجود أو بالوجود بعدُ , ومن قال إن الوجود عين الماهية , قال عن المعدوم ليس بشيء . فالمعتزلة , وهم الذين قالوا بالرأي الأول . ذهب أكثر شيوخها إلى أن الماهيات والذوات أشياءٌ في حالتي وجودها وعدمها , بينما ذهب أبو الهذيل وأبو الحسين البصري ( من المعتزلة ) والأشاعرة إلى أن المعدوم ليس بشيء ” 3
وبالجملة ما أكد عليه أبو الهذيل وأبو الحسين البصري والأشاعرة هو أن المعدوم قبل الوجود بمعنى أنه نفي محض وعدم صرف ليس بشيء ولا بذات .
وينبه عبد الرحمن بدوي على أن هذا ليس بحثا في العدم من حيث هو ما هو وإنما هو بحث في الأشياء في حال عدمها وثمَّ فرقٌ كبير بين الأمرين . ولما كان الوضع على هذا النحو , فإنَّ علماء الكلام المسلمين لم يدركوا أنه إذا كان الله يخلق من العدم , فهذا يعني أنَّ بين الله والعدم صلة معينة , بيد أن الله وهو المطلق الكامل الذي من غير الممكن أن يكون مشوباً بالنقص من المستحيل أن يعرف العدم على الإطلاق .ومعنى هذا الكلام هو انه إذا كان الخالق أو الله يخلق الكائنات من العدم , فهذا يدل على أن الله يعرف العدم , إذا كان هذا هكذا , فإنه دليل على وجود نقص في الله . ولما كان الله كاملاً كمالاً مطلقاً, فهو لا يقارب العدم أبداً ولا يعرفه وبالتالي هو لا يخلق من العدم .
هوامش :
1- عبد الرحمن بدوي ,. الزمان الوجودي , ط 3 . بيروت دار الثقافة , 1973 , ص 222 وينبغي التنبيه إلى أن بدوي نشر هذا الكتاب سنة 1945 أي عندما كان في الثامنة والعشرين من العمر علماً أن بدوي من مواليد 1917 ويمكن أن يكون قد وضع صياغته النهائية وهو في السادسة والعشرين .
2- عبد الرحمن بدوي , الزمان الوجودي . ص 222 .
3- عبد الرحمن بدوي . الزمان الوجودي . ص 223 .
مقطع من كتاب التحليل الأنطولوجي للعدم لـ علي محمد اسبر الصادر عن دار بدايات للنشر سوريا – جبله .