°
, April 25, 2024 in
آخر الأخبار
قضايا

“الدولة المدنية” – تلفيق فكري وتلبيس سياسي – جاد الكريم الجباعي

في التعريف: الدولة المدنية “مصطلح”، بل شعار، محلي، حديث النشأة، لا ينتمي إلى العلوم السياسية أو الفلسفة السياسية، (الفلسفة المدنية)، أو علم الحقوق. استعمله الإسلاميون، بعد ثورة تموز / يوليو في مصر

عام 1952، في معارضة الحكم العسكري، على أنه تعبير عن “حقيقة الدولة الإسلامية”. وتكرر ذلك على نطاق واسع مع ما سمي “الصحوة الإسلامية”، في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته. ويستعمله بعض “العلمانيين” للدلالة على الدولة الوطنية الحديثة، التي يستقل فيها مجال السياسة عن مجال الدين. فهو بذلك من الأضداد التي تدل على الشيء ونقيضه، حسب المتكلم، وهذا مخالف لطبيعة المفاهيم والمصطلحات. ومع ذلك، سأشير إليه بكلمة مصطلح وأحصرها بين مزدوجين احتراماً لحق أصحابه في التسمية والتعريف.

 

1 – في نقد التلفيق

الجدال الدائر اليوم حول “الدولة المدنية” في غير مكان ليس جدالاً في الفلسفة المدنية أو في علم السياسة أو القانون، بل هو جدال سياسي، بالمعنى الضيق والسطحي للكلمة، كذلك الذي درجنا عليه منذ عقود، والذي يهدف إلى تبرير الذات وإفحام الخصم أو إحراجه، ويخفي تحته مصالح اجتماعية سياسية خاصة، لا نجادل في مشروعيتها، بل في إمكان اندراجها أو عدم اندراجها في مصلحة وطنية عامة. ولا نغالي إذا قلنا إن هذا النوع من الجدال صيغة مراوغة من صيغعلاقة الذات الفردية / الجمعية بالآخر المختلف. وقد كانت على الدوام علاقة تضاد وتفاصل وتفاضل، حتى قيام الثورات الشعبية، التي هي، من بعض جوانبها ومن أهمها، كما نأمل، ثورة على الحواجز الإثنية والدينية والمذهبية القائمة بين فئات المجتمع، والتي استثمرتها السلطات الشمولية المستبدة لإدامة استبدادها، وفق القاعدة الشهيرة: “فرق تسد”. فإن الثورة على هذه الحواجز هي من أبرز معاني الثورة على الاستبداد والتسلط، ثورة لا تكتمل إلا بدحض فكر الاستبداد وثقافته وقيمه.

فمن أهم ما أفصحت عنه الثورات الشعبية، في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، على اختلاف ظروفها وملابساتها، هو الإجماع الأولي على الدولة الوطنية، أو على إعادة بناء الدولة على مبدأ المواطنة، بثلاثة أركانها: المساواة والحرية والمشاركة أو الاشتراك الحر في الشؤون العامة وفي حياة الدولة. والإجماع لا ينعقد في أي مجتمع إلا على الدولة، التي تزيل الحواجز والمتاريس، وتبني الجسور، لا على السلطة التي من طبيعتها أنها مزدوجة: عامة بعمومية الدولة، وخاصة، لأن الحزب الذي يحظى بأكثرية أصوات الناخبين هو من يتولى دفة الحكم، في المؤسسة التشريعية، ويؤلف الحكومة.

بيد أن فكرة الدولة الوطنية الحديثة (دولة جميع المواطنين) وما يتصل بها ويقع في حقلها من مفاهيم ومقولات كانت غائبة عن الثقافة السياسية على مدى نصف قرن، تآكلت في خلاله الثقافة الوطنية مع تآكل الدولة، التي نشأت في العهد الليبرالي، أو ضمور طابعها الوطني، العام. وتحولت الثقافة إلى ثقافة محلوية ودعاية وإعلام، كما تحول الفكر إلى أيديولوجيا. ما أسفر عن التباس مفهوم الدولة بمفهوم السلطة، من جهة، ومفهوم الحكم أو نظام الحكم من جهة أخرى. وهو التباس يمكن إدراكه بوضوح في الخطاب السياسي للسلطة والمعارضة على السواء.

فالسلطة الشمولية في سورية، على سبيل المثال، غدت سلطة البعث، ودولة البعث، ونظام البعث (نظام الديمقراطية الشعبية والحزب القائد)؛ السلطة والدولة ونظام الحكم تدل كلها على شيء واحد ومعنى واحد، يجسده شخص “القائد الرمز”، حتى أن سورية سميت “سورية الأسد”. أساس هذا الالتباس أو الاختلاط هو اندماج الحزب القائد والسلطة والدولة ونظام الحكم في بنية شمولية هجينة، تتقاطع، في خصائصها العامة، مع الاستبداد المنبعث من جوف التاريخ من جهة، في صيغة استبداد محدث، ومع النازية والفاشية والستالينية من جهة أخرى، وتبدي، بحكم هذا الاندماج، وجوهاً متناقضة، يبدو بعضها “حديثاً”.

إذا كان الالتباس ابن شروط موضوعية أشرنا إليها، وابن شروط ذاتية تتعلق برؤية الأيديولوجيات الكبرى للدولة وموقفها منها، فإن هذا الالتباس لم يعد مقبولاً بعد تغيُّر الشروط وعودة المجتمع إلى السياسة وعودة الأفراد أحراراً إلى مسرح التاريخ. فالثورة، في أعمق معانيها، خروج وظهور؛ خروج من السديمية والاختلاط والعماء إلى التميُّز والوضوح، وظهور من الخفاء إلى الجلاء، ومن المجهول إلى المعلوم، ومن الإمكان إلى الواقع، شأنها في ذلك شأن الحرية، كما تتجلى في المعرفة والعمل والحب، وهذه كلها ذات طابع مزدوج وتناقضي: فردي واجتماعي. فهي بهذا المعنى ثورة الحرية لا ثورة تنشد الحرية[1]. فلا يسوغ أن يكون خطابها ملتبساً، يقول الشيء ونقيضه في وقت واحد. مع أن الثورة لا تقول، بل تكون. الذين يقولون هم من يريدون توجيهها هذه الوجهة أو تلك لخدمة مصالح معلومة وأهداف معلنة ومضمرة.

 

من ذلك أن يقول ممثلو تيارات فكرية وسياسية مختلفة: نريد “دولة مدنية”، ويعني كل منهم بالدولة المدنية معنى مغايراً، بل مناقضاً لما يعنيه الآخرون، ما يعني أن “مصطلح” الدولة المدنية يخفي تحت الاتفاق عليه خلافات مؤجلة ليست قليلة الشأن، رأينا مظاهرها في مصر وتونس بعد نجاح الثورة في كل منهما في إسقاط رأس السلطة. يتعلق الأمر، هنا، بمعنى الاتفاق، في الذهنية التقليدية، على أنه اتفاق المتفقين على كل شيء والمتشابهين في كل شيء (صلحة عرب)، الذي لا يلبث أن ينفضَّ، ويتحول إلى عداوة لدى أول خلاف، ولو على قضية جزئية، لا اتفاق المختلفين الذين يدرك كل منهم حدود اختلافه وحدود اتفاقه مع الآخرين[2]، ويدافع عن حقوق الآخرين وحريتهم دفاعَه عن حقوقه وحريته.

ودفعاً لأي سوء فهم أو سوء تفاهم، لا تذهب هذه المداخلة إلى مصادرة حق من ينادون بالدولة الإسلامية صراحة أو مداورة في إعلان دعوتهم والعمل في سبيل تحقيقها بالوسائل السلمية والأساليب الديمقراطية، أسوة بحق من ينادون بالدولة الوطنية الديمقراطية، ويعملون في سبيل تحقيقها، أو من ينادون بالدولة الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية. فليس من حق الفرد كائناً من كان، وليس من حق أي جماعة، أن يقرر أو تقرر في شأن لا يجوز أن يقرره سوى الشعب بإرادته الحرة. وليس من حق أي فرد أو جماعة أن يدعي أو تدعي التكلم باسم الشعب أو النيابة عنه. بل إن هذه المداخلة تذهب إلى نقد شعار ملتبس يخفي تحته ما يخفي من تلفيق وتلبيس وتكاذب سياسي وأخلاقي، ولا سيما من قبل بعض “العلمانيين”. فما زلت أعتقد أن الديمقراطية، في أعمق معانيها، هي حقوق الآخر أولاً، وحرية الآخر أولاً. ولا يخفى على القارئ أن كل فرد إنساني هو (أنا) و(آخر) في الوقت نفسه، فضلاَ عن كونه أنثى وذكراً في الوقت نفسه، وكذلك كل ذات جمعية.

الجدال الدائر حول “الدولة المدنية”، جدال حول صفة (المدنية) لا حول الموصوف (الدولة)، فلو كلف أحدهم نفسه مشقة تعرُّف ما هي الدولة وكيفية نشوئها وارتباطها بالحداثة واقترانها بها، أو تعريفها وتعيين مبادئها وحدودها واقترانها بالمجتمع المدني والشعب والأمة الحديثة والوطن والمواطنة والتشارك الحر ومنظومة الحقوق المدنية والسياسية والحريات الخاصة والعامة والواجبات المدنية والمسؤوليات القانونية المتساوية .. لاتخذ الجدال منحى مختلفاً، وتحول إلى نقاش، الحَكَم الفصل فيه هو العقل، لا النقل ولا العصبيات. ولكنه، كأي جدال من هذا النوع، يسفر عن ثلاثة مواقف تأويلية: الرفض التام، والقبول التام، والتوفيق بين هذا وذاك.

 

وإذ يوصف الموقفان الأول والثاني بالتطرف (الإسلامي أو العلماني)، يوصف الثالث بالاعتدال، والواقع خلاف ذلك. لأن المنظومات الأيديولوجية، التلفيقية، كأيديولوجية البعث والأخوان المسلمين لا تقل تطرفاً وانغلاقاً عن المنظومات السلفية والأصولية، الإسلامية منها والاشتراكية الماركسية، لأن التلفيق هو تبني فكرتين متناقضتين، كالحداثة والتقليد، والديمقراطية والشورى، والعروبة والإسلام، والعقل والنقل، والعلم والإيمان …، يغرف الخطاب من إحداهما دون الأخرى، حسب مقتضى الحال، أو تتجاوران تجاوراً في الخطاب نفسه فيبدو متناقضاً ومتهافتاً. وهذا لا يحتاج إلى برهان أكثر من برهان التجربة المعيشة هنا وهناك. التلفيق ضرب من ضروب التحايل والمكر في الفكر والسياسة على السواء[3].

لم يتحقق العدل والاعتدال في التاريخ الواقعي إلا في صيغتين متلازمتين، هما من أبرز منجزات الحداثة، التي باتت محرزاً إنسانياً عاماً: أولاهما تساوي البشر ذكوراً وإناثاً في الكرامة الإنسانية. والثانية تساوي المواطنين، والمواطنات بالطبع، في الحقوق والواجبات والكرامة الوطنية، في نطاق الدولة الوطنية الحديثة، على الرغم من العيوب والتشوهات ونقص المبدأ هنا وهناك، لأن الحداثة لم تبرأ من ماضيها برءاً تاماً، ولأن الحرب لا تزال ثاوية في ثنايا الحياة الاجتماعية والسياسية بصور شتى، وتتنافس الدول في إنتاج أدواتها. “المساواة هي الصيغة الواقعية للعدالة”؛ والاعتدال أحد فضائل الديمقراطية التي لا تقوم إلا على مبدأ المواطنة، قبل أن تكون، ولكي تكون حكم الأكثرية السياسية؛ فأين الأيديولوجيات الشمولية والسلطات الشمولية من العدل والاعتدال؟!

إن ما يجعل محاولة التأصيل عملية تلفيق أن كلمة (دولة) في اللغة العربية والثقافة العربية التقليدية والتراث العربي الإسلامي لا تدل على المعنى المتداول اليوم في الفكر الإنساني المعاصر لكلمة دولة (etatأو state). وكذلك الكلمات المرادفة لها في الثقافة التقليدية والتراث، كالخلافة والإمارة والسلطنة والملك والحكم والأمر. فليس في لغتنا وثقافتنا التقليدية وتراثنا لا مفهوم الدولة ولا نظرية الدولة، ولم نعش تجربة الدولة، كما يقول عبد الله العروي. بل لدينا “سياسة سلطانية” و”أحكام سلطانية” و”آداب سلطانية”، هي كل عدتنا الثقافية والأخلاقية يسميها التلفيق سياسة مدنية وآداباً مدنية ودولة مدنية وحكومة مدنية. صفة المدنية في هذا السياق ترادف صفة الشرعية، نسبة إلى الشرع الإسلامي. السلطانية المحدثة هي ما وصفناه بالاستبداد المنبعث من جوف التاريخ.

ولا بد، هنا، من الإشارة إلى أمرين: أولهما أن هذا التلفيق بدأه الإمام محمد عبده حينما أضفى صفة “الشرعية الإسلامية” على الدولة الدستورية الحديثة وما يتصل بها في قوله، بعد زيارة فرنسا: وجدت هناك الإسلام ولم أجد المسلمين، ما يعني أن المدنية بجميع منطوياتها هي حقيقة “الإسلام”[4]. ولا يخفى على القارئ أن في هذا القول تأويلاً للإسلام، على نحو يتسق مع مقتضيات المدنية وحقائق العصر الحديث. وبهذا التأويل عُدَّ محمد عبده من كبار المصلحين. ولكن إصلاح محمد عبده ما لبث أن انحسر، وظلت دعوته على هامش “الحياة الإسلامية” و”الثقافة الإسلامية” تتداولها نخبة مستنيرة. وخرجت من تحت عباءته، في الوقت ذاته، جماعات سلفية وأصولية ما أنزل الله بها من سلطان، استندت في تأويلاتها للإسلام على أفكار رشيد رضا وحسن البنا، مؤسس جماعة الأخوان المسلمين في الإسماعيلية بمصر عام 1926. فإن خروج هذه الجماعات من تحت عباءة الشيخ الإمام يكشف عما يمكن أن يفضي إليه التلفيق. والثاني أن هذا التلفيق الذي ينسل الإسلام من سياقه التاريخي، كما تنسل الشعرة من العجين، يرمي إلى إخفاء الاستبداد الذي وسم التاريخ “العربي الإسلامي” و”التاريخ الإسلامي” أو تبرئة الإسلام منه، على نحو ما يبرئ معظم الماركسيين اليوم الماركسية من تجربة الاتحاد السوفييتي السابق، اللينينية / الستالينية، إذ يزعمون أن المشكلة ليست في الماركسية، بل في التطبيق الخاطئ، وكذلك يفعل القوميون إزاء أيديولوجيتهم “القومية”، العرقية، ذات المحتوى الإسلامي.

2 – في “تأصيل” الدولة المدنية

المفكرون الإسلاميون، منذ أيام حسن البنا، ثم سيد قطب، إلى يومنا، هم من عملوا على “تأصيل” المصطلح وبسط معانيه وتعيين حدوده[5]، انطلاقاً من افتراض أن “الدولة الإسلامية” لم تكن دولة دينية في يوم من الأيام، بل كانت وستظل “دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية”، فأسقطوا مفهوم الدولة الحديث على نظام حكم إسلامي نواته ونموذجه ما يسمونها “دولة المدينة”، التي أسسها النبي بعيد هجرته إلى الطائف (المدينة المنورة)، وعدُّوا (الصحيفة) بمنزلة دستور تلك الدولة[6]، وأولوا الإسلام على أنه “دين ودنيا ودولة وجنسية .. مصحف وسيف”، بتعبير حسن البنا، مؤسس جماعة الأخوان المسلمين، وأولوا عهد الخلفاء الراشدين على أنه نموذج العدل والحرية والمساواة[7]. والراجح أن سيد قطب أول من عمل على تأصيل هذا “المصطلح” متأثراً في ذلك بأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي. هنا لا بد من ملاحظة أمرين أساسيين:

أولهما أن مفهوم الدولة، (الحديث)، الذي لم يكن معروفاً في ثقافة العرب المسلمين وتراثهم، ولم يكن معروفاً في الفكر السياسي الغربي قبل القرن السادس عشر الميلادي، لا ينطبق على أي نظام من أنظمة الحكم في العصور القديمة والوسطى، بما فيها النظام “الإسلامي”، نظام الخلافة أو السلطنة أو الإمارة، وبما فيها المدينة / الدولة عند اليونان وغيرهم، قبل ذلك، لأن حقوق المواطنة في المدينة / الدولة كانت مقصورة على الأحرار دون العبيد وعلى الرجال دون النساء. ومن البديهي أن المواطنة لم تكن معروفة في النظام الإسلامي الذي قام على الفتح والاستلحاق والغنم والاسترقاق وامتياز المسلمين على غير المسلمين والعرب على غير العرب .. فإن الحديث عن “دولة إسلامية” في الماضي أو المستقبل هو من قبيل إسقاط مفهوم حديث باتت دلالته واضحة لدى مختلف الشعوب على نظام حكم إسلامي متخيَّل أو منشود، لم يقم في الماضي على مبدأ المواطنة، ولا يمكن أن يقوم على هذا المبدأ في المستقبل ويظل إسلامياً. فضلاً عن التناقض، بل التضاد بين الموصوف (الدولة) والصفة (الإسلامية)، إذ الدولة فضاء وطني عام مشترك بين المسلمين وغير المسلمين وبين العرب وغير العرب، والإسلام فضاء خاص بالمسلمين السنة أو الشيعة، حسب المتكلم، والخاص لا يحدد العام، بل ينحدُّ ويتحدَّد به. لا يمانع الكاتب، ولا يتوجس من أن يؤلف إسلاميون حكومة في المستقبل، وفق مبدأ الانتخاب الحر وتداول السلطة سلماً، ولكنه يمانع أسلمة الدولة ويتوجس منها شراً. ولا يرى أن أسلمة الدولة تختلف في شيء عن تبعيثها (دولة البعث) الذي هو أساس ما تعاني منه أكثرية الشعب.

والثاني أن الدين الروحي، بوجه عام، والدين الإسلامي، بوجه خاص، لم يتجسد بالفعل، لا في النظام الاجتماعي ولا في نظام الحكم الذي يوصف بالإسلامي[8]. أعني أن القيم الإنسانية، الأخلاقية والروحية، التي لا يخلو منها أي دين أو مذهب، كالحرية والمساواة والعدالة، وحقوق الإنسان … هذه القيم الإنسانية لم تتجسد واقعياً في النظم الاجتماعية والسياسية قبل العصر الحديث، ومن جسدها هم العلمانيون الديمقراطيون لا التيوقراطيون ورجال الدين. فما على مؤسسات الدين الوضعي سوى إعادة اكتشاف الدين الروحي في القيم الإنسانية التي تتبناها المجتمعات الحديثة، لا حكوماتها. ومن هنا يجب التفريق دوماً بين الدين الروحي، الإنساني، أو الذي يسري فيه روح إنساني قابل للتحقق في الواقع، وبين الدين الوضعي المغلق على كراهية الآخر وإقصائه وإحلال دمه وعرضه وماله، وما الحروب الدينية والطائفية في الماضي والحاضر هنا وهناك سوى دليل ساطع على همجية الدين الوضعي وفتاوى المفتين وأحكام الفقهاء ووعاظ السلاطين. الدين الوضعي ظهير للاستبداد في كل مكان وزمان، بحكم بنيته ووظيفته.

 

فالدولة المدنية (ذات المرجعية الإسلامية) هي إحدى ركائز الفكر السياسي للإخوان المسلمين ومن يرى رأيهم من الإسلاميين المعتدلين[9]. ويخالفهم في ذلك سلفيون وأصوليون وجهاديون يشككون في إسلامهم، ولا يحسنون الظن بسياساتهم، وليس لنا أي اعتراض على خيارات هؤلاء وأولئك، فلا نقاش في الخيارات والرهانات. لكن ما يلفت النظر هو تبني هذا المصطلح (الخاص) من قبل علمانيين مختلفي المشارب، مسلمين وغير مسلمين، مما يثير التوجس والريبة في استبدال مصطلح الدولة المدنية الظرفي والخاص بمفهوم الدولة الوطنية الحديثة المضبوط علمياً وفلسفياً والمحدد سياسياً وقانونياً وأخلاقياً، وتتفق البشرية المعاصرة على دلالاته الأساسية.

التخليط والتلبيس في شعار “الدولة المدنية” قائم أساساً على تخليط وتلبيس في المفاهيم الآتية، المرتبطة بمفهوم الدولة الحديثة، وفقاً للتلفيق الذي أشرنا إليه:

آ – مفهوم الهوية: الهوية عند الإسلاميين، هي “الإسلام”، حسب المتكلم سنياً كان أم شيعياً، (“الإسلام جنسية”، حسب حسن البنا، و”الإسلام هوية”، حسب بعض أصحابنا السوريين). وهي العروبة عند القوميين. فهي في الحالين هوية عنصرية طاردة أو نابذة ونافية وإقصائية، مقابل الهوية السياسية أو الهوية الوطنية التي يستمدها الفرد من كونه مواطناً شريكاً في الوطن وعضواً في الدولة الوطنية، كالهوية السورية أو المصرية أو اللبنانية، التي لا تنفي إسلامية المسلم ومسيحية المسيحي وعروبة العربي وكوردية الكوردي … صحيح أن هوية الفرد هي ما ينتجه على الصعيدين المادي والروحي بصفته عضواً في مجتمع، وأنها من ثم جميع محمولاته وتحديداته الذاتية، ولكن هويته السياسية حصراً لا تتأتى إلا من كونه عضواً في المجتمع المدني والدولة الوطنية بالتلازم، وهي هنا مرادفة للجنسية. الهوية السياسية لا تنفي أياً من محمولات الفرد وتحديداته الذاتية، بل تطبعها بطابعها وتمنحها محتوى وطنياً. الهوية الوطنية في اعتقادنا تعلو على الهوية الاجتماعية، الطبقية، والثقافية والإثنية والدينية والمذهبية .. وتطبعها بطابعها، ومن البديهي أنها لا تنفي لا الانتماءات والمواقع الطبقية ولا الاتجاهات الفكرية والثقافية ولا الانتماءات الإثنية والدينية والمذهبية للأفراد والجماعات، بل تنفي أن تنتج من هذه جميعاً نتائج سياسية، تتعارض مع عمومية الدولة. الهوية الوطنية لا تتحدد بأي شرط مسبق من هذه الشروط، لأنها مستمدة من الدولة الوطنية ليس غير.

ب – مفهوم الأمة: الأمة عند الإسلاميين هي “الأمة الإسلامية”، النقية دينياً، حسب المتكلم أيضاً، فحيثما ترد كلمة (أمة) في الخطابات الإسلامية والفكر الإسلامي يقصد بها الأمة الإسلامية التي أسسها النبي محمد، حسب تعبير العروي. وهي “الأمة العربية” النقية عرقياً ولغوياً عند القوميين، ولا يخفى تداخل مقولتي الأمة العربية والأمة الإسلامية، بحكم تداخل العروبة والإسلام. فلمفهوم الأمة في خطاب الدولة المدنية دلالة دينية، بل مذهبية، إسلامية أو عرقية، في مقابل الأمة بصفتها جماعة سياسية وأخلاقية هي مضمون الدولة وقوامها وأساسها وعمادها، يتساوى في عضويتها، أي في عضوية الأمة، المسلم وغير المسلم والمؤمن وغير المؤمن والعربي وغير العربي، ولهذا توصف الدولة الوطنية بأنها الدولة / الأمة، ودولة الشعب.

الأمة فضاء ثقافي وأخلاقي مشترك بين جميع أفرادها الذين هم أعضاء في الدولة / الأمة أو الدولة الوطنية أو القومية، ولا فرق. فإن مفهوم الأمة الحديثة لا ينفصل عن مفهوم الدولة الحديثة، فلا أمة بلا دولة ولا دولة بلا أمة. الأمة الحديثة كالدولة الحديثة تقوم على مبدأ المواطنة وتتقاطع مع مفهوم الشعب بصفته مفهوماً سياسياً، وتتجسد بالفعل في المجتمع المدني. الأمة هي المعادل الثقافي والأخلاقي للمجتمع المدني، والشعب هو المعادل السياسي للمجتمع المدني والأمة على السواء.

ج – مفهوم الشعب: ينحل مفهوم الشعب في مفهوم “الأمة الإسلامية” عند الإسلاميين، وفي مفهوم “الأمة العربية” عند القوميين. فكرة الشعب ليست من مفردات الفكر السياسي لدى الإسلاميين والقوميين على السواء، وإن صاروا يتحدثون على مضض عن شعوب إسلامية وشعوب عربية. ولا يزال القوميون خاصة متشبثين بفكرة “الشعب العربي” المرادفة لفكرة “الأمة العربية”. فكرة الأمة أثيرة عند الإسلاميين وتعني دوماً “الأمة الإسلامية” وإن لم توصف بهذه الصفة. الإسلاميون يخرجون غير المسلمين من دائرة الأمة ودائرة الشعب، والقوميون يخرجون غير العرب.

د – مفهوم السيادة: السيادة، عند الإسلاميين، هي “حاكمية الله”[10] أو “ولاية الفقيه”، حسب المتكلم، وسيادة العرب على غير العرب عند القوميين تأويلاً لسيادة الأمة، كما سبق وصفها، مقابل سيادة الأمة الحديثة على نفسها، كما تتجلى في سيادة الدولة، التي هي سيادة عليا مطلقة وثابتة ودائمة، لا تتجزأ ولا تفوَّض، ومقابل سيادة الشعب، أي انبثاق السلطة عن الشعب بالانتخاب الحر.

هـ – مفهوم الشرعية: الشرعية كالسيادة في العموم والإطلاق والوحدانية والثبوت والسمو، لأن صاحب السيادة هو مصدر الشرعية. فحين تكون السيادة مرادفة لحاكمية الله، أو ولاية الفقيه، في خطاب الدولة المدنية، تكون الشرعية “إسلامية”، حسب المتكلم، عند الإسلاميين، تستمد من صاحب السيادة، أي من الله. وتكون “قومية” تستمد من الأيديولوجية القومية عند القوميين، أو “ثورية” تستمد من الماركسية اللينينية عند الاشتراكيين. في مقابل الشرعية المستمدة من الأمة أو من الشعب، صاحب السيادة، بوصفه مصدراً وحيداً للشرعية ومصدراً لجميع السلطات.

 

و – مفهوم المواطنة: لما كانت المواطنة منظومة حقوق مدنية وسياسية وحريات شخصية وعامة وواجبات مدنية والتزامات قانونية متساوية، ومشاركة في حياة الدولة ومؤسساتها، فإن معنى الهوية ومعاني الأمة والشعب والسيادة والشرعية، في خطاب الدولة المدنية، عند القوميين والإسلاميين على السواء تنفي مبدأ المواطنة نفياً قاطعاً. والمواطنة المؤسسة على تساوي البشر إناثاً وذكوراً في الكرامة الإنسانية تنفي نفياً قاطعاً مفاهيم أهل الذمة وأهل الكتاب والأعاجم والموالي وما إليها، وتنفي مفاهيم الولاية والوصاية والقوامة، وتنفي أي سلطة على وجدان الفرد وعقله وضميره وجسده سوى سلطته على نفسه، وهذه في جانب منها سلطة القانون، وهي سلطة نهي لا سلطة أمر، الفرد حر في أن يطيعها أو لا يطيعها، ويتحمل مسؤولية اختياره. المواطنة هي ما يقتضي قانوناً مدنياً، وضعياً، يسري على جميع المواطنين بالتساوي وبلا استثناء، ويكفل حق أي مواطنة أو مواطن في تسلم رئاسة الجمهورية، إذا توافرت فيها أو فيه الشروط القانونية، فضلاً عن الحق في المشاركة في السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية على اختلاف مراتبها، وفقاً للكفاءة والجدارة والاستحقاق. الإسلاميون يرفضون ولاية المرأة وولاية غير المسلم، والقوميون يأنفون من ولاية غير العربي لدنو منزلته. لا يمكننا إلا أن نشك في معنى “المواطنة” ودعاوى المساواة والحرية والعدالة في خطاب الدولة المدنية، في ضوء ما تقدم.

ز – مفهوم المجتمع المدني، مجتمع الأعمال الخاصة والتنظيمات الطوعية والتطوعية، غير الحكومية، الملازم للدولة الحديثة، والذي تسكت عنه جميع محايلات القائلين بالدولة المدنية وتأويلاتهم، ويعارضونه بالمجتمع الأهلي العزيز على قلوبهم، والذي لا يعدو كونه تراصف جماعات إثنية ودينية ومذهبية مغلقة ومتحاجزة ومتفاصلة كالزيت والماء، ولا يشكل مجموعها أمة أو شعباً، ولا تنتج من علاقاتها المتبادلة دولة. المجتمع المدني هو ميدان الاختلاف والتفاوت والتعدد والتنوع والتنافس، وهو فضاء الحرية الذاتية و”مسرح التاريخ الواقعي”، بإزاء الدولة، مناط الوحدة الوطنية و”مملكة القوانين” العامة التي تسري على جميع المواطنين بلا استثناء ولا تمييز. فلا دولة حديثة بلا مجتمع مدني هو الذي ينتجها ويعيد إنتاجها مرة تلو مرة. المجتمع المدني والدولة الوطنية حدان في كلية عينية أو وحدة تناقضية لا يقوم أحدهما ألا بالآخر ولا ينتفي إلا بانتفائه.

إن غياب فكرة المجتمع المدني وتغييبها عن الفكر السياسي للإسلاميين والقوميين والاشتراكيين أيضاً ذات مغزى عميق، هو معارضة التنظيمات المجتمعية، غير الحكومية، المستقلة عن السلطة، كالنقابات والأحزاب السياسية وجمعيات النفع العام الطوعية والتطوعية، والتي تضم في عضويتها مسلمين وغير مسلمين وعرب وغير عرب على قدم المساواة، وتتحدد بناها بوظائفها ليس غير، وتُعَدُّ، أينما وجدت، رافعة أساسية من روافع الاندماج الوطني وتشَكُّل الأمة الحديثة التي لا تعباً بأصول أفرادها الإثنية وعقائدهم الدينية واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، فضلاً عن ميل إلى السيطرة على مجالات الحياة الاجتماعية واحتكار السلطة والثروة ومصادر القوة، خبرناه على مدى عقود، عندنا وعند غيرنا. على هذا الأساس نفهم ولع الإسلاميين والقوميين بالمجتمع الأهلي. وعلى الأساس نفسه نفهم سيطرة السلطات الشمولية على منظمات المجتمع المدني، وإلغاء وظائفها الأصلية، واختراقها وتحويلها إلى بنى موازية لبنى السلطة.

يمكن أن نستخلص مما تقدم أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين ما يسمى الدولة المدنية وبين المجتمع الأهلي، بما هو تجاور أو تراصف جماعات إثنية ودينية ومذهبية تحرص كل منها على تماسكها الداخلي واستقلالها الاجتماعي وتمايزها عما سواها، وتحرص في الوقت ذاته أشد الحرص على أن تكون لها حصتها في السلطة والثروة، بنسبة ما تتوفر عليه من قوة مادية ومعنوية. إن مثالي لبنان والعراق يبينان بوضوح أن الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية تقف دوماً ضد مشروع الدولة الوطنية الحديثة. وهذا يعني أن العلاقات المتبادلة بين هذه الجماعات تولد علاقات سلطة مشحونة بالتنابذ والتوتر والعنف، لأنها قائمة على مبدأ الغلبة و”حق الأقوى”، ما يجعل توافق القوى وتعايشها مؤقتاً، وأقرب ما يكون إلى هدنة بين حربين أهليتين.

لذلك كنا نؤكد دوماً أن جمعاً حسابياً من عائلات ممتدة وعشائر وقبائل ذات أصول أثنية مختلفة وتدين بديانات ومذاهب مختلفة لا يشكل شعباً ولا أمة ولا تنتج من العلاقات المتبادلة بين هذه البنى دولة حديثة. مبدأ المجتمع الأهلي هو التعايش، أي التشارك في العيش، وفق مبدأ الغلبة (عش ودع غيرك يعيش). ومبدأ المجتمع المدني هو المواطنة، أي التشارك الحر في الوطن وفي عضوية الدولة، وفق مبادئ المساواة والحرية والعدالة.[11] هذا الارتباط الوثيق بين الدولة المدنية والمجتمع الأهلي هو ما يفسر موقف مثقفين وسياسيين “ديمقراطيين” من الحداثة بوجه عام ومن العلمانية بوجه خاص، إذ يختزل هؤلاء الديمقراطية إلى حكم الأكثرية الذي تقرره صناديق الاقتراع، والأكثرية في المجتمع الأهلي أكثرية إثنية / مذهبية، كما هو معلوم.

من حق الديمقراطيين العلمانيين من المسلمين السنة أو من أبناء الأقليات، ومن حق الأقليات غير الإسلامية وغير السنية بوجه عام أن يتوجسوا من “ديمقراطية دعاة الدولة المدنية والمجتمع الأهلي وصندوق الاقتراع” المناهضة للحداثة بوجه عام وللعلمانية بوجه خاص. نعني بالعلمانية هنا، من جملة أمور، أمرين أساسيين متلازمين: أولهما تساوي البشر إناثاً وذكوراً في الكرامة الإنسانية، والثاني تساوي المواطنين والمواطنات بالطبع في الحقوق والواجبات والمشاركة في الشؤون العامة وفي حياة الدولة. ولا ضمانة للمساواة سوى الحرية، بدءاً من حرية التفكير والتعبير، وحق المعارضة والمقاومة السلميتين، وحياد الدولة الإيجابي إزاء أصول مواطنيها الإثنية، وعقائدهم الدينية والمذهبية، وإزاء الأيديولوجيات الدينية والعلمانية، كالقومية والاشتراكية وما أليها.

 

التخوف من استبداد الأكثرية مشروع دوماً، حتى عندما تكون الأكثرية أكثرية سياسية، لا مذهبية ولا إثنية؛ هذا ما لا يدركه ديمقراطيو الدولة المدنية والمجتمع الأهلي وصندوق الاقتراع المناهضون للحداثة والعلمانية. الانعتاق من التبعية والاستبداد، وتجنب أن يكون الجميع عبيداً لسيد واحد أسسا سيادة الشعب. ليس هنالك من سلطة خارجة عن الجسم الاجتماعي، المجتمع سيد نفسه، الشعب سيد نفسه، تتجلى هذه السيادة في القانون العام الذي يسري على الجميع بالتساوي. ولكن لا يجوز أن ننخدع، فإن هذه السلطة التي ينتجها المجتمع لنفسه، هي سلطة عليا ومطلقة، ولكنها ليست سلطة شخص واحد، ولا سلطة الجميع أيضاً، بل سلطة الأكثرية.

الرأي العام هو رأي الأكثرية، والسلطة التشريعية، التي يفترض أنها التعبير الفعلي عن سيادة الأمة، هي سلطة الأكثرية أيضاً، وتطيعها طاعة عمياء، السلطة التنفيذية أداة بيد الأكثرية، القوة العامة التي تحفظ الأمن هي قوة الأكثرية تحت السلاح، تداول السلطة سلماً وتحوُّل الأقلية إلى أكثرية وبالعكس لا يغيران من هذه الحقيقة شيئاً؛ أليس في هذا تهديد للحرية؟

بلى بالتأكيد، إنه طغيان الأكثرية الذي يختلف بالطبع عن طغيان الفرد أو الطغمة أو الحزب، ولكنه طغيان. ذلكم هو أحد عيوب الديمقراطية وأحد شرورها. هذا العيب معزز بالمركزية وبغياب أي جسم وسيط بين الفرد وسلطة الدولة التي تنمو قوتها باطراد.

ما الحل إذاً؟ كيف يمكن الوقوف في وجه هذا الطغيان الجديد والحد منه؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بالحرية. “السم المضاد للمساواة، التي منها تولد الفردوية، هو الحرية”، ولا سيما الحرية السياسية التي تجعل الديمقراطية في مصلحة الجميع. الحل هو الحرية، أي مقاومة الطغيان. المقاومة أو المعارضة ضرورية للمواطن، بل هي لا تنفصل عن طبيعته. ولكن كيف؟

إن مؤسسات المجتمع المدني الحرة، غير الحكومية، هي التي يمكن أن تقف في وجه طغيان الأكثرية الذي يمكن أن يفضي إما إلى الاستبداد وإما إلى الفوضى، إذا لم تكن هناك قوة تعادله وتجعله معتدلاً، والاعتدال هو فضيلة الديمقراطية. هذه القوة هي قوة المجتمع المدني، الذي وصفناه بأنه ميدان الحرية الذاتية، في مقابل الدولة التي هي ميدان القانون، أو ميدان الحرية الموضوعية. لذلك كنا ولا نزال نصر على النظر إلى المجتمع المدني والدولة السياسية على أنهما قطبان جدليان (متعارضان) في كلية عينية، كالقطبين السالب والموجب في المغنطيس، ولا يقل عن ذلك إصرارنا على ضرورة تمييز كل منهما من الآخر مفهومياً وواقعياً، في الوقت ذاته، الوحدة يجب ألا تحجب الاختلاف.

منظمات المجتمع المدني الحرة الطوعية والتطوعية غير الحكومية، ولا سيما النقابات الحرة والأحزاب السياسية .. ، هي الحصون التي يقيمها الأفراد الأحرار للحد من السلطة المركزية والسلطات المحلية، ومن كل سلطة تعوق نمو الفردية وتفتح الشخصية وتكبح الطاقات الإبداعية في أي مجال من مجالات الحياة، وإلا فالثورة و”معانقة السماء”، وهذا ما تفعله عدة شعوب منذ مطلع هذا العام 2011 الذي دشن ربيع الشعوب.

4 – هل ندع ما للفكر للفكر وما للأيديولوجيا للأيديولوجيا؟

في ضوء ما تقدم، لا يلام الإسلاميون على الإشاحة عن نسق الدولة الوطنية، لأنهم يرون في الوطنية ملامح ومعاني علمانية تتعارض مع عقيدتهم الدينية، وهذا أمر يجمعون عليه، ولا اعتراض لنا على ذلك. ولكن ما بال غير الإسلاميين، أي غير المنضوين في الجماعات الإسلامية، يرددون “مصطلحاً” إسلامياً عن قصد أو عن غير قصد؟ نخشى أن استعمال غير الإسلاميين لمصطلح إسلامي عن غير قصد يشير إلى الجهل، واستعماله عن قصد يشير إلى المكر، فكيف يأمن الناس على مستقبلهم بين الجهل والمكر؟

المثقفون السوريون من غير الإسلاميين لم ينظِّروا بعد للدولة المدنية، لأسباب ظرفية على الأرجح، إلا ما نجده، بصيغ ملتوية ومراوغة ومتناقضة، في كتابات من يعارضون الحداثة والعلمانية بالديمقراطية، بصفتها “حكم الأكثرية”، ويرون في الدعوة إلى الحداثة بوجه عام، وإلى العلمانية بوجه خاص موقفاً مسانداً للسلطة الاستبدادية في سورية، بما هي سلطة علمانية وحداثية في نظرهم[12]، ويعتبرون الحداثيين عموماً شركاء للنظام السوري، ربما ينبغي أن يكون مصيرهم كمصير أشخاص السلطة الوالغين في دماء الشعب، ولكن معظم المثقفين السوريين يتبنون الشعار أو “المصطلح” عن قصد أو عن غير قصد.

لا يرى كاتب هذه السطور في شعار الدولة المدنية سوى التفاف على مفهوم الدولة الوطنية الحديثة وتأويل خاص للديمقراطية لا يلحظ الصلة أو العلاقة الضرورية بين الديمقراطية والوطنية، وقد تناول هذه الصلة في عدة مقالات وفي كتابه “طريق إلى الديمقراطية” الصادر عن دار الريس للكتب والنشر عام 2010. والمفارقة أن السلفيين والأصوليين من الإسلاميين يدركون أكثر من بعض “العلمانيين” أن الدولة الحديثة “ترتكز على ثلاث دعائم: العلمانية أو اللادينية، والقومية أو الوطنية، والديمقراطية أو حكم الشعب، ويرون أن “فيها ما فيها من عفونات الأفكار الغربية الملحدة”[13].

ما كنا لنتوقف عند هذا الشعار أو “المصطلح”، لولا الجدال الدائر حوله في معظم البلدان العربية ولا سيما مصر والمغرب وتونس واليمن وغيرها، والمتعلق بكتابة الدساتير أو تعديلها في هذه البلدان، ولولا أن بعض المثقفين “الديمقراطيين” السوريين يستعملونه بلا تبصر، أو وفق تأويلهم الخاص للديمقراطية بلا علمانية، وأن استحقاق تعديل الدستور السوري أو إعادة كتابته استحقاق راهن، نأمل ألا يشير إلى أي سيادة أعلى من سيادة الشعب وإلى أي مرجعية أعلى من الدستور الذي يفترض أنه تعبير قانوني عن العقد الاجتماعي وعن إرادة الشعب.

 

ونرجو أن ينحسم هذا الجدال الذي أنتج غير قليل من التوتر على نحو ما حسمته وثيقة الأزهر التي توافقت عليها القوى السياسية والنخبة المثقفة المصرية، بتاريخ 17 آب 2011 والتي خلت من شعار “الدولة المدنية” الذي يرفعه الأخوان المسلمون. ومما جاء فيها: “دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب …”. فلعل في هذا الموقف الجديد للأزهر إحياء لنهج الإصلاح الذي قال به محمد عبده وبعض تلاميذه، والذي يضفي شرعية إسلامية على الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وانتصاراً للاتجاه الوطني الديمقراطي للثورة المصرية الحديثة. فهل يستجيب الإسلاميون لهذه الوثيقة ويعود الجميع إلى رشدهم، فيعطون ما للفكر للفكر وما للأيديولوجيا للأيديولوجيا؟

لا بد أن القارئ قد لاحظ أن نقد “مصطلح” الدولة المدنية ليس نقداً لعبارة أو مقولة أو شعار، وليس نقداً شكلياً أو مجرد محاججة وسجال، بل هو نقد لنسق من الأفكار والتصورات التي توجه الممارسة الاجتماعية والسياسية، وتعين القيم الأخلاقية، وتحدد، من ثم، نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية التي ينتجها هذا النسق. قد يقول قائل: إن هذا النص يعارض نسقاً فكرياً تتغذى جذوره من ثقافتنا وتراثنا وبيئتنا وتتجلى فيه خصوصيتنا بنسق من الأفكار الغربية الوافدة أو المستوردة، الغريبة عن ثقافتنا وتراثنا وبيئتنا، وقد تهدد هويتنا … نقول بلا مواربة ولا مداورة: أجل، هذا صحيح. هذا هو خيارنا، ولا نقاش في الخيارات.

 

‏04‏/09‏/2011

 

[1] – حين تكون الثورة ثورة الحرية تكون الحرية وعياً وممارسة، وقوة فعل في الواقع تنطلق من القاع الوجودي للأفراد. أما عندما تكون الثورة ثورة تنشد الحرية، فإن الحرية لا تعدو كونها مجرد شعار قد يخفي تحته وعياً وممارسة مناقضين للحرية، كما كانت الحال عندنا.

[2] – يبدو لي أن منطق ثورة الحرية هو السبب الرئيس في تعسر ولادة هيئة سياسية موحدة تمثل الثورة، من دون أن نتجاهل الأسباب الأخرى أو نقلل من أهميتها، وهذا موضع يحتاج إلى وقفة متأنية لا إلى تبادل التهم وإشاعة مشاعر الإحباط.

[3] – التلفيق والتوفيق غير التوليف أو التأليف الذي هو تركيب جدلي بين حدين متناقضين لا يستغني أي منهما عن الآخر ولا ينفصل عنه، ويذهب كل منهما في الآخر، ويذهبان معاً في تركيب جديد، وذلكم هو مبدأ المفاوضة الاجتماعية الذي ينتج العقد الاجتماعي.

[4] – راجع الهامش رقم 6

[5]- الدولة المدنية والدولة الإسلامية شيء واحد عند فهمي هويدي، في كتابه الإسلام والديمقراطية (1993) إذ يقول: إذا أردنا أن نحسن الظن بالذين وصفوا الدولة الإسلامية بأنها دينية، ثم اعتبروها نقيضا للدولة المدنية، فلن يكون أمامنا سوى مخرج واحد هو: إعذارهم باعتبارهم لا يعرفون دلالة تلك المصطلحات، الأمر الذي أوقعهم في الغلط، وأوردهم موارد الضلال من حيث لم يحتسبوا”.

[6]- يقول علاء سعد حسن، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية: “الدولة المدنية بتعريفها وأقسامها مطلب إسلامي أصيل، لا يشوش عليه رفض البعض للمصطلح باعتباره مصطلحا غريباً نشأ في بيئة غير بيئتنا وربما أريد منه غير ما ظهر، فلا مشاحة في الاصطلاح، والعبرة بالمسميات لا بالأسماء، ويظل اسم المدينة هو الاسم الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول وأقدم عاصمة لدولة إسلامية على وجه الأرض اسماً له دلالته واعتباره، فإذا ذكرت كلمة المدينة مجردة، فلا تعني في الأذهان والعقول سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أسسها على صحيفة (دستور) تحدد الحقوق والواجبات، وتوزع الأدوار بين فئات المجتمع المختلفة من مسلمين ويهود وعرب مشركين لم يسلموا بعد”. (عن موقع نافذة القليوبية)

[7] – يرى الدكتور حسن شمسان في مقالة له بعنوان “الدولة المدنية والدينية سيان”، أنه “لا يمكن لأي دولة تدعي المدنية أو هي قائمة على أسسها بالفعل إلا أن تولد من رحم إسلامية؛ بغض النظر عن ديانة أهلها سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية أو حتى كانت بدون ديانة، لهذا أنا لا استغرب قول من قال: “رأينا في الغرب إسلاما بدون مسلمين، وفي الشرق مسلمين بلا إسلام؛ فهذا القول مغزاه يهدف إلى ما قدمت إليه؛ من أنه لا يمكن أن تكون هناك مدنية وحضارة وعدالة ومساواة وأمن وأمان إلا في ظل الإسلام، وفي قوانين أو شرائع تسن من روح الإسلام؛ فأينما ذكرت العدالة ذكر الإسلام، وأينما ذكرت المساواة ذكر الإسلام، وأينما ذكرت الحرية ذكر الإسلام، وأينما ذكر الأمن والأمان ذكر الإسلام، وأينما ذكر العيش الهنيء والرغد ذكر الإسلام، بمعنى أدق أينما ذكرت الدولة المدنية بكل مقوماتها وأسسها لا يمكننا إلا أن نذكر الإسلام”.

[8]- لا تزال المجتمعات العربية والإسلامية عشائر وقبائل وعائلات ممتدة ذات أصول إثنية مختلفة وتدين بديانات ومذاهب مختلفة، ويغلب فيها حكم العرف والعادة على الشريعة وعلى القانون، ولا يزال حكامها مستبدين استبدادا يتكئ على هذه البنى وثقافتها التقليدية. راجع في ذلك هشام شرابي في “البنية البطريركية” وخلدون حسن النقيب في “الدولة والمجتمع في الخليج العربي” و”الدولة التسلطية في المشرق العربي”، وسليم بركات في “المجتمع العربي” و”المجتمع العربي المعاصر” وغيرها كثير.

[9] – يبدو هذا واضحاً في برامج الأخوان المسلمين وخطابهم السياسي وضوحه لدى المرجعيات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين. يقولُ الشيخُ القرضاويُّ: “إنَّمَا الدولةُ الإسلاميَّةُ إذا نظرنَا إلى المضمونِ لا الشَّكلِ، وإلى الْـمُسمَّى لا الاسمِ «دولةٌ مدنيَّةٌ مرجعُهَا الإسلامُ»، وهي تقومُ على أساسِ الاختيارِ والبيعةِ والشورَى، ومسؤوليَّةُ الحاكمِ أمامَ الأمَّةِ، وحقِّ كلِّ فردٍ في الرعيةِ أن ينصحَ لهذَا الحاكِمِ، يأمرُهُ بالمعروفِ، وينهاهُ عن المنكرِ … فقد أورد القرضاوي من “الأدلة” ما يثبت مدنية الدولة الإسلامية بالصورة التي دعا إليها المودودي وقطب ومما قاله: “الحاكمية التي دعا إليها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم، وتراقبهم، بل تعزلهم، والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل”. (في النظامِ السياسيِّ الإسلاميِّ)

[10] – يقول الشيخ يوسف القرضاوي: “الحاكمية التي دعا إليها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم، وتراقبهم، بل تعزلهم، والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل”.

[11] – مبدأ “عش ودع غيرك يعيش” هو الذي يقوم عليه الفساد، حتى في الدول الحديثة. ويعني في هذه الدول التحلل من طاعة القوانين والتحايل عليها، هو في الأساس تحلل من القيم الاجتماعية والأخلاقية.

[12] – المفارقة أن بعض هؤلاء ينظرون إلى سلطة البعث في سورية على أنها سلطة طائفية وعلمانية في الوقت ذاته. وقد فند المفكر والشاعر أدونيس علمانية البعث في رسالته المفتوحة إلى الدكتور بشار الأسد، فلم ير فرقاً بينها وبين أي سلطة دينية. وقد رأينا في رسالته المهمة موقفاً نقدياً نتبناه جملة وتفصيلاً، ورهاناً ذاتياً نخالفه فيه جملة وتفصيلاً أيضاً، من دون أن نحكم عليه، فلا نقاش في الخيارات. علماً بأن أدونيس الذي لم يعارض مطالب الثورة الشعبية أساساً تراجع عن رهانه على رئيس الجمهورية، وانحاز إلى الثورة، ونصح المعارضة السورية بالابتعاد عن الفكر الديني، وطالب بشار الأسد بالتنحي عن الحكم صراحة.

[13] – راجع الكتيب الذي أصدرته جمعية الترتيل للخدمات الثقافية والدينية، بمصر بعنوان “العلمانية، الليبرالية، الديمقراطية، الدولة المدنية في ميزان الإسلام”، بإشراف الشيخ محمد عبد العزيز أبو النجا.