صحا السائقون النائمون في زوايا ” مصفاة بانياس ” على زمور صهريج قوي , متواصل . ارتبكوا إذا اعتقدوا , لأول وهلة , أنه زمور الخطر . غير أن خيط الفجر الأبيض كان تبين من خيط الليل الأسود , فتمكنوا من رؤية الصهريج يقتحم المكان بطريقة احتفالية , والسائق يشعل نور ” السنيال ” ويطفئه ويندفع نحوهم ليفرق جمعهم , ثم يفرمل فيسحب الحصا بعجلاته ويثير الغبار , ويتوقف , فإذا بداخله أبو بكري الحلبي يخرج رأسه من النافذة ويخاطبهم – ليغيظهم – بالعربية الفصيحة , قائلاً :
– صباح الخير أيها الحثالة , بشروني هل نمتم جيدا وطغت رائحة فسائكم على رائحة غاز المصفاة ؟
وأطلق ضحكة عالية زادت من حيرتهم وعقدت ألسنتهم عدا لسان أبي عبدو الإدلبي , المشهود له بأنه لا يثبت في حلقه , فأنطلق يقول :
– ولاه أبو بكري أين كنت ؟
فقال الحلبي :
– كنت في حلب عند حبيبة قلبي أم بكري .
فصاح الجميع بصوت واحد :
– كذاب .
وقال أبو عبدو الإدلبي :
– العب هذه اللعبة مع غيرنا , فالبارحة جئنا من حلب معاً , ووصلنا إلى هنا في بداية الليل . ما هذا الأمر الضروري الذي يعيدك إلى حلب . ثم إلى هنا ؟ أأنت مكلف بقياس الطريق ؟
قال الحلبي :
– لا والله . ولكنني رأيت ما يجعل شعر رؤوسكم يقف كريش القنفذ , ( فطقت الشغلة ) في رأسي وسافرت . صدقوني يا جماعة لقد أمضيت ليلة من ليالي العمر .
تبرم أبو خليل الحزاني وقال :
– يبدو أن الله سيقطع رزقنا في هذا اليوم , وأنا مرة سمعت أن الكذب على الريق يقطع الرزق .
ثم تقدم من باب صهريج الحلبي وقال له :
– ولاك . ألم تقل لي مرة إنك تحب مهنة السواقة لأنها تبعدك عن ” شوفة ” أم بكري قدر الإمكان .
قال الحلبي :
– الكذاب ملعون . قلت هذا الكلام , ومع ذلك ذهبت إليها البارحة تحت جنح الليل . وصدقني في الرجعة كدت أتهور ولكن الله لطف !!
تبادل السائقون نظرة حيرى , فكلام الحلبي كان يبدو صادقا وصافيا كدمع العين . ثم تقدم سالم الفلتان و قال له :
– طيب انزل واحك لنا ما جرى لك .
فقال الحلبي وما تزال حالة المرح مسيطرة عليه :
– لا أنزل ما لم تقفوا لي على الصفين مثل ” الياور ” وتغنوا لي : عريسنا الزين يتهنى / يطلب علينا ويتمنى , وينجرد واحد منكم مثل سيخ النار إلى البابور فيشعله ويركز فنجان قهوة سكره ظاهر , ومن ثم تتحلقون حولي وتمسكون بالسبحات , حتى إذا بدأت بالكلام لا يجرؤ أخو أخته منكم على مقاطعتي بكلمة ولا حتى بنحنحة ما لم آذن له .
قالوا : أمرك !
ومن سكون الفجر في باحة المصفاة انطلقت ” الهيصة” والغناء والعديات . ثم إنهم قدموا له القهوة ذات السكر الظاهر , فارتشف رشفة طويلة متأنية وقال :
– أغلب الظن أنهما عروسان جديدان وأنهما من الصنف الذي يفهم – بعيدا عنكم !!
وضحك وقال :
– لأن الفهم إذا وضع في رأس غبي يعمل مشاكل أنتم في غنى عنها .
قال الحزاني وقد حرقه الفضول :
– عمن تتحدث أبو بكري ؟
قال الحلبي :
– عن الشاب والفتاة . نسيت أن أقول لكم إن مفتاح التشغيل في صهريجي معطل منذ شهر .
قال الحزاني :
– وما علاقة مفتاح التشغيل برؤية العروسين ؟!
قال الحلبي :
– انتم صففتم صهاريجكم هنا في باحة المصفاة , وأنا فكرت بأمر التشغيل في الغد . قلت لنفسي : يجب أن أصفه في مكان منحدر كي يسهل علي تشغيله في الصباح . دخلت في إحدى حارات بانياس المرتفعة . كان الليل قد أطبق على المدينة وأنوار المنازل قد أشعلت . رفعت زجاج النافذة وأقفلت الباب الأخر للصهريج وهممت بالنزول . التفت يسارا وإذا بصري يقع على غرفة في أحد المنازل وقد أنيرت بضوء خافت . ثم رأيت الصبية تدخل ( بنصف ثياب ) راكضة ضاحكة تلتفت إلى الوراء وتضرب بيديها . ضعف الإنارة لم يمكني من رؤية لون بشرتها ولكنها على الأغلب سمراء . وكان هو يلحق بها ويحاول جاهدا الإمساك بها . ولكنها كانت صعبة المنال مثل سمكة ( الأنكليس ) . كاد قلبي ابن الخمسين يتوقف من دهشة وسرور ومفاجأة . كنت أرى بأم عيني حالة عشق مذهلة . . وأنا , في غمرة هذه الحياة البائسة أكاد أنسى وجود العشق في الحياة . قلت لنفسي : النظرة الأولى لك , وأما الثانية فهي لليل الستار . ثم ضحكت وقلت لنفسي , منحتك النظرة الثانية والثالثة والعاشرة ..
واتخذت وضعية الفرجة المستديمة . أسندت ظهري على الباب الآخر للصهريج ومددت ساقي في اتجاه المقود . أشعلت سيجارة ورحت أخفي بصيصها بيدي كيلا يلتفت إلى نظر أحد . استمرت القصة أكثر من ساعة , فلما همد كل شيء درجت دواليبي وأين أنت يا حلب !
اتخذت هيئة الحلبي فجأة طابع الأسى وقال :
– يا شباب . أنا سأعترف لكم في هذه اللحظة المباركة بأني إنسان عديم الأهمية , أو كما يقول الأساتذة ( تافه ) . يوم شممت رائحة عرق إبطي كنت أعتقد أن مشاكل العالم كلها سوف تنحل بمجرد ما أسكت اللهيب الذي اتقد في جواي . لاحظ الوالد ثبات عيني وضمور جسدي واضطراب حديثي فهز رأسه هز المجرب العارف وقال لي :
– ولاه مصطفى . على بالك تتجوز ؟
قلت له :
– على كيفك .
فقال للوالدة :
– شوفي له بنت حلال .
فاصطحب معها العمة والخالة والجدة وذهبن يقرعن أبواب الناس مثل مسحر رمضان :
– خيتو . عنكن بنات للجازة ؟
فيقلن لهن :
– أي نعم . في .
ويعرضن عليهن صبايا من مقاييس وألوان مختلفة ,وعندما كن يرجعن إلى البيت يبدآن بوصف ” البضاعة ” بطريقتهن المضحكة :
– أول واحدة شاهدناه قصيرة , ولكن فمها يتسع لمحشية باذنجان بالعرض !
– الثالثة جذابة ولكنها تميل على رجلها .
– الرابعة عيناها مثل حب العدس . .
والخامسة و السادسة . . حتى توصلن إلى هذه التي عندي , أختكم أم بكري . قاموا بكافة الإجراءات ثم جاؤوني بها ليلا مصبوغة من فرقها لقدمها . وكانت غشيمة مثلي , وخائفة تلوى رقبتها مثل المحكومين بالإعدام . لن أطيل عليكم تزوجتها وخلفت منها ستة ,أر بع بنات وصبيين . . ولكن . . آه . . كم أنا أسف يا أم بكري . يشهد الله أني ظلمتك معي . . أم بكري يا جماعة مظلومة مع رجل لا يفهم .
قال أبو خليل متشوقاً :
– والعروسان . . العروسان . . ماذا فعلا أيضاً .
ضحك الحلبي ثم قال :
– العروسان يا عين أخيك من ( الصنف الذي يفهم ) . . لن أحكي لك المزيد , ولكنني أود أن أعلن على رؤوسكم أنني أحببتهما كأولادي , الله تعالى يحميهما من العين وأولاد الحرام ومن شر حاسد إذا حسد !
قصة للكاتب السوري : خطيب بدلة من مجموعة قصصية بعنوان ” حادث مرور ” الصادرة عن الدار الوطنية الجديدة . دمشق . سوريا الطبعة الأولى 2002 .
للمؤلف أيضاً :
حكى لي الأخرس 1987
عودة قاسم ناصيف الحق 1989
امرأة تكسر الظهر 1994
وقت لطلاق الزوجة 1998