مرة أخرى نود أن نؤكد أن النظام شيء والسلطة شيء آخر . الدلالة اللغوية واضحة هنا وكذلك الدلالة الاصطلاحية , فلا يجوز الخلط بينهما . الذين يعرفون مبادىء تشغيل الكومبيوتر يدركون هذا الفرق جيداً . النظام system ( وهو هنا نظام وندوز , على سبيل المثال ) هو الذي يشغِّل جميع البرامج ويضمن اتساق عملها , البرامج , هنا , تشبه مؤسسات الدولة , التي تؤدي كل منها وظيفة خاصة . أي خلل في النظام يؤدي إلى خلل عمل جميع البرامج أو تعطيلها , بحسب درجة الخلل . السلطة بجميع مؤسساتها وبجميع المؤسسات الخدمية الخاضعة لها تعمل بموجب النظام العام . أما النظام فلا يتأثر باختلال عمل أحد البرامج , إلا من حيث قدرته على تشغيله , بدليل أننا نستطيع حذف البرنامج المعني من دون أن يتأثر عمل النظام وقدرته على تشغيل البرامج الأخرى . ويصير النظام بلا معنى وبلا جدوى إذا اختلت جميع البرامج أو كفّت عن الاستجابة للنظام , لأنها غير متوافقة معه أو لأنها تصير غير متوافقة .
هذا ليس مجرد مثال لتقريب الفكرة وتبسيطها , بل لإدراك العلاقة بين النظام العام ( الدولة ) ومؤسسات السلطة المختلفة , التي يفترض أنها سلطة الدولة . النظام عام . وكل واحدة من مؤسسات السلطة , التي تعمل بموجب النظام العام ذات طابع مزدوج : عام وخاص . هي ذات طابع عام لأنها تعمل بموجب النظام العام , ولأن خدماتها تشمل جميع المواطنين بلا استثناء ولا تمييز , وهي ذات طابع خاص لأنها تقوم بوظيفة خاصة أو جزئية معينة كالتعليم أو الصحة أو الدفاع .
السلطة التنفيذية ( الحكومة ) ذات طابع مزدوج أيضاً : عام وخاص , عام لأنها سلطة الدولة العامة , وخاص , لأنها تميل إلى خدمة مصالح فئة خاصة وجزئية معينة من فئات المجتمع , من دون أن تغفل مصالح الفئات الأخرى , وإلا فإنها تفقد طابع عموميتها المشار إليه . وهي بذلك تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي , بعبارة أخرى , ليس للدولة أي طابع خاص . الطابع الطبقي الخاص هو طابع الحكومة أو السلطة التنفيذية , ولذلك كان تداول السلطة وتشكيل حكومة جديدة بعد كل دورة انتخابية تعبيراً عن تغير نسبة القوى الطبقية في المجتمع .
الدولة , بما هي نظام عام , مجرد , أو بما هي شخص اعتباري , لا تعرف التفاوت الاجتماعي ( الطبقي أو الفئوي ) , ولا يمكن أن يكون لها طابع طبقي , أو ديني أو مذهبي أو أيديولوجي ( الانتماء الديني أو المذهبي أو الأيديولوجي من خصائص الفرد الطبيعي والجماعة الطبيعية , لا من خصائص الشخص الاعتباري والجماعة السياسية ) . أما السلطة التنفيذية , التي يفترض أنها سلطة الدولة , فهي محصلة نسبة القوى الاجتماعية , التي تعبّر عنها الانتخابات التشريعية وانتخابات المجالس المحلية والبلدية , في كل مرة .
أشرنا من قبل إلى أن هدف المعارضة الرئيسي هو تغيير النظام الشمولي القائم , لا إسقاط السلطة . لكن من المهم الإشارة إلى أن النظام مفهوم مجرّد , إذا عزلناه عن السلطة التي أنتجته وعن نهجها في التفكير والتدبير , وعن آليات عملها ونمط علاقاتها الداخلية والخارجية . فمن البديهي أن السلطة القائمة هي حارسة النظام والمدافعة عنه والساعية إلى استقراره واستمراره بكل ما لديها من وسائل وأدوات وبكل ما تعتقد أنها تملكه من مصادر القوّة .
هنا لا بد من تمييز ضروري آخر بين السلطات بوصفها نهجاً ومنظومة عمل ونسق علاقات , وأشخاص السلطة , في جميع مستوياتها . (لأننا لو نقلنا شخصاً أو عدة أشخاص أو كثيراً من الأشخاص من مواقعهم أو استبدلنا بهم غيرهم لا تتغير بنية السلطة ولا يتغير نهجها أو نمط علاقاتها . الأشخاص يتغيرون , بعضهم يتوفاه الله وبعضهم يحال على التقاعد , وبعضهم يُكَف عن العمل , وهذه وغيرها أمور جارية ومطّردة , لكن نهج السلطة لم يتغير ولا يتغير إلا بتغيير بنية النظام الشمولي ) فحين نقول أن هدف المعارضة هو تغيير النظام , نعني أن الفعل السياسي ليس موجّهاً ضد أشخاص السلطة في أي مستوى من هذه المستويات , بل هو موجه مباشرة إلى النهج ومنظومة العمل و نسق العلاقات (علاقات الولاء ) , لأن العمل الديمقراطي الذي يهدف بصورة أساسية إلى إرساء مبادئ المواطنة والحرية والمساواة والعدالة الديمقراطية بين الأفراد وبين الفئات الاجتماعية والقوى السياسية المختلفة , يشمل بالضرورة أفراد السلطة والمتعاونين معها على قدم المساواة .
نعتقد أن نهج السلطة وآليات عملها والعلاقات بين أفرادها قابلة للتغيير , بل أن تغييرها بات ضرورياً , حتى من وجهة نظر السلطة ذاتها , وهذا ما عبرت عنه إعلانات الإصلاح ومكافحة الفساد و ” ثورة المراسيم ” وباقات الوعود التي ما انفكت السلطة تنثرها في كل مناسبة .
موضوع الخلاف الرئيسي بين المعارضة الديمقراطية والسلطة , لا يقتصر على النهج وآليات العمل ونمط العلاقات , بل يتعداه إلى مصادر قوة السلطة ذاتها , التي سبقت الإشارة إليها , وهو خلاف على مسائل لا يمكن المساومة عليها أو التهاون فيها , أو التوصل فيها إلى حلول وسط , نعني مصادر السلطة , التي هي مصادر وطنية عامة لا يحق لأي شخص ولا يحق لأي حزب أن يحتكرها وأن يتصرف بها كأنها مصادر خاصة وملكية حصرية , ولا يحق لأية فئة اجتماعية أن تفعل ذلك أيضاً . فالجيش وقوى الأمن من أهم مصادر القوة الوطنية العامة , وكذلك الإدارة المدنية والمؤسسات الإنتاجية والخدمية ومكامن الثروة الوطنية ومنظمات المجتمع المدني . فالمعارضة الديمقراطية لا تعمل في سبيل انتزاع هذه المصادر من يد السلطة لمصلحة سلطة أخرى , بل تعمل من اجل إعادتها لمالكها الأصلي و أي المجتمع , وإعادة السلطة أيضاً إلى مصدرها الأصلي , أي الشعب . وتسعى بالقدر نفسه إلى إحلال مبدأ التداول السلمي للسلطة محل احتكار السلطة والاستئثار بها , وإلى مبدأ فصل السلطة محل دمجها في سلطة واحدة هي سلطة الحزب القائد التي صارت سلطة المخابرات وحدها .
ثمة هنا مسألتان لا بد من تأكيدهما : الأولى هي إعادة تعريف الوطنية بوجه عام , والثانية هي إعادة تعريف الدولة الوطنية وسلطتها السياسية بوجه خاص , فإن من شأن ذلك أن يكون فيصلاً بين السلطة القائمة والمعارضة الوطنية الديمقراطية و التي بيّنا سماتها الرئيسة . وليس من حكم عدل في هذه القضية سوى الشعب . فالمعارضة الوطنية الديمقراطية التي ترى في الوطنية فضاءً عاماً من الحرية , وانتماء خالصاً إلى الدولة الوطنية لا يعلو عليه أي انتماء أخر سوى الانتماء إلى الجماعة الإنسانية , لا يخرج أياً من أشخاص السلطة من دائرة الوطنية , و لا تستثني أيّاً منهم من مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات . والمعارضة الوطنية الديمقراطية , التي ترى في الدولة مجتمعاً سياسياً عاماً كائناً أخلاقياً وتحديداً ذاتياً للشعب , تعمل في سبيل إعادة إنتاج سلطة الدولة , وتعارض السلطة القائمة بقوة وحزم , لأنها ليست سلطة الدولة , بل سلطة حزب ابتلعت الدولة وخفضتها من دولة الوطنية إلى دولة البعث .
لذلك , فإن المطلوب من المعارضة هو نفسه المطلوب من أشخاص السلطة والمتعاونين معها , بلا استثناء , فالمشروع الديمقراطي , كما تفترض القوى الديمقراطية , هو مشروع مجتمعي , مشروع وطني , يهم جميع المواطنين السوريين بالتساوي . فعلى من يرفض احتكار السلطة أن يرفض احتكار المعارضة أيضاً . جميع السوريين في قارب واحد تتقاذفه اليوم أمواج عاتية , فإما أن ننجو معاً وإما أن يغرقوا معاً .
المعارضة الوطنية الديمقراطية ليست عملاً يخشى الديمقراطيون عواقبه , وليست عملا ً غير مشروع دستورياً وقانونياً وسياسياً وأخلاقياً , و ليست مسعى لإسقاط السلطة لمصلحة سلطة أخرى , بل هي مسعى لإعادة إنتاج الدولة الوطنية , التي تعبر عن كلية المجتمع , وإعادة إنتاج سلطة الدولة الوطنية التي تعبر عن سيادة الشعب , لذلك فإن عملها يندرج في باب ” التحدي السياسي ” العلني والصريح , وهو تحدِّ يبدأ بالمناقشة العلنية والحوار المفتوح على امتداد ساحة الوطن , وينتهي بالاحتكام لصناديق الاقتراع .
مقتطف من كتابه ” طريق إلى الديمقراطية “ الصادر عن دار رياض الريس للكتب والنشر . الطبعة الأولى شباط 2010