°
, October 6, 2024 in
آخر الأخبار
الصحة والتطوير الذاتي

اللاشعور الشخصي – لـ بيير داكو

اللاشعور الشخصي يتحدّد بذاته : إنه جزء من اللاشعور الذي يتكوّن وفقاً لتجاربنا الفردية وتاريخيتنا الشخصية. ويفهم المرء بصورة مباشرة أن اللاشعور الشخصي يكون على الغالب ملوّثاً ومريضاً . وارتياده المعمّق أساسي في التحليل النفسي بصورة مؤكدة , إذ أن حرية الأنا منوطة بـ ” تنظيفه ” .

التوجه نحو العصاب

تكلمت على العصاب , في مؤلفي الأول (*) , بما فيه الكفاية بحيث لا حاجة للعودة إليه . ولنستعد مع ذلك بعض المفاهيم الأساسية , ولننظر في اللاشعور الشخصي من خلال وجهة نظر التحليل النفسي . ثم لنوسع مفهوم الكبت . أما فيما يخص العقدة , فأنني أحيلكم أيضاً إلى كتابي الأول ( أي الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث ) . واقتصر على ” حالة ” واحدة تبيّن إلى أي حد ينبغي أن نتجنب اتخاذ العرض على العقدة ذاتها .

لا شعورنا , هذا الواقي

يثير اللاشعور أمراضاً على الغالب , و العصاب أشهرها . ولا بد من معرفة ما يلي قبل كل شيء : دور اللاشعور , وقد رأينا ذلك سابقاً , أن يحافظ على التوازن , أو أن يعزّز توازناً مهدّدا . فهل اللاشعور إذن خزّان محتواه أصناف الكبت والعصاب والعقد ؟ نعم , بالتأكيد , ولكن لا بالمعنى الذي يفهمه المرء بصورة عامة , كما سنرى .

إليكم مثالاً : يمكن للاشعور أن يثير الحمّى . والحال أن الحمّى , وإن كانت تحمى , يمكنها أن تتجاوز الحدود إلى الهلوسة والموت . وقس على ذلك معظم الآليات اللاشعور , آليات الحماية . فإذا تجاوزت حدوداً معيّنة , فذلك هو العصاب , والحصر الكبير , والاغتراب العقلي أحياناً .

وعلينا أن لا ننسى أن مرض الإنسان يمثّل دائماً محاولة تقوم بها العضوية لتحقيق شفائه . وكل ما هو ” مرضي “ا يتصف بأنه من الطراز نفسه .

1- الكبت

الكبت آلية من آليات اللاشعور تحول دون أن يصل الدافع إلى ساحة الشعور .

إن فرويد يعقد الموازنة التالية على وجه التقريب : ذلك كما لو أن شخصيات ذات شعر أشعث , قذرة , عارية كل العري ” غير المعترف به ” ( الغرائز ) , كانت ترغب في أن تخرج من كهفها المظلم ( اللاشعور ) لكي تجتاح الصالة ( الوجدان الأخلاقي ) التي تصل فيها سهرة عالمية إلى أوج نشاطها .

بين الكهوف المظلمة والصالة المنيرة , في الظليل , يمكث رتل من رجال الشرطة : الأنا العليا .

ويصعد الدافع الغريزي ,الملتحي, بعض الدرجات , فيصطدم بقوات الأنا العليا, وعليه أن يُبرز أوراقه . فإذا كان ثمة كبت , رُدّ ساكن الكهوف إلى حفره , دون أي صورة أخرى من صور الدعوى . ولكن الشخصيات المنهمكة في الصالة تجهل كل شيء مما حدث. وبعبارة أخرى : يجهل الشعور دائماً أن ثمة كبتاً قد حدث . ولا يعلم المرء بوجود الكبت إلا عندما تبدو الأعراض على السطح . فالحصر , على سبيل المثال , المحسوس بصورة شعورية , يمكن أن يكون عرضا” من أعراض الكبت ( اللاشعوري ) .

لماذا يحدث كبت ؟ ولماذا يظل لاشعورياً ؟ إن الكبت يعمل على الدافع الآتية من اللاشعور . وثمة كبت لأن الدافع يهدّد الشخصية بفقدان توازنها . فما التهديد ؟ وما المهدّد ؟ لقد تكلمت على الغرائز في فصل ” خزان الغرائز ” . والحال أن الغرائز تجهل الأخلاق والمحرّمات والممنوعات والمباحات . واللاشعور يولّد الغرائز , شأنه في ذلك شأن مفحّم السيارة الذي يولّد بخار البنزين . فمن اليسير أن يفهم المرء أن ثمة “شيئا ما ” يحدث بمجرد أن يكون أحد الدوافع اللاشعورية في حال من عدم الوفاق القوى الأخلاقية اللاشعورية للأنا العليا . وهذا ” الشيء ” هو الكبت .

وما دام الكبت يتم انطلاقاً من دافع من الدوافع يتم من وقت إلى أخر . فهو يكبت دافعاً لأنه يمثّل خطراً على شخصيته . ولكيلا يبدو الخطر , ينبغي أن يظلّ الدافع مكبوتاً , الأمر الذي يقتضي بذل جهود لاشعورية مستمرة وكبيرة . مثل ذلك نهر ( الدافع ) يهاجم بصورة مستمرة سداً ( الأنا العليا ) يوقفه في كل محاولة من محاولاته في أن يسيل نحو الوادي ( الشعور ) .فثمة إذن صرف للطاقة دون جدوى , وإضعاف للشخصية . وتُفضي جملة من ضروب الكبت , التي تستمر على الغالب طيلة حياة برمتها , إلى التعب والكفّ والاكتئاب . والسبب أن الحياة اليومية قد تكون بحاجة إلى هذه الطاقة التي تجمّدت بفعل الكبت الداخلي . ومثل ذلك مصدر كهربائي كان عليه أن يغذّي مصابيح قوية غير مرئية , وأن يغذّي في الوقت نفسه مصابيح الاستعمال المنزلي التي يثير الدهشة مردودها الضعيف دون اكتشاف السبب .

عندما يكبت المرء جزءاً من شخصيته . . .

نعلم الآن أن الرجل قد يكبت الجزء المؤنث من شخصيته , وأن المرأة قد تكبت الجزء المذكر من شخصيتها ( نصف الشخصية ! ) , وأن بالإمكان ” إسقاط ” هذه الضروب من الكبت بكل نتائجها الممكنة ( حب , زواج , اختيار مهنة , إلخ ) .

وسّع يونغ أيضاً مفهوم الكبت الذي اكتشفه فرويد . ولاحظ يونغ بالتجربة أنه كان ممكناً للمرء أن يكبت وظيفة من وظائف شخصيته .

فما هي الوظيفة ؟ يمكن موازنة الشخصية بدائة مقسومة إلى أربعة أقسام . وكل ” ربع ” منها يمثّل وظيفة .

ونلاحظ الوظائف التالية على هذا النحو :

الفكر : الفكر وظيفة شعورية . إنه يقرّر ما هو موجود .

الإحساس : وظيفة شعورية ولا شعورية معاً , تتيح لنا أن ندرك الحياة إدراكاً عميقاً .

الحدس : وظيفة لا شعورية تولّد ” البداهات ” , دون أن تتدخّل المحاكمة .

العاطفة : وظيفة ثانوية تتّحد بالفكر والإحساس . إنا تخبرنا عما يبدو أنه يناسبنا .

ومن المعلوم , بحسب التجربة الشخصية , أن الوظيفة الأولى , الفكر , أكثر نموّاً لدى الرجال , وأن للنساء وظيفة ذات أهمية , وظيفة الحدس ( وكل هذا ليس سوى تخطيطية ) .

ومع ذلك , تشكّل هذه الوظائف الأربع جزءاً من كل شخصية , امرأة كانت أم رجلاً . ويدرك المرء تمام الإدراك أن أي امرأة تتصف بأنها حدس على سبيل الحصر , وبان وظيفة ” الفكر ” غير موجودة لديها , ليست سوى جزء من امرأة . كذلك فأن أي رجل يتصف بأنه فكر على سبيل الحصر , ودون حدس على سبيل المثال , ليس سوى آلة حاسبة تثير الرثاء .

والمثالي أن نتوصّل إذن , من خلال العلاج بالتحليل النفسي , إلى أن نعيد التوازن إلى هذه الوظائف الأربع في قلب الشخصية وأن نوحّدها .

وقد يحدث غالباً , والحالة هذه , أن تكون إحدى الوظائف مكبوتة برمتها . ولنتخيل طفلاً يلجم عفويته باستمرار أب سلطوي . ولنفرض أن هذا الطفل يشعر , منذ زمن معيّن , بأنه آثم أو أحمق في كل مرة يحتفظ بشخصيته , أي يكون عفوياً .

وبالتدريج , يكبت الطفل إذن هذا الجزء من شخصيته , الذي يمثل التعبير عنه خطراً من الأخطار .

وسيقول في نفسه : “إذا كنت عفوياً فأنني أصطدم بمعارضة أبي التي تتصف بالاحتقار ( أو بمعارضة أمي ) . وأشعر بالإثم لكوني عفوياً , ولن أكون بعدُ عفوياً . سأمثّل دوراّ من الأدوار ” .

ولنتخيل أن هذا الطفل يكبت وظيفة الإحساس لديه . والحال أن هذه الوظيفة مشتقة من الغريزة . وقوامها ” العفوية ” و ” الإحساس بالحياة ” , والانفتاح انفتاحاً واسعاً للوجود , وكون المرء محتفظاً بشخصيته .

فإذا كانت هذه الوظيفة مكبوتة , زال ربع الدائرة وكانت الشخصية مبتورة .

ولكن الفراغ لا بد من سده ! وإضعاف الشخصية لابد من تعويضه بتعزيز وظيفة أخرى . فتتضخّم أخرى وتنتفخ . ولتكن هذه الوظيفة على سبيل المثال وظيفة ” الفكر “

ولنتخيل هذا الطفل وقد أصبح رجلاً . فوظيفة ” الإحساس ” لديه مكبوتة ووظيفة ” الفكر ” لديه متضخّمة . كيف سيكون هذا الرجل ؟ سيكون عقلانياً بإفراط , ويلجأ إل المحاكمة بدقة مغالية . ولن يعتمد إلا على عقله الذي يجري المحاكمات . وسيكون مفصولاً عن ” إحساسه ” . . . وعن حدسه على وجه الاحتمال . ولن يصغي إلاّ إلى حساب المحاكمات الجافة , ولن يسمع أصواته الداخلية , وسيكون هذا الرجل إذن عاجزاً عن الإحساس بشيء من الأشياء . وسيرفض , رفضاً لاشعورياً , أن ينقاد إلى إحساساته وعفويته , وسيفرض على نفسه , بصورة لاشعورية , تمثيل دور السيادة على الذات باستمرار , ودور الكمال في الفكر والمحاكمة , ودور الأخلاقية المزيّفة والفضيلة المزيّفة , ودور الذكاء بأي ثمن , الخ . وغنيّ عن البيان أن ذلك سيكون الكارثة في مجالات تقتضي العفوية , مجالات الجنسية والصلات مع الغير , الخ .

وقد يبدو اكتشاف هذه الوظائف الأربع اكتشافاً مجرداً , أو أنه ” رأي من آراء الفكر ” . والحال أن ملاحظة هذه الوظائف الأربع وإعادة التوازن إليها تشكّل جزءاً من العلاج بالتحليل النفسي . وتكوّن هذه الوظائف بنية الموجودات الحية .فإذا حرّرنا , في التحليل النفسي , هذه الوظيفة المكبوتة أو تلك رأينا شخصية المريض تغتني وتتوحّد , مثلها مثل شجرة غير نامية اكتسب بالثمار والأوراق والجذور .

ولنفترض أيضاً رجلاً كبت وظيفة ” الإحساس ” لديه برمتها . . . وكبت كل ما يدور حول هذه الوظيفة . فهو , في الوقت نفسه , يكبت الجزء المؤنث من شخصيته , بالنظر إلى وظيفتي الإحساس والحدس ذواتاً مؤشر مؤنث . ولن يجرؤ أبداً أن يكون سلبياً , ولن يجرؤ أبداً أن يكون مرناً , ولن يجرؤ أبداً أن يستسلم للحب . . . ما دام غير قادر , على الإطلاق , ” أن يكون عفوياً ” . . .

عندما ينطلق المكبوت

ماذا يحدث عندما ” تصعد إلى السطح ثانية ” وظيفة من الوظائف في أثناء التحليل النفسي ؟ يحدث أول الأمر أن يستقرّ ضرب من التوازن , وما كان متضخّماً يزول تضخمه . على سبيل المثال , سيكفّ هذا الرجل , الذي موضوع حديثنا منذ قليل , عن أن يكون عقلانياً بإفراط , ويمكنه أن ” يدع نفسه على عفويتها ” . وسنكون إزاء رجل جديد يعتمد على وظيفتين تتكاملان على نحو يدعو إلى الإعجاب : الفكر والإحساس . وسيكون مختلفاً كل الاختلاف عما كان عليه من قبل . فثمة مجالات كاملة من الحياة تنفتح له , مجالات كان يجهل وجودها .

ويصبح إذن : 1- متصفاً إلى حد كافٍ بصفات الذكورة لكي يفكر بوضوح وصفاء , ويكون فحلاً بدون مبالغة , ويعطي ويحب , ويهدي ويقود , دون أن يكون متبجحاً , 2- متصفاً إلى حد كافٍ بصفات الأنوثة لكي يتلقى , ويكون مرناً , ويتمتع بالحياة , ويستسلم إلى مسراته الداخلية واللاعقلانية .

إنه إذن , وأكرر ذلك , عالم جديد ينكشف عندئذ . ولكن الخطر يظلّ الخطر الذي رأيناه من قبل . فإذا ” اختار ” أحد الرجال أصدقائه وزوجته ومهنته ولهوه , بالاختصار , إذا أقام حياته على ما كان , تعرّض إلى خطر أن يجد نفسه أمام كثير من العناصر التي لا تناسب ما هو عليه . لكنه خطر موجود في كل تحليل نفسي , خطر يتم على الغالب بإبعاده بالذكاء والفهم . والواقع أن هذا الخطر قلّما يُفضي إلى إزعاجات جدية بالنسبة للوسط الذي يحيط به , إلا إذا كنا أمام وسط مصاب بالعصاب على نحو عميق .

(*) المقصود بذلك ” الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث “

دراسة مقتطفة من كتاب لـ بيير داكو بعنوان ” انتصارات التحليل النفسي . ترجمة وجيه أسعد . الشركة المتحدة للتوزيع . الطبعة الثانية 1986 . دمشق سوريا .