°
, December 7, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

الحريـَّة . بقلم : شهيرة شرف

ليس العقل فحسب هو ما يميِّز الإنسان عن سواه من الحيوانات، بل الحريَّة هي العنصر الذي يكمِّل العقل ويجعل الإنسان يفكِّر بفاعلية كبيرة. ذلك أنَّ الإنسان هو عقل وحريَّة، ولو فقد أحد هذين المكونين، لأصبح

إنساناً منقوصاً ومشوهاً، فبفقدان العقل، يصبح مجنوناً، وبفقدان الحريَّة، يتحول إلى عبد.

 

ولمّا كان قد انتهى زمن العبودية منذ عهد طويل وأغلِقَ سوق النخاسة، جاز القول بهذا المعنى: كلُّ إنسان حرّ، لأنَّ الحريَّة هي ماهية الإنسان وجوهره. لكن الحريَّة بهذا المعنى لا تتحقق إلا عندما يكتمل وعي الإنسان بها، فالعبد الغارق بعبوديته ليس حرّاً ولن يكون، ولكنَّه ما أن يعي وضعه يضع قدمه في بداية الطريق إلى الحريَّة.

فالحريَّة هي وعي الضرورة كما وصفها هيغل، إنَّها ضرورة منطقية وضرورة أخلاقية وضرورة أنطولوجية. فهي ضرورة منطقية لأنَّ العقل والمنطق يقتضيان أن يكون الإنسان فرداً حراً، ومن التناقض المنطقي أن تجتمع صفتا الإنسانية والعبودية معاً، وهي ضرورة أخلاقية لأنَّ العبودية لا تتفق والكرامة الإنسانية بوصفها تعني ذاتاً فردية مستقلة وليست موضوعاً أو شيئاً، وهي ضرورة أنطولوجية لأنَّ الوجود الحقيقي للإنسان قائم في هذه الماهية وبدونها يشعر الإنسان باغتراب عن ذاته وعن كينونته. وبالتالي، يتوجب على كلِّ من فقد حريته أن يسعى لاستردادها أو إنتاجها على النحو الذي يرتضيه لنفسه.

من هنا لا تعني الضرورة القسر، لأنَّ الحريَّة هي أن يفعل الإنسان أيَّ فعل، سواء عملي أو نظري، دون أيِّ قسر خارجي، بل الضرورة هي وحدة العمل والنظر، أي وحدة الوعي والفعل.

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق، هل يعيش العرب اليوم في مجتمع الكل فيه عبيد، والحريَّة هي فقط لشخصٍ واحد كما كان المجتمع الشرقي القديم، مع قولنا أنَّ زمن العبودية قد ولَّى؟ أم أنَّ البعض أحرار والبعض الآخر ما زالوا غارقين في عبوديتهم وعبادتهم لسادتهم؟ أم أنَّ الكلَّ أحرار انطلاقاً من قولنا كل إنسان حرّ؟

وإذا كان للحريَّة أنواع مختلفة: حريَّة سياسية، حريَّة دينية، حريَّة أخلاقية، حريَّة الرأي والتعبير، حريَّة اجتماعية، حريَّة اقتصادية،…..الخ. فهل يجب أن يتمتَّع الإنسان بجميع هذه الحريات ويمارسها حتى نقول أنَّه حرٌّ؟ وكيف يمكن أن يكون ذلك دون أن ينتهك حريَّة الآخر؟

قد تكون الإجابة عن السؤالين الأخيرين موجِّهاً للإجابة على السؤال عن حال عالمنا العربي اليوم. فالإجابة عمَّا يتعلق بامتلاك الفرد لأنواع الحريَّة هي الإيجاب، إذ لا ينفصل أي جزء من هذه الحريات عن غيره، فالحريَّة كلٌّ متكامل. غير أنَّ ذلك لا يعني أنَّ الحريَّة مطلقة، بل ثمَّة دساتير وقوانين تنظم الحريَّات العامة وتضع ضوابط لها، ويتعين على هذه الدساتير والقوانين أن تكفل الحريات، بقدرٍ متساوٍ، لجميع المواطنين، وتحول دون أن ينتهك طرف ما حريَّة الطرف الآخر. وهو ما يعني أنَّ الدستور والقانون فوق الجميع، دون استثناء، من حيث أنَّ الدستور هو الضامن لحقوق المواطنين وحرياتهم. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل الدساتير _التي هي من صنع البشر أنفسهم_ قد أعطت الحريات والحقوق، بقدرٍ متساوٍ، بالفعل لجميع المواطنين؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل ما يطبق على أرض الواقع مطابق لما تنصُّ عليه الدساتير، أم أنَّ هذه الأخيرة هي مجرد حبر على ورق؟

والحديث عن الدساتير يفضي إلى الحديث عن طبيعة الأنظمة الحاكمة التي تحكم وفق هذه الدساتير أو التي تؤول الدساتير والقوانين وفقاً لما ترى أنَّه “الطريقة الصحيحة” في حكم الشعوب، وهي رؤية تسمح لنا بمقاربتها _فيما يتعلق بالحريَّة_ من وجهة النظر المنطقية.

ولما كان المنطق يجسد طريقة في التفكير البشري، فقد تجلى هذا التفكير بداية في المنطق ثنائي القيم الذي شطر كل ما في الوجود إلى ثنائيات متناقضة وفصل فصلاً حاداً بين هذه المتناقضات. غير أنَّ هذا الفصل لم يكن مرضياً للفكر البشري فكان التطور بولادة منطق متعدد القيم الذي يبدي تسامحاً مع بعض القيم. وأفضى تطور الفكر البشري، من جديد، إلى ولادة المنطق الضبابي الذي يمثل رؤية أكثر ثراء في النظر إلى العالم.

وعلى ذلك، فالأنظمة الديكتاتورية تجسِّد منطقاً ثنائي القيم، وهو منطق لا يعترف سوى بقيمتين للصدق يمثلهما الصدق المحض _الواحد_ والكذب المحض _الصفر. إنَّه منطق الإقصاء والاختزال، فهو يختزل جميع القيم في الواحد والصفر، بل هو لا يعترف بالصفر إلا ليكرِّس الوجود الوحيد للواحد. فالواحد هو من يمثِّل الحقيقة أو هو الحقيقة بعينها وكل ما عداه هو زائف وباطل، الواحد هو الوجود ونقيضه هو الصفر العدم، الواحد هو الحاكم السيد الإله ونقيضه هو الصفر المحكوم العبد، الواحد هو الحريَّة المطلقة والحقيقة المطلقة والوجود المطلق، والصفر هو العبودية والزيف واللاوجود،…..فالواحد هو كل شيء ونقيضه هو لا شيء. إنَّها رؤية متطرفة في النظر إلى العالم، لا ترى إلا الأبيض والأسود من الألوان، ولا تفهم إلا الصداقة والعداء من العلاقات، فإنَّ لم تكن معنا، فأنت ضدَّنا ؟!

ولكن، إذا كانت هذه الأنظمة لا تعترف بغير الواحد بوصفه ممثلاً للحريَّة والحقيقة، وإذا كانت الحريَّة هي وحدة الوعي والفعل، فهل يعي هذا الواحد استبداده واستغلاله وفساده وكذبه؟ أي هل هو حرٌّ بالفعل؟ الجواب على هذا السؤال هو النفي، فلا يمكن للمستبدِّ أن يكون حراً، لأنَّه عبد لسطوته واستبداده، يسلب كلَّ من عداه حقَّه في الحريَّة، بل يحوِّل ما عداه ومن عداه إلى امتداد لجسده، والمستغِلُّ عبدٌ لجشعه يستغل الآخرين وينهبهم، ولا يستطيع التحرر من طمعه اللامحدود، والفاسد عبد لأنانيته يسعى لتدمير كلِّ ما حوله ولإفساد كلِّ من حوله، فهو عدوٌّ لنفسه قبل أن يكون عدو الوطن والبشر، والكاذب عبد لأوهامه، يكذب ليحافظ على صورته في عيون البشر خوفاً أن يفقد هيبته.

فالحريَّة إذاً بعيدة كلَّ البعد عن هؤلاء، لأنَّ في فعل كلٍّ منهم سلبٌ لحقوق الآخرين، والحريَّة حقٌّ لكلِّ إنسان “ولا يضادُّ الحقُّ الحقَّ، بل يوافقه ويشهد عليه”. وبما أنَّ الحريَّة اختيارٌ وليست قسراً، فلا يختار الحرُّ أن يكون مستبدَّاً، ولا مستغِلاً، ولا فاسداً، ولا كاذباً، لأنَّ في هذه الصفات عبودية تفوق عبودية المجتمع الشرقي القديم.

أما أنظمة الحكم التي تدَّعي الديمقراطية _أعني الديمقراطيات المزيفة_ فهي تجسيد للمنطق متعدد القيم، وهو منطق يسمح بقيمة واحدة، على الأقل، تتوسط قيمتي الواحد والصفر. ووفقاً لهذا المنطق، يُصنَّف الأفراد وفق تراتب هرمي يفرض صراعاً يحتِّم على الفرد إما بأن يصعد إلى الأعلى أو أن يهبط إلى القاع، ولأنَّ رأس الهرم لا يتَّسع إلا لفرد واحد، فيتعيَّن على من يحظى في الوصول إليه أن يزيح من سبقه فيه. إنَّها رؤية أقل تطرفاً من سابقتها _أعني رؤية المنطق ثنائي القيم_ وأقل إقصاء للآخر لكونها تفسح في المجال للبعض بالتعبير عن ذواتهم، ولذا فالحريَّة وفقاً لهذه الأنظمة هي للبعض وليس للكل، لكونها تبقي على الأكثرية بمنزلة قريبة من قاعدة الهرم، أي بمنزلة قريبة من الصفر، وتتفاوت، بطبيعة الحال، طبقات الهرم باختلاف درجات الحريَّة والديمقراطية التي يحظى بها الأفراد، في هذا المجتمع أو ذاك. ولئن كان البعض أحراراً، فإنَّ حرياتهم تبقى جزئية ومحددة بخيارات ضيِّقة.

أما أنظمة الحكم الديمقراطية الحقيقية، فهي تجسيد للمنطق الضبابي _أو منطق لانهائي القيم_ وهو منطق يسمح لجميع القيم التي تتوسط الواحد والصفر _ وهي قيم لا نهائية_ بأن تعبِّر عن ذاتها. وفي المنطق الضبابي لا يُصنَّف الأفراد وفق تراتبية هرمية ولا يُختزَل أحدٌ منهم، بل يوضع الجميع على مستو واحد من الحريَّة، والشكل الدائري هو الشكل الأمثل الذي يجسد هذا المنطق. إذ يتقابل البشر مع بعضهم بوصفهم ذواتاً حرة، ويمكن للدائرة أن تتسع دون أن تقصي أحداً، كما أنَّها تتصل مع دوائر وحلقات أخرى في حركة أشبه بحركة الدوامة أو ما يسمى بالحركة اللولبية التي تعبر عن تقدم المجتمع وتطوره. وفي هذه الأنظمة، تصبح التعددية والاختلاف _سواء الديني أو الطائفي أو السياسي أو العرقي_ مصدر إثراء وغنى للحياة، إذ يجسد كل منها درجة من درجات الصدق لأنَّه ليس ثمَّة حقيقة مطلقة، بل كل مظاهر التعددية تمثل لوناً مختلفاً من ألوان حجاب إيزيس المتعدد الألوان، وكل منها يمثِّل صوتاً من كونشرتو أصوات الحقيقة النهائية، إن وجدت. ففي هذه الأنظمة، الكل أحرار والكل متساوون في الحقوق والواجبات.

غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ المنطق الضبابي يخلو من بعض المساوئ أو العيوب، كما هو الحال مع الأنظمة الديمقراطية، ولكن هذا المنطق هو الأفضل لمعالجة الأنظمة المعقدة في العلوم، بصورة عامة، وفي علم السياسة، بصورة خاصة. كما أنَّنا لا نعني أنَّ المجتمعات التي يتمتَّع جميع أفرادها بالحرية هي مجتمعات ديمقراطية، إذ قد يكون الكل أحراراً في مجتمع غير ديمقراطي، ولكنَّ المجتمع الديمقراطي يكون أفراده بالضرورة أحراراً.

وعليه، فالتطور الطبيعي الذي يجب أن يترافق مع التطور المنطقي للفكر البشري هو ذلك التطور الذي يجب أن يكون الكل فيه أحراراً. ولا نعني هنا، بطبيعة الحال، ضرورة أن يكون تطور الأنظمة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية الحقيقية، مروراً بالديمقراطية المزيفة، على غرار تطور المنطق، بل ما نعنيه، في نهاية المطاف، هو ضرورة أن يكون الجميع أحراراً. وهي ضرورة تفرض على من فقد حريته المسلوبة التمرد والمقاومة ليستردها، بعد أن أصبح على وعي بأنَّ أحداً سلبه إياها. فالحريَّة بهذا المعنى سلبٌ للواقع القائم وتمرد ورفضٌ لكل أشكال القمع والاستبداد والإقصاء، وهي مطالبة بأن يكون الجميع تحت القانون والمساءلة، وهي الدعوة بأن يكون الوطن لجميع أبنائه. ومطلب الحريَّة هو استنكار بل تدمير لكل القيم التي سادت وتنامت في ظل الأنظمة الاستبدادية، أو في الديمقراطيات المزيفة، ولا يمس التدمير هنا بطبيعة الحال قيم مقاومة الاحتلال ورفض ممارساته، بل تدمير القيم التي ساهمت وتساهم في إقصاء الفرد الفاعل، واستبدالها بالقيم التي تفضي إلى ولادة الإنسان الفرد الحرِّ القادر على ممارسة دوره على كافة الأصعدة، مطلب الحريَّة هو رفض لاختزال الوطن في فرد واحد حرٍّ، أو منح الحرية للبعض دون الكل، وتحويل الآخرين إلى عبيد لا يملكون إلا أن يكرروا ما يقوله السيد. الحريَّة هي تحرر من خوف ورهبة يدفع بصاحبه إلى الاختيار بين الحياة الحرة أو الموت. الحريَّة هي نفي للمفاهيم السائدة، لا سيد ولا عبد، بل الجميع أحرار.

المصدر : . . موقع الأوان