قرية بشراغي
…. ما للفَراشةِ تَنِي عَنِ التَّطوافِ حَوْلَ لألأِ الحياةِ وتلصِق جناحيها الملونين على أزهار الروض ساكنة بلا حراك ؟! وقد كانت من قبل أُنس الخميلة , وحيلة الغدير , وجمال المروج .
ما للبلبل يلوي رأسه الصغير على صدره , ويدفن منقاره الدقيق في ريشه , ويكف عن التغريد ؟! وقد كان و تر الطبيعة الساحر , ولحنها الشاعر , وأغرودة سواقيها الثَّرةِ .
ما للشمس تدنو إلى المغيب وهي ما برحت تسبح في رَأدِ الضحى ؟! وما للروض يشرف على الذبول وهو مازال يخطر في ظل الربيع ؟!
ما للبطولة تُغْفِي بين ذراعي الردى تعالج سكراته , والسنا لا يفارق جبينها المشرق , والتألق لا يَرِيمُ عن وجهها الوضاء .
ما للموت يريد أن يسكت وجيب القلب الذي ما خفق بغير الطُهر , ويطفئ وميض العينين اللتين ما حدقتا إلى غير العفة , ويميل الرأس الذي ظل مرفوعاً على الرغم من الأحداث والنوائب .
ما لِرَندَة أخت الموت لا يرفق بها أخوها الموت ؟!
وما لأخواتها المجاهدات صديقات المنون يشفقن من صديقَتِهن المنونِ , ويلوين أعناقهن عنها .
وما للشيخ الذي هز منكبيه للأحداث يغشى وجهه اليوم الحزن ويلوح على عينيه الشجن ؟!
أذلك كله من أجل رندة التي تحث خطاها إلى القبر ؟
وصحت ( رندة ) صحوتها الأخيرة , وفتحت جفنيها اللذين كَسَّر الردى , وأدارت عينيها الغائمتين وجعلت تغالب المنية وهي تقول :
ادفنني – عمركن الله – في مكان قصي عن هؤلاء الغزاة , فأنا أكره أن تدنس أقدامهم رمسي .
أرفعني قليلا عَلَّي أرى ( الشيخ بدر ) قبل أن يغمض الموت عيني وأبصر البيت المعلق على الذروة , والأم العجوز التي خلفتها وحدها فيه , وهي تترقب أن تعود إليها ابنتها . . . التي لا تعرف عنها شيئاً إلا أنها مضت في سبيل الله .
أقرئنها السلام مني , واسألنها الصفح عني , وواسينها إذا كُتِبَتْ لَكُن العودة إلى هناك , فقد غدت وَحِدَةً .
لا تضقن ذرعاً بي – عَمْرَكُنَّ الله – فليس بيني وبين الموت إلا لحظات .
دَثِّرنني . دَثِّرنني , فبرد الموت يُرْعِدُ أوصالي .
بل حَدِّثنني حديث البطولات فهي التي تبعث الدفء في جسدي المَقْرورِ .
حَدِّثنني عن المعارك التي تزمعن خوض غمارها .
ولي عليكن عهد الله أن تزرن قبري , وأن تَزفُفن إلى كل نصر يصيبه بنو قومي .
حدثنني عن بطولات أحمد , فقد أصبحت لا أغار من ترديد اسمه على شفاهكن . . .
وانهلَّت من عيني رندة عبرتان تحدَّرتا على الخدَّين اللذين لم تنل صفرة الموت من بهائهما شيئاً , ثم أدارت مُقلتيها المنهوكتين نحو الشيخ وهي تقول :
أزل عن عينيك هذا الشجن , فأنا أرجع إلى ربي مطمئنة النفس راضية مرضية .
ها أنا ذي أرى الجنة مفتحة الأبواب .
ها هو ذا رضوان على عتباتها يتأهب لاستقبالي .
إنه سيقود خطاي إلى حيث يثوى الشهداء والصديقون ومعهم أحمد .
عمي الشيخ :
رَدِّدْ على مسمعي الشهادتين , وندِّ احتضاري بالقرآن .
وحاولت أن تمضي في حديثها فجف ريقها , وخانتها قواها , وأدركها الإعياء , ثم أغمضت عينيها , وأخذها الموت بين ذراعيه .
ومد الشيخ المحزون يده فردَّ على الوجه النبيل فَضْلَ المُلاءةِ , وانهلَّت من عينيه عبرتان كانت أبلغ من كل رثاء , وبارح الحجرة .
وقامت رفيقات رندة ينضين عنها ثيابها التي صبغتها الدماء , فما لبثن أن فغرن أفواههن دهشة حين رأين تحت صِدار الفتاة الشهيد ثلاث رايات فرنسيات : ثِنْتَينِ منها مطويتين بأناة , أما الراية الثالثة فقد كانت لا تزال ندية بالدماء .
وعند الأصيل دَفَنت قرية ( بِشْرَاغي ) رندة في ظل دوحة باسقة من أشجار السنديان . ونَّدت نساء القرية رمسها بالدموع ونثرن عليه الريحان والسوسن , والنسرين , فقد كانت تحب هذه الأزاهير كثيراً .
وعاد الفلاحون إلى القرية محزونين وهم يرون في أسىً لاذعٍ حديث الكارثة التي اجتاحت المجاهدين .
وذاع بين الناس أن الجيش الفرنسي كان يود أن يحتفل بالنصر الكبير , لولا أن قائده وُجد مقتولاً في مقر القيادة , وقد اختطفت الراية الصغيرة التي كانت فوق مكتبه .
رواية ” الراية الثالثة ” رواية تاريخية فازت في مسابقة وزارة التربية والتعليم بقلم ” عبد الرحمن الباشا ”
صادرة عن المطبعة الجديدة في دمشق 1962 – 1963