°
, December 7, 2024 in
آخر الأخبار
الشــيخ صالح العلي

لقاء بانياس بين الشيخ صالح العلي والجنرال شارل دي غول

اندلعت الحرب العالمية الثانية في أيلول 1939 وحشدت فرنسا جيوشاً جرارة في ” خطوط ماجينو المحصّنة ” على الحدود الألمانية إلا إن الجيوش الفرنسية انهزمت أمام الجيوش الألمانية الزاحفة من الشمال عن طريق بلجيكا في حزيران 1940 , ووقّعت فرنسا هدنة مع الألمان , ثم لجأ دي غول

إلى بريطانيا وأعلن في 18 حزيران 1940 رفضه الهدنة الموقعة ومتابعة الحرب على الألمان .

الجيش الفرنسي في سوريا ولبنان كان بمجمله تابعاً لحكومة ” فيشي ” الموالية للألمان , ودي غول كان يُمنّي النفس بانقلاب على الجنرال دانتر داخل الجيش الفرنسي في سوريا ولبنان ينضم على أثره هذا الجيش إلى قوّات فرنسا الحرة …

الجنرال شارل ديغول

في محاضرة يلقيها الجنرال دي غول في بيروت في أول خريف 1941 يقول : ” حق تنظيم استقلال سوريا ولبنان يعود إلى فرنسا وحدها , نظراً لحقوقها ولمركزها الخاص الناشيء عن ممارستها الانتداب مدّة طويلة .” يعكس هذا القول صراع خفي بين قوى الحلفاء: الولايات المتحدة الأمريكية وانكلترا …. وفرانسا… إضافة لصراع هذه الدول المجتمعة ككتلة واحدة.. ضد ألمانيا وايطاليا …

في حمأة هذا الصراع بين مصالح الأمم , يغتنم السوريين ,ومن ضمنهم الشيخ صالح العلي ,هذا الصراع لتحقيق انتصارات سياسية جديدة وصولاً للاستقلال ( خاصة أن السوريين نجحوا في عقد معاهدة 1936 مع الفرنسيين , وهي مهمة ومفصلية في مرحلة ما قبل الاستقلال ,كونها تضمنت نقاط عدة لصالح الشعب السوري ) وبدأت سلسلة طويلة من الاتصالات بين الزعامات السورية.

التقى الشيخ صالح العلي بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية بالسياسي هاشم الأتاسي والسياسي شكري القوتلي وغيرهم من السياسيين في الكتلة الوطنية وغيرها من الكتل السياسية السورية بشكل دوري , وكان غرض هذه اللقاءات تحسين موقع السوريين في أي عملية سياسية أو عسكرية قادمة تجاه فرنسا , وفي الجانب الأخر كان الجنرال دي غول قائد قوات فرنسا الحرة يُعاني من سيطرة فيشي” الموالي للألمان” على مجمل الجيش الفرنسي في سوريا ولبنان من جهة وباريس محتلة من جهة أخرى , وبنفس الوقت يعاني من منافسة تصل لدرجة العداوة مع ” الحليف ” انكلترا , في منطقة سوريا الطبيعية التاريخية – بلاد الشام والعراق – ,فحاول الاستعانة بجهود سكان المستعمرات – بما في ذلك سوريا ولبنان – لتعزيز موقفه في الصراع المزدوج ,عبر وعد السوريون بالاستقلال وتخيير اللبنانيين بين الاستقلال أو البقاء ضمن سوريا في حال تمت مساعدته من قبلهم وتحقق تحرير فرنسا …

في هذا الصدد وبتاريخ 1941 – كما يُعتقد – يلتقي الجنرال دي غول  الشيخ صالح العلي في مدينة بانياس الساحلية السورية في قصر ” بيت تحّوف ” ( هذا قول ، و قول أخر هناك يقول : بأن اللقاء تمّ  ليس بقصر بيت تحوّف  بل بدارة الشيخ صالح العلي بقرية الرّستي أحد أحياء الشيخ بدر حالياً  ) وقد سبق ذلك مراسلات غير مباشرة بينهما .. يُقدم دي غول – بعد تداول عبارات البرتوكول-  في بداية اللقاء كهدية للشيخ صالح العلي ساعة ماركة ” لونجين ” برقم ” 8″ , ثم يتم الحديث بينهما ,حول الوضع السوري العام ,ومستقبل سوريا حال رجوح الكفة لمصلحة فرانسا وبقية الحلفاء في الحرب , ودور السوريين في مساعدة قوات فرانسا الحرة من أجل تحرير فرانسا والضغط على  القوى المناوئة للحلفاء في المنطقة , كل ذلك على ضوء حالة فرنسية جديدة عُبّر عنها لاحقاً في تصريح رسمي من اللجنة الوطنية لفرنسا الحرة برئاسة دي غول في لندن مؤداه:

” إنه نتيجة الوضع العسكري للحلفاء في الشرق الأوسط بات بإمكانهم تطوير الوضع بسوريا نحو حكم ديموقراطي شعبي “

تطرق دي غول في اللقاء مع الشيخ إلى التركيبة السكانية لسوريا والتوازنات الإقليمية والدولية وتوزعاتها بين الحلفاء وشركاء ألمانيا في الحرب , وأبدى دي غول ملاحظة حول مساع تركية لتقويض الوضع السوري الحالي والمأمول من خلال سعي عثماني – تركي جديد عبر شخصيات  ” سنية “… مُعتبراً أن  “العلويين ” يشكلون ” ضمانة ” من أجل مستقبل سوريا المأمول في الاتجاه الديموقراطي , تحدث عن النسب المُشكّلة للمجموع السوري , سائلاً الشيخ صالح وبشكل عارض عن نسبة  ” السنة ” ونسبة  ” العلويين ” وتطرق الى دور ” العلويين ” و دور رئيس مأمول للشيخ صالح في قيادة مستقبل سوريا … يجيب الشيخ صالح العلي إن نسبتهم ” أي السنة ” هي ” 100 % ” … يستغرب دي غول هذا الجواب من الشيخ . خاصة أن نسبة كل عنصر أو طائفة في سوريا بالنسبة لمجمل عدد السكان أمر معروف , ومدروس من الفرنسيين فما بالك بشارل دي غول , … وبالطبع إجابة الشيخ لا تستقيم وهذا الواقع …

الشيخ صالح العلي

ثم يتابع الشيخ صالح العلي موضحاً دور ” السنة ” خاصة , في تحرير سوريا من العثمانيين ومن ثم تطور هذا الدور الوطني ضد الانتداب الفرنسي , مُعتبراً أن هذا الدور لم يظهر فقط عند الانتداب الفرنسي كصراع ديني بل نتج بدءاً عن وعي وإدراك ” السنة ” في سوريا والعالم العربي لدور العثمانيين في استغلال ” السنة ” قبل غيرهم عبر تبني المذهب الحنفي من أجل تحقيق أغراضهم العثمانية الخاصة ,على حساب حقوق بقية رعايا ” الدولة العلية ” , وهو أمر- حسب الشيخ – أوصل مواطني سوريا والعالم العربي لهذا الدور في تبني المشروع الوطني والدفاع عنه , مُلمّحاً أن ” الدور العثماني ” في تبني شعار “” العثمانيين حماة الإسلام”سابقاً , يُماثل طرح الدولة الفرنسية شعار ” فرنسا الأم الحنون ” لجذب المسيحيين وبقية ” الأقليات ” في سوريا . مُعتبراً إن إقصاء السنة السوريين عن الفعل الرئيس بالحياة السياسية أمر غير مقبول تحت أية ذريعة . خاتماً قوله ” إذا كان المستهدف هو ” السنة ” فكلنا سنة في سوريا “ مما أعطى رسالة مختلفة من الشيخ للجنرال في هذا الصدد …..

الرئيس هاشم الأتاسي

وباعتبار أن الهدف الرئيس والمُعلن من اللقاء المشار إليه أنفاً ( كان استمزاج الآراء حول مستقبل سوريا والتوافق على قيادتها بعد تلبية فرنسا ” شارل دي غول ” لمطالب السوريين في حكم وطني خاصة بعد وعد السوريين  بمساعدة قوات فرنسا الحرة بالحرب ضد الألمان . حيث قُتل كثير من السوريين في معركة تحرير باريس وغيرها -لاحقاً – من القبضة الألمانية …), فقد اعتبر الشيخ – مجيباً دي غول – أن السياسي السوري السيد هاشم الأتاسي1 هو الأقدر حالياً على تولي منصب رئاسة الجمهورية السورية في حال تحقق وعد الفرنسيين باستقلال الدولة السورية. (هذا الرأي حول السياسي هاشم الأتاسي كان من ضمن رأي كثير من القوى السياسية السورية حول شخصية السيد الأتاسي الوطنية حيث أن دي غول قد سمع هذا الرأي من كثيرين في معرض لقاءات متكررة مع شخصيات وقوى سورية متعددة ) .

طبعاً هذه المناورة السياسية لفرنسا عبر دي غول- للعب على تنوّع المجتمع السوري – لم تكن أمراً ناشزاً في السياسة الفرنسية أو في سياسات بقية الدول المتصارعة على الأرض السورية.. إن نظرة متأنية لخريطة سوريا وفق تصوّر و تحديد مندوبي المؤتمر السوري الأول والثاني ( وهم ممثلي الشعب السوري والقوى السياسية على الأرض السورية ) وكيفية تقلُّصها تُنبىء عن ذلك .

ونورد هنا مثالاً لتوضيح ذلك :

وهو موقف السيد صبحي بركات الذي بدأ مجاهداً ضد احتلال الدولة العثمانية لمنطقة لواء اسكندرون .. , ليقوم لاحقاً وبتكليف فرنسي بمنصب رئيس الاتحاد السوري في بداية الانتداب .. ومن ثم قيادة اللوائح الانتخابية الموالية للفرنسيين في لواء اسكندرون بعد تحريره .. , وعندما خذلته السلطات الفرنسية عام 1932 ولم تسمح له الفوز برئاسة الجمهورية , عاد وأعلن بعض المواقف الوطنية .. , إلى أن تم سلخ لواء إسكندرون عن سوريا ” في لعبة مصالح الأمم بين تركيا والدولة الفرنسية المنتدبة ” فقامت تركيا باستمالة السيد صبحي بركات فعاد إلى لواء الاسكنرون حيث ترشح وفاز بالنيابة بمجلس النواب التركي عام 1939 عن لواء اسكندرون …

هذا المثال يوضح تأثير المناورات السياسية الفرنسية وغيرها في إيصال سوريا لهذه الخريطة الصغيرة مقارنة بالخريطة السورية التي تبناها السوريين عبر ممثليهم في المؤتمر السوري المنوه عنه أنفاً .. ويمكن الإشارة إلى أن هذه المناورة – ومناورات أخرى مشابهة وبنفس السياق – مورست في فصل جبل لبنان عن سوريا باستمالة أشخاص وعائلات عبر الإغراء بالمال و بالمناصب من أجل تحقيق الكيان اللبناني واقعياً . وهو ما يمكن تلمسه أيضاً بتشكيل إمارة شرقي نهر الأردن وفصلها عن متصرفية درعا وكذا الأمر في جنوب سوريا المتمثل بفلسطين ….

في وقت لاحق وعندما يُسأل الشيخ صالح عن لقائه مع شارل دي غول و يُلام على موقفه وعدم  تلقّفه  إشارة دي غول لقيادة ” العلويين ” لسوريا . ( خاصة أن الشيخ قد رفض في عام 1921 مشروع ” الدولة التي سميت لاحقاً ” حكومة اللاذقية ” والتي كان مخططاً لها أن تضم الأرض السورية الواقعة بين منبع العاصي ومصبه إلى البحر. ” من الملفت وخلاف لما هو متعارف عليه إن زعامات من الطوائف الأخرى سنة ومسيحيين بمختلف طوائفهم وإسماعيليين … إضافة لزعامات علوية كانت من المطالبين بهذه الدولة؟!.. .)

على الأرجح أن هذا السؤال تم في عام 1947 كان جواب الشيخ صالح عليه : ” أن أية أقلية دينية أو عنصرية أو حزبية  لن تتمكن من قيادة سوريا , باعتبارها لا تمثل غالبية من مجموع السوريين . وبالتالي لن تستطيع النهوض بسوريا  , وفي حال تم ذلك – حكم الأقلية – فإن استمرارها رهنٌ بالدعم من قوى خارجية مما يُضعف هذه الأقلية ويُضعف بقية السوريين , ويضعها في مواجهة الأكثرية , ويجعل سوريا مرهونة للخارج وفي حالة ضعف وتداعي ” .

الرئيس شكري القوتلي

في 1943 تتم الانتخابات النيابية السورية – حيث دعم الشيخ صالح العلي كتلة برلمانية في الساحل السوري وسعى لنجاحها- وبعد أن توافقت كل الأطراف السياسية في سوريا على ترشيح السياسي السيد هاشم الأتاسي كمرشح وحيد لأول رئاسة للجمهورية السورية بعد الاستقلال ” ,و ليس الجلاء لأن الجلاء تم في عام 1946 ” , يفاجىء السيد هاشم الأتاسي في حمص بزيارة وفد سياسي من دمشق مؤلف من السيد فارس الخوري و السيد لطفي الحفّار وغيرهم … ويتم إبلاغه برغبة السيد شكري القوتلي ترشيح نفسه للرئاسة إذا لم يكن لدى السيد هاشم الأتاسي اعتراض على ذلك … فأجابهم السيد هاشم الأتاسي بأن لا اعتراض له على ترشُّح السيد شكري القوتلي للرئاسة ؟! ….. ليتم انتخاب السيد شكري القوتلي كأول رئيس للجمهورية السورية …

بانياس . البيت الذي تم فيه اللقاء بين الشيخ صالح العلي والجنرال شارل ديغول.

تصوير توفيق بيطار

1 أول اتصال يمكن توثيقه بين السيد هاشم الأتاسي وبين أسرتنا ” أسرة الشيخ صالح العلي” تم على الأرجح حوالي عام 1900م عندما حضر السيد هاشم الأتاسي بصفته قائمقام بانياس إلى منزل الشيخ على سلمان ( والد الشيخ صالح العلي وهو وجيه ورجل دين وخطيب وشاعر، زعيم عشيرة البشارغة – المحاوزة  ) . الذي كان كارهاً للعلاقة مع موظفي الدولة العلية العثمانية بسبب سوء أخلاقهم وبطشهم وسرقتهم للناس وفق رأيه , إلا أن سلوك القائمقام هاشم الأتاسي الوطني وصيته الأخلاقي الحسن , دفع الشيخ علي سلمان إلى دعوته على الغداء في دارته في المريقب – الشيخ بدر , ويبدو أن هذه العلاقة تعَّمقت وترسَّخت بين الشيخ صالح العلي والسيد هاشم الأتاسي بعد وفاة الشيخ علي سلمان وتواصلت عبر أمي حفيظة الشيخ صالح العلي ووالدي الشيخ محمد عيسى آل الشيخ ابراهيم و حتى وفاة المرحوم السيد هاشم الأتاسي وذلك بزيارات متكررة ومتبادلة.

2 المصدر : بخصوص ضبط التواريخ والكلام المقتبس بما بخص الوضع الفرنسي إعتمدت بشكل رئيس على كتاب ” هاشم الأتاسي حياته – وعصره ” للمؤلف محمد رضوان الأتاسي ” حفيد المرحوم هاشم الأتاسي ” طبعة ثانية دمشق سوريا . وبخصوص لقاء الشيخ مع ديغول فهو لقاء معروف ومتداول الحديث عنه وعن بعض تفاصيله – خاصة في الجبل والساحل السوري- وقد اعتمدت بشكل رئيس بالنسبة لتفاصيل اللقاء وتاريخه على حديث زوجة الشيخ : ستي : فضه أحمد حسين , وأمي: حفيظة الشيخ صالح العلي , وبيي : الشيخ محمد عيسى آل الشيخ ابراهيم مُتقاطعاً مع  ما هو متداول بين الناس .

عيسى ابراهيم