°
, December 9, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

الحلقات الذهبية

خطاب الحلقات الذهبية

أقامت جمعية الحلقات الذهبية في بوسطن في 25 شباط 1911 حفلة دعت إليها جبران ليكلمها عن الحالة في سورية وبعد توطئة فلسفية في علاقة الجمعيات بتقدم الشعوب والأمم قال :

” لقد تلطفت ووضعت اسمي في صدر كتاب لم يكتب بالحقيقة إلي بل إلى فكرة جديدة علوية تضم فئة من الفتيان المتيقظين مثلما يغمر ضباب الفجر طائفة من الأشجار والأنصاب المزهرة في حديقة بعيدة عن سبل الزمن.

لا يا أخي لم يكن كتابك موجها إلي بل إلى اليقظة التي راودت أجفاننا إلى الربيع الذي أذاب ثلوج شتائنا وبث في عروقنا رحيق نيسان و كوثره وأبدل الجمود في أرواحنا إلى حياة خضراء تمزق بعزمها الأكفان التي وضعها التقليد والتقاليد حول أيامنا وليالينا .

أما قول الناس أننا أصحاب بدعة فحقيقة لا نكتفي بالسكوت عنها بل نفاخر بها فنحن أصحاب بدعة ونحن من الخوارج ونحن من المتمردين والثائرين الذين يسعون نحو المدينة المقدسة. ولكن على سبل ما نعمت تربتها القوافل ولا ألقى الموت العظام والجماجم على جنباتها .

أي والحق أننا من الخوارج بيد أننا لا ولن نتبع نبيا مقنعا ولو حاولنا لما استطعنا. فالمسافة بين المدينة المقدسة وخراسان لأبعد من المسافة الكائنة بين زحل والمشتري .

ومن يقابل الشمس بوجه مسفر ولو مره واحدة لا يلتثم أبدا ومن يجلس ولو دقيقة على مائدة الحياة يأبى الوقوف بين القبور ومن يسكر من نغمة الناي لن ينبهه نقيق الضفادع وعويل بنات آوى .

والجمعيات يا سادتي تبين أخلاق الرجل وقدره مثلما تعكس المرآة الأشباح التي تنتصب أمامها , وأنا من القائلين بأن ارتقاء كل أمة وكل جامعة متعلق بأفرادها , فالفرد الواحد هو المكفل بسعادة أو شقاء المحيط الذي يعيش فيه – إن الفرد الواحد يستطيع أن يؤثر على أمته وبلاده تأثيرا حسنا أو سيئا على قدر ما وهبه الله من الفضائل أو أعطاه إياه الشيطان من الشرور .

أقول ذلك وأنا معتقد أنه لا يوجد قوة تحت الشمس تقدر أن تنهض بالأمم الشرقية سوى اتكال الأفراد الشرقيين على نفوسهم. أما اتكال السوريين على حكومتهم المحلية, أو على دولتهم الدستورية فهو نوع من الجنون بل هو الحماقة بعينها. ولا أعزو هذا الاتكال الأعمى إلى غير قوة الاستمرار التي تحيط عادة بأرواح الضعفاء المتمردين مثلما الدولة العثمانية لا تستطيع إصلاح شؤونها لأنها أفسدت وخربت وأهملت ممالكها خمسة أجيال طوال حتى امتلك الانحطاط نفوس رعاياها وامتص الضعف دماء قلوبهم و اقعد التردد ركابهم , وأوقفت الجباة سواعدهم فصاروا عبيدا وسيبقون هكذا حتى يبعث الله المشرق قوة جديدة .

إن الآمال التي يعلقها المتهوسون بالحكومة النيابية هي كالأمل الذي يشعر به أهل المريض المنازع باليقظة القصيرة التي تجيء قبل موته .

وتلك الفئة التي يدعونها بفئة الأحرار فهي وان تكن قادرة على إعلان الدستور وخلع عبد الحميد, والسعي وراء الإصلاح الموهوم, فهي لا تريد أن تتنازل عن حلقة واحدة من تلك القيود والسلاسل التي قاد بها السلاطين مواكب الأمم العثمانية. وجل ما يبتغيه أحرار الترك الآن هو إيجاد حكومة دستورية لهم و حكم مطلق على العرب والمتكلمين باللغة العربية.

وهذا هو الفساد الوضعي الذي لا نستطيع إزالته من رؤوسهم وقلوبهم .

ومن يا ترى يلومهم على ذلك وهذه السياسة هي نوع من المحافظة على الذات ؟ فهم كخلفاء وورثة للسلاطين الفاتحين يهمهم بقاء هيبتهم ونفوذهم إلى ما شاء الله .

( تصفيق ) .

ولكن إذا كانت هذه هي الطرق التي يسلكها الأتراك ليبقوا لهم السيادة على الأقطار التي احتلها جدودهم واستبدوا بأممهم خمسة أجيال متتابعة , فهل يبقى السوري راضيا آملا مشغولا في بلاده وفي أرض غربته بالتبخير والتمجيد والإهمال والاتكال والأماني الفارغة ؟

” تقولون – إذا ماذا يفعل السوري إذا ما سلبته أمله بمستقبل الدولة وإصلاح البلاد التي ولد وعاش فيها ؟ وهل يتجنس بجنسية البلاد التي يهاجر إليها أو يطلب المساعدة من الدول الأجنبية ملقيا ظهره الضعيف إلى قوة القوات الأورباوية فيتشبث الدرزي بإنكلترا والأرثوذكسي بروسيا والماروني بفرنسا ؟هل نفعل مثلما فعل آباؤنا وجدودنا ؟ كلا ثم كلا .

إن من يفرغ قلبه من أحلام وأوهام الدولة العثمانية لكي يملأه من مواعيد ومطامع الدول الأجنبية يكون كالهارب من النار إلى الجحيم .

فليس للسوري سوى الاتكال على نفسه والاستناد إلى قواه ومواهبه والرجوع إلى ذكائه ونبوغه .

اعلموا يا سادتي إن الريال الواحد الذي يكتسبه أحقر متجول في الولايات المتحدة تكتسبه سوريا جمعاء وتضيفه إلى ثروتها وتنمي به تجارتها . وثقوا أن كل كلمة يتعلمها أصغر تلميذ في أصغر مدرسة أميركية تتعلمها جميع شعوب سوريا في المستقبل .

إن الحكومة في سوريا لا تصلح الطرقات و لا تمهد سبل المواصلة بمسؤولية السوري الذي يدرس الآن فن الهندسة العملية التي سيعلمها . إن الدولة العثمانية لا تهتم إلا بالكلام بإصلاح الزراعة في سهول سوريا.

ولكن الفتى اللبناني الذي يدرس أصول الزراعة هو الذي سيصلحها. إن الدولة العلية لا تنشط التجارة في البلاد التي جعلها الله بابا للشرق ولكن السوري الذي علمه الفقر والاغتراب المباديء التجارية هو الذي سيذيق الأمم الشرقية لذة الربح والاكتساب .

إن المعرفة والثروة والاستقامة وحرية القول والعمل وكل ما يجعل الإنسان شبيها بالآلهة يجيء بجهاد الفرد واجتهاده.

ولا يمكن الحصول عليه بالتحزب السياسي والانتماء إلى الدولة والاتكال على الدستور .

ليكن السوري ذا أخلاق ومعرفة وحرية وثروة وبعد ذلك ليكن بغير وطنية إن شاء , وأنا أكفل دخوله السماء السابعة . ( تصفيق ) علموا أولادكم الرجولية الحقيقية فلا يهمهم إذ ذاك خلع عبد الحميد أم لم يخلع . هذبوهم حسنا يعيشون حسنا في ظل الحكومة الظالمة والعادلة على سوي. حرورهم من عبودية التقليد والتقاليد يظلون أحرارا من القيود وفي السجون ( تصفيق طويل ) .

نحن السوريين نحن الذين شربنا الخل بدلا من الخمر. نحن الذين أكلنا الأشواك بدلا من الثمار . نحن الذين جررنا القيود لما كان غيرنا يجر الحرير والبرفير . نحن السوريين , نحن الذين بنينا القصور وسكنا الكهوف والقبور علينا أن نحرر نفوسنا من عبودية الماضي كيلا نكون أجسادا لأرواح جدودنا الميتة , علينا أن ننمو كأفراد لكي نقوى كجامعة . علينا أن نسير منفردين مستوحدين نحو قمة الجبل . ومن لا يسير رافعا رأسه يظل عبدا لنفسه , ومن كان عبدا لنفسه لن يسير حرا فالحرية شعاع ينبعث من داخل الإنسان ولا ينسكب من الخارج – ( تصفيق ) .

اكتسبوا المال . أقرأوا الجرائد . الفوا الجمعيات . تعلموا الصنائع والفنون وكونوا نظيفي النفوس والأجساد . فهذه هي الأشياء التي تصيركم رجالا أحرارا أشداء ونساء جميلات راقيات.

ولكني أستحلفكم برياض الشام وبساتين حمص وحماه وبهجة بيروت وجمال طرابلس وأرز لبنان أن لا تعلقوا آمال قلوبكم على الدولة. فالدولة جيفة منتنة ولكنها تختلج .

مرآة الغرب 3 أذار 1911 – المصدر كتاب ” لكم جبرانكم ولي جبراني ” الباحث جان داية ص 300- 304 .

اشترك جبران خليل جبران في تأسيس جمعية ” الحلقات الذهبية ” المهتمة بتحرير سوريا حيث تولى رئاسة هذه الجمعية و تولى أمانة السر في جمعية ” لجنة تحرير سورية وجبل لبنان ” .