°
, April 25, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

جدلية الفكر والأخلاق والسياسة

وظيفة الفكر هي اكتشاف العنصر العقلي أو العناصر العقلية في الظاهرات، الطبيعية منها والإنسانية، وفي التشكيلات والمنظومات الاجتماعية والنماذج والأنساق الثقافية والخطابات السياسية ….

العنصر العقلي هو المبدأ أو القانون المحايث لجميع الظاهرات، في صغائرها وكبائرها على السواء، وهو مبدأ وحدتها الجدلية، وليس شيئاً مقحماً عليها من خارجها. وإدراك المحايثة هو مما يعصم الفكر من التعسف والهوى والاعتباط. وهذه المحايثة ليست شيئاً آخر سوى العلاقة/العلاقات الضرورية، الداخلية والخارجية، التي تجعل الظاهرة المعنية ما هي عليه، وما يمكن أن تصير عليه. ومن ثم، فإن القانون الذي ينظم الحياة الاجتماعية هو روح الشعب، ومحصلة علاقاته الموضوعية ذات الطابع الجدلي، وخلاصة حياته الأخلاقية، التي تحددها عملية الإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي، في صيغة علاقات وبنى اجتماعية وعلاقات إنتاج تناقضيه، تناقضها جدلي بالضرورة.

لذلك لا يمكن أن ينفك القانون، بوصفه موضوع السياسة وموضوع الفكر، عن مضمونه الأخلاقي المحايث للعلاقات والبنى الاجتماعية ولعلاقات الإنتاج، ولا يستقيم أن تفرضه رغبة ذاتية، أو إرادة جزئية، إرادة طبقة أو عشيرة أو طائفة أو حزب أو طغمة ، لأن القانون لا يجوز أن يصدر عن إرادة جزئية وغير قانونية، ولا يجوز أن يصدر عن رغبة أو هوى، وإلا كان تناقضاً في ذاته. ومن ثم فإن الفكر الذي يستحق اسمه هو إدراك للحاضر وللواقع بالفعل، إدراك لروح الشعب ومنطق الواقع، منطق العلاقة والاحتمال، وإدراك للقانون المحايث أو للمبدأ العقلي والأخلاقي المحايث في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية. بل إن الفكر أو العقل يسعى على الدوام إلى تعرُّف ذاته في الحاضر وفي الواقع بالفعل، وفي حركته الجدلية، وإلى تعرُّف حريته في القانون العام والنظام العام بقدر ما يجعل منهما موضوعه الأثير. وتندرج عملية التعرُّف هذه في المسعى الدائم لحذف استلاب الإنسان وتحرير قواه الروحية شيئاً فشيئاً من سائر القيود، ولا سيما تلك التي صنعها بنفسه، وذلك باستعادة ذاته المتموضعة في العالم منتجاتٍ ماديةً وروحيةً، واستعادة موضوعية العالم إلى الذات مرة تلو مرة، وصولاً إلى تصالح الذات مع العالم ومع ذاتها.

يتجلى المضمون الأخلاقي للقانون في إرادة الخير العام والنفع العام والحق العام والمصلحة العامة، وفي ابتغاء الأمن والسلم الاجتماعيين، وهذه جميعاً لا تتجلى واقعياً إلا في إرادات الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية وفي منافعهم وحقوقهم ومصالحهم الفردية والخاصة، إذ لا وجود فعلياً للعام إلا في الخاص والجزئي والفردي. فليس من خير عام إن لم يكن جميع أفراد الأمة بخير، وليس من مصلحة عامة إلا بازدهار المصالح الخاصة للأفراد والفئات الاجتماعية المختلفة في رحابها، وليس من حق عام إن لم تكن جميع حقوق الأفراد والجماعات مكفولة ومصونة. فإن عمومية القانون، هي أساس مضمونه الأخلاقي، وما يوجب سريانه على الحاكمين والمحكومين وعلى المالكين وغير المالكين وعلى الأغنياء والفقراء وعلى الأقوياء والضعفاء بالتساوي. فإن العمومية مرادفة للمساواة، ولا تكون إلا بها. فإن مبدأ العمومية الذي هو ماهية جميع الخصوصيات هو المبدأ العقلي والأخلاقي الذي يجعل سائر الخصوصيات قابلة للاندماج في ما هو عام من دون أن تتخلى عن خصوصيتها، وهو مبدأ علماني بامتياز، لأن مضمونه هو تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات، والمساواة هي جوهر العلمانية، مفهومة فهماً صحيحاً.

والعمومية هي، في الوقت نفسه، العنصر العقلي أو العناصر العقلية في الواقع الاجتماعي الاقتصادي والثقافي والسياسي، لأنها تعبير عن العنصر العقلي أو العناصر العقلية في كل فرد من أفراد المجتمع المعني ومن أفراد الجماعة الإنسانية. نتحدث هنا عن العنصر العقلي والأخلاقي أو العناصر العقلية والأخلاقية القائمة بالضرورة في جميع الإثنيات والأديان والمذاهب والطوائف وفي جميع أفرادها، العناصر التي تجعلها جميعاً قابلة للاندماج في فضاء اجتماعي سياسي عام ومشترك، من دون أن تتخلى أي منها عن خصوصيتها ومن دون أن يتخلى أي من أفرادها عن فرديته. فالمساواة أمام القانون لا تعني إلغاء الفروق أو طمسها، لأن الفروق الواقعية بين الإثنيات والأديان والمذاهب والطوائف والطبقات الاجتماعية وبين الأفراد لا تنتج منها حقوق مدنية أكثر أو أقل، ولا تستوجب حقوقاً مدنية وسياسية أكثر أو أقل. فكون أكثرية السوريين عرباً ومسلمين سنة، على سبيل المثال، لا يمنحهم حقوقاً مدنية وسياسية أكثر أو أقل من الأكراد أو المسيحيين. إن ما هو عقلي هنا هو أخلاقي بالضرورة، فمن البديهي، وهذه الحال، أن يكون العام والخاص والفردي من ماهية واحدة هي ماهية الإنسان، بوصفه كائناً عاقلاً وأخلاقياً. ويغدو من البديهي أيضاً أن يكون القانون، بصفته العامة والمجردة، شرطاً لازماً لنشوء الأمة الحديثة، لأنه قوام العقد الاجتماعي. وعضوية الفرد في الأمة، على هذا الصعيد، تعني احترام القانون والتزامَه والنظر إليه على أنه الرابطة الحقوقية والأخلاقية التي تربطه بجميع أفراد الأمة الآخرين، وعلى أنه ملاذ الأفراد والجماعات، يعصمهم ويعصمها من الجهل والهوى. فلا يستقيم أن تكون أمة، وأن تكون هذه الأمة كائناً أخلاقياً من دون هذه الرابطة العقلية/الأخلاقية، أي من دون عقد اجتماعي يكون بموجبه جميع المتعاقدين أحراراً ومتساوين.

السياسة التي تستحق اسمها، بوصفها علم الدولة، أو علم إدارة الشؤون العامة، هي لحظة التوسُّط بين الفكر والأخلاق، أو المركَّب الجدلي منهما، سياسة مبدؤها الفكر أو العقل، فكر الواقع أو عقل الواقع، وغايتها الأخلاق والحياة الأخلاقية. المبدأ والغاية هنا كالمبتدأ والخبر، مسند ومسند إليه، لا معنى لأي منهما من غير الآخر، الغاية مغروزة في المبدأ ومحددة به. السياسة، بهذا المعنى، ممارسة، براكسيس، هي وحدة الفكر والعمل الجدلية، مسعى متصل لتحسين شروط الحياة الاجتماعية باطراد، وجعلها لائقة بالإنسان. كل ما عدا ذلك هو شيء ما دون السياسة، تحكمه الغرائز والأهواء والنزوات والمصالح الخاصة الجاهلة، العمياء. وفق هذا التحديد للسياسة يصح القول: إن الأمة جماعة سياسية، أي جماعة عاقلة وأخلاقية، لا جماعة عرقية/لغوية ولا جماعة دينية أو مذهبية. العرق ابن الطبيعة، لا ابن التاريخ، والدين هو تقديس الطبيعة ونفي التاريخ. ومن ثم فإن “الجماعة”، التي قوامها وحدة العرق أو اللغة ووحدة الدين أو المذهب، هي بالأحرى جماعة ما قبسياسية، وليست أمة بعد.

هل كثير علينا أن نفترض أننا، كسائر خلق الله، كائنات عاقلة وأخلاقية يسري عليها ما يسري على غيرها من قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ وقوانين العقل، فنكف عن إقصاء بعضنا بعضاً وتكفير بعضنا بعضاً وتخوين بعضنا بعضاً وتقتيل بعضنا بعضاً؟! وهل كثير علينا أن نفترض أننا ذوات حرة ومسؤولة ليست في حاجة إلى ولاية أحد أو وصايته على عقولها وضمائرها؟! وهل كثير علينا أن نفترض أننا قادرون على اكتشاف ما هو عام ومشترك بيننا جميعاً، والتعاقد والتعاهد والتواثق على ما فيه خير لنا جميعاً بلا استثناء، على ما بيننا من فروق واختلافات، في اللغة أو في الدين أو في المذهب أو في الفكر أو في السياسة، لا سبيل إلى طمسها أو إلغائها؟! وإلى متى ستظل عصبياتنا الإثنية واللغوية والدينية والمذهبية والطائفية تحول دون إدراك ماهيتنا الإنسانية وأننا متساوون في الإنسانية ويمكن أن نكون متساوين في المواطنة وفي الوطنية؟!

الهوية هي وعي الذات؛ والوعي هو الوجود مدركاً على نحو ما؛ فوعينا بأننا عرب لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة أننا بشر وأننا أعضاء في جماعة إنسانية قبل أن نكون عرباً. فإن كوننا أعضاء في جماعة إنسانية كبرى ومتساوين في الإنسانية، يؤسس إمكانية أن نكون أعضاء في جماعة إنسانية أصغر، هي الأمة، ومتساوين في المواطنة وفي الوطنية/القومية، بصرف النظر عن “أصولنا” الإثنية واللغوية وعن انتماءاتنا الدينية والمذهبية والطائفية وعن سائر محمولاتنا. هوية الفرد تتحدد بما هو عليه وبما ينتجه في جميع الميادين وبما يريد أن يكون عليه، وتتحدد في المحصلة بجملة علاقاته الاجتماعية والإنسانية. وهوية الأمة كذلك، تتحدد بما هي عليه وبما تنتجه على الصعيدين المادي والروحي، وبما تريد أن تكون عليه إرادة مقرونة بالعمل، وتتحدد في النهاية بجملة علاقاتها الداخلية والخارجية وبطابع هذه العلاقات. إن إدراكنا أننا أعضاء في جماعة إنسانية كبرى لا يجبّ أياً من خصوصياتنا، بل على العكس من ذلك يجعل من هذه الخصوصيات تجليات للروح الإنساني. وإن إدراكنا بأننا مواطنون أحرار في دولة وطنية ومتساوون في الحقوق والواجبات لا يجبّ أياً من خصائصنا الفردية أو خصوصياتنا الإثنية والدينية والمذهبية والطائفية والطبقية، بل يجعل من هذه جميعاً تجليات للروح الوطنية أيضاً. فإن ما هو وطني أو قومي، ولا فرق، لا ينفك عما هو إنساني. الوطنية والإنسانية صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل.

من المؤسف والمحزن في آن أن السياسة لم ترق عندنا بعد إلى مستوى العمل في سبيل تظهير العقد الاجتماعي القائم بالقوة في صيغة قانون عام يسري على جميع أفراد الأمة، ويخلصه من أوشاب الخصوصيات الإثنية اللغوية والمذهبية والطائفية وغيرها، التي تشوه العقد الاجتماعي وتفسده وتهدد بنقضه بين الحين والحين. وفي سبيل إلغاء القوانين الخاصة، أعني قوانين الملل والنحل، وإلغاء قوانين الأحوال الشخصية، التي لا تزال تحول دون مساواة المرأة بالرجل، وتهدر حقوق النساء وحقوق الأطفال. وفي سبيل إلغاء القوانين الاستثنائية، التي تفرضها السلطات الشمولية. لم ترق السياسة عندنا بعد إلى جعل الفروق والتعارضات الاجتماعية مهمازاً لتعديل القوانين وتطويرها وجعلها أدنى إلى العدالة، ولا سيما قوانين الانتخاب، التي تحدد مدى صحة تمثيل الأمة في المؤسسات التشريعية. بل إن السياسة لم ترق إلى مستوى العمل في سبيل المشاركة في الشأن العام وفي حياة الدولة على قدم المساواة، بدلاً من العمل في سبيل احتكار السلطة والاستئثار بمنافعها. المحك العملي للعلاقات الجدلية بين الفكر والأخلاق والسياسة هو الممارسة، لا ممارسة السلطات القائمة فحسب، بل ممارسة الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية المعارضة أيضاً. النقطة التي يتقاطع فيها الفكر والأخلاق والسياسة هي القانون، بصفته العامة والمجردة، وبصفته قانوناً متعيناً في دستور وفي مدونة قانونية، تشمل القانون المدني والقانون الجزائي وغيرهما من القوانين التي تنظم الحياة الاجتماعية.

هنا رودس فلنقفز هنا. ثمة عوامل موضوعية شتى متضافرة ومتراكمة تحيل على عقد اجتماعي قائم بالقوة هنا والآن، وبعض عناصره قائمة بالفعل، من أهم هذه العوامل: 1) العمل في القطاعات الإنتاجية والخدمية الحديثة، أعني العمل الاجتماعي الحديث الذي لا ينظر إلى الفرد إلا بصفته منتجاً للقيمة ولفضل القيمة، بغض النظر عن جميع تحديداته الأخرى وجميع محمولاته ، والعمل في الإدارة المدنية العامة، الذي لا ينظر إلى الفرد إلا بدلالة مؤهلاته العلمية ومقدرته على أداء الوظيفة الموكلة إليه. العمل بهذا المعنى هو أول طريق التجريد الذاهبة إلى مفهوم المواطن، وإلى مفهوم السياسة المرتكزة على مبدأ المواطنة، وأول الطريق الذاهبة إلى مفهوم الأمة. 2) التعليم العلماني، الذي يتسع أفقياً باطراد، ويفتح أمام الناشئة أبواب عالم مشترك و ينحو نحو الاندماج في العمل الاجتماعي وفي التنمية الاجتماعية والاقتصادية. 3) الثقافة الوطنية ذات المحتوى الإنساني، التي تنزع الورود عن الأصفاد التي تكبل العقل والضمير، وتلجم الإرادة. 4) بقايا منجزات العهد الليبرالي القصير، الذي عاشته بلداننا. وغيرها مما يقتضي تظهير العقد الاجتماعي القائم بالقوة، بين أفراد أحرار، لا بين طوائف وعشائر وإثنيات. فإن مهمة الفكر النظري بوجه عام، والفكر السياسي بوجه خاص التقاط ممكنات هذا العقد، لإنتاج ترسيمة نظرية تستمد أصالتها وحداثتها من معطيات الواقع القائم وممكناته.

ثمة فارق نوعي بين اشتقاق الفكر من الواقع واشتقاق الواقع من الفكر. العقائد أو الأيديولوجيات القومية والإسلامية والاشتراكية أنتجت كل منها عالماً مثالياً من “الفكر”، بنت عالماً قومياً عربياً أو إسلامياً في الماوراء، بإنتاج الكلام من الكلام واشتقاق الأفكار المجردة من الأفكار المجردة والتصورات الوهمية من التصورات الوهمية، والأحكام الفقهية من الأحكام الفقهية، فتحولت إلى هوامش جديدة على متون قديمة، وبعضها هوامش بلا متون، وإلى حجب تخفي حقائق الواقع كأنها لم تكن، مثلما تخفي الحجب السوداء الملامح الإنسانية للنساء وتخفي جمالهن، والحجب كلها سوداء تتراءى خلفها الأشياء والأحياء مثل بقرات سود في ليل أسود. الأيديولوجية القومية أو الإسلامية وحجاب المرأة صنوان، الثاني رمز للأولى. ومن ثم فإن الأيديولوجية القومية أو الإسلامية هي حجاب الأمة. لعل كل ما سلف من أحاديث عن الأمة العربية والأمة الإسلامية كانت أحاديث عن أمة محجَّبة وأمة محجوبة: الأولى لا وجود لها إلا في الصحارى الدماغية للقوميين والإسلاميين، والثانية قائمة في الواقع، بالقوة وبالفعل، ولكنها محجوبة بالأولى وغير معترف بها، كأنها لقيط، مع أنها مؤطرة في دولة قائمة بالفعل، وراسخة، هنا وهناك، تشهد على رسوخها النزاعات على الحدود وتسوياتها، وموقف الكويتيين من “الغزو العراقي للكويت” وموقف اللبنانيين من “الاحتلال السوري” للبنان أو من “الوصاية السورية” عليه، وغيرها و غيرها. اشتقاق الفكر من الواقع يبدأ بالبحث عن العنصر العقلي في الدولة الوطنية القائمة بالقوة وبالفعل، هنا والآن، وتنميته والبناء عليه، ومعارضة العناصر اللاعقلانية به، والعنصر العقلي مرة أخرى هو القانون.

حجة “الفكر القومي” أن “الكيانات القطرية” (الفكر القومي لا يسمي “الكيانات القطرية” دولاً، وإذا فعل فإن صفة القطرية الملازمة لها هي بالأحرى صفة تفيد التحقير. بل إنه يصف الكيانات القطرية بصفة الهزيلة، التي تكاد تكون ملازمة للأولى. فهل مصر مثلاً كيان هزيل؟!) هي نتاج التجزئة الكولونيالية، وفي هذه الحجة غير قليل من الصواب، ولا سيما في المشرق “العربي” ولكن كيف كانت حال العرب قبل التجزئة الكولونيالية؟ وهل كان بمقدور الدول الكبرى التي أنشأت “الكيان” السوري أو العراقي أو اللبناني أو غيرها من الكيانات أن تنشئ السوريين والعراقيين واللبنانيين أو المصريين أو غيرهم من الشعوب، وهل كان بمقدورها أن تنشئ ولاء السوريين لسوريا واللبنانيين للبنان والعراقيين للعراق وولاء المصريين لمصر أو انتماءهم الروحي إليها، من دون أن يكف العرب منهم عن كونهم عرباً؟ ذلكم هو المسكوت عنه. ومن ثم فإن هذه الحجة تشير إلى واقعة تاريخية لا تكفي وحدها لتفسير نشوء هذه الدول واستمرارها. بل ربما بات من الضروري إدراج هذه الواقعة في سياق مختلف هو سياق تشكل دول/أمم حديثة، اتساقاً مع منطق العصر الحديث، وهو سياق لا يستبعد عنصري الخطأ والنسيان، اللذين أشار إليهما أرنست رينان، في معرض حديثه عن تشكل الأمم الأوروبية الحديثة، ولا يستبعد عنصر الاستعمار وآليات التوسع الرأسمالي؛ ذلك أن عملية تقسيم تركة الرجل المريض إلى مناطق نفوذ لم تكن كلها اعتباطاً. فثمة حقائق تاريخية وواقعية لم يكن بوسع الدول الكبرى، التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، إغفالها أو تخطيها، يرجع بعضها إلى بنية الإمبراطورية العثمانية وعجزها عن إدماج الأقاليم والأقوام التي سيطرت عليها، بحكم المبدأ الإمبراطوري ذاته، أعني نهب الخارج ونهب الداخل.

فإن “ما هو عقلي متحقق بالفعل، وما هو متحقق بالفعل عقلي[1]. عند هذا الاقتناع يلتقي الفيلسوف والرجل البسيط، ومنه تبدأ الفلسفة دراستها لعالم الروح ولعالم الطبيعة على حد سواء. ولو كان التفكير أو العاطفة، أو أي صورة شئت من صور الوعي الذاتي، تنظر إلى الحاضر على أنه شيء باطل وتسعى إلى تجاوزه بمنظار حكمة أعلى فإنها تجد نفسها في فراغ، ولأنها لا تكون موجودة بالفعل إلا في الحاضر فحسب فإنها هي نفسها مجرد عبث باطل. (…..) وإذا استطاعت نظرية ما أن تجاوز العالم الواقع فعلاً وأن تبني المثل الأعلى للعالم على نحو ما ينبغي أن يكون عليه فإن هذا العالم يكون له وجود بغير شك، ولكن في رأس صاحب النظرية فحسب، على هيئة عنصر لا قوام له؛ فما تريده أياً كان لا يمكن أن تبنيه في عالم الخيال .. هنا وردة هنا ينبغي عليك أن ترقص” (هيغل), للعالم الذي تشيده “النظرية” أو العقيدة في الماوراء تبريره الأيديولوجي ونسقه الأخلاقي، اللذان ينبعان من الأهداف والغايات الذاتية والمصالح الخاصة العمياء، ويضفيان على هذه وتلك مشروعية لا تقل زيفاً عن التماسك الظاهري الذي تبديه الأيديولوجية المعنية، قبل أن تكشف الممارسة العملية في ميدان السياسة تهافتها وهشاشتها وخواءها. فالعلاقة السلبية بين الفكر والأخلاق والسياسة في العالم الذي تبنيه النظرية في رؤوس أصحابها، تؤكد العلاقة الإيجابية والضرورية بين هذه الأقانيم الثلاثة في العالم الفعلي، عالم الأعيان والمشاهدة.

فإن مغامرة العقل في بناء عالم في الماوراء، أو في المابعد، تنطلق من مطلب تغيير الواقع إلى ما هو أفضل وأجمل وأكثر عدلاً وإنسانية. وهو مطلب يدغدغ المشاعر ويلهب الأحلام، ويستمد جميع مسوغاته من الغاية السامية والهدف النبيل. ولكن تغيير الواقع غير ممكن قبل تعرفه على حقيقته وقبل فهمه وتعقله، وهذه، أي التعرف والفهم والتعقل، ثلاث لحظات متصلة ومتكاملة وضرورية بالتساوي. والقول بأن الفلسفة قد قامت بتفسير الواقع وصار المطلوب هو تغييره، على نحو ما فهم الراديكاليون العرب اليساريون عبارة كارل ماركس، يفترض أن عملية تفسير الواقع قد أنجزت، في وقت ما وفي مكان ما، وأن الواقع قد كف عن الحركة مع اكتمال عملية تفسيره، في انتظار أن تقوم الإرادة الذاتية بفعل التغيير، أي بمعجزة تغيير الطبيعة البشرية. العقلاني في عبارة ماركس يكمن في أن تغيير الواقع وجعله يتجه نحو الأهداف المنشودة، غير ممكن قبل تفسيره؛ وهذه العملية الأخيرة لا تنتهي ولا تكتمل. ومن ثم فإن عملية التغيير عملية جارية ومستمرة ومفتوحة على اتجاهات شتى واحتمالات شتى، ومعيار السير باتجاه الهدف هو اتساق الفعل السياسي مع منطق الواقع ليس غير. فإن الإرادة الذاتية لا تعني شيئاً ولا تفعل شيئاً ما لم تتعرف نفسَها أولاً في الإرادة الموضوعية، وما لم تتحول إلى عمل خلاق يستهدي بثروة المعرفة الإنسانية ويتوسل بها. ولم تكن الأمور دوماً على غير هذا النحو.

هذا لا يعني أن الفكر أو العقل لا يبني نموذجاً مثالياً يعارض به الواقع القائم. ولكنه حين يفعل ذلك يكون قد شرع في تفسير الواقع، ببعديه الزماني والمكاني، وفي اكتشاف منطقه، وتعرّف أسباب أزمته، وتلمس ممكناته. ومن ثم فإن ذلك النموذج المثالي لا يعدو أن يكون هو الواقع ذاته في وجوده الجوهري، أو هو الواقع ذاته على اعتبار ما يمكن أن يكون عليه، لا على اعتبار ما يجب أن يكون عليه، مع شيء من حلم وبعض من أيديولوجيا ومع احتمال الخطأ، بل مع شيء من الخطأ الذي يتأتى من مصدرين: أحدهما معرفي (غنوزيولوجي) أو منهجي، والثاني اجتماعي (فئوي أو طبقي). إن تاريخ الفكر النظري، كتاريخ العلم، هو تاريخ أخطائه. فتفسير الواقع وإنشاء النموذج المثالي عمليتان متلازمتان ومتكاملتان. وصدقية التفسير هي أساس فعالية النموذج ومردوديته.

“فما يكمن بين العقل بوصفه الروح الواعي لذاته وبين العقل بوصفه العالم المتحقق بالفعل أمام أعيننا، وما يفصل الأول عن الثاني، ويمنعه من أن يجد في الأخير إشباعه، هو قيود التجريد التي لم يتحرر منها (ليتحول إلى) فكرة شاملة. إن التعرف على العقل وإدراك أنه وردة في صليب الحاضر، وبالتالي فإن التمتع بالحاضر، هو الرؤية العقلية التي تجعلنا ننسجم مع هذا الواقع الفعلي، وهو انسجام تمنحه الفلسفة لأولئك الذين ارتفع بداخلهم ذات يوم صوت باطني يحثهم على فهم العالم، بحيث لا يقنعون بالبقاء عند الحرية الذاتية والمحافظة عليها فيما هو جوهري فحسب، لكنهم إلى جانب امتلاكهم لهذه الحرية الذاتية لا يقفون عند ما هو جزئي وعرضي، بل يتجهون صوب ما يوجد وجوداً مطلقاً”.

( …. ) وهذا ما يشكل أيضاً المعنى الأكثر عينية لما سبق أن وصفناه مجرداً بأنه وحدة الشكل والمضمون: لأن الشكل في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع الفعلي سواء أكان واقعاً أخلاقياً أم طبيعياً. وإذا ما عرفنا الوحدة والهوية بين هذين الجانبين فإننا نصل إلى الفكرة الفلسفية. إن نصف الفلسفة يبعدنا عن الله، ونصف الفلسفة هذا هو نفسه الذي يقيم المعرفة على مقربة من الحقيقة، في حين أن الفلسفة الحقة تقودنا إلى الله. وهذا القول نفسه يصدق على الفلسفة وعلى الدولة”، بحسب هيغل.

إن “علم الدولة”، الذي تقبع في أساسه فكرة الأمة، أو فكرة المجتمع المدني، ولا فرق إلا ذلك الفرق الضروري بين المفهوم وتجسيده الواقعي، لا يريد أكثر من أن يكون محاولة لفهم الدولة القائمة بالقوة أو بالفعل (هنا والآن)، ورسم صورة لها بوصفها شيئاً عقلياً في ذاتها وشيئاً أخلاقياً بالضرورة. ولا بد له بوصفه عملاً فلسفياً أن يكون بعيداً عن محاولة بناء دولة ما على نحو ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. إنه لا يبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها عالماً أخلاقياً. فمهمة الفلسفة هي أن تفهم ما هو موجود؛ لأن ما هو موجود هو العقل”، بتعبير هيغل أيضاً. موضوع علم الدولة، أو علم السياسة الجوهري هو الأمة التي تنتج الدولة شكلاً عقلياً، حقوقياً وسياسياً وأخلاقياً، أعلى من أشكال وجودها الاجتماعي المباشر. ومفهوم الأمة هنا يحيل على المجتمع المدني ليس غير، ويحيل من ثم على الحقوق المدنية والحقوق السياسية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان وحقوق المواطن، التي تعيِّنها علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية وقيمها الأخلاقية، وتنحكم بها. عند هذه النقطة يبدو من غير المنطقي أن نتحدث عن الأمة، أو عن المجتمع المدني، بمعزل عن الدولة، فالعلاقة بين الأمة والدولة علاقة ضرورية وجوهرية، لا علاقة اعتباطية ولا عرضية ولا إجرائية ولا افتراضية، فليس ثمة دولة بلا أمة ولا أمة بلا دولة. وكل حديث عن دولة منشودة هو حديث عن أمة منشودة، وكلتاهما، الدولة والأمة المنشودتان في علم الغيب. وليس بوسع أحد أن يكون على يقين مما ستكون عليه الحال في المستقبل، وإن توافرت جميع الشروط أو “المقومات” التي يعتقد أنها كافية؛ فليس هنالك من شيء حتمي إلا ما تحقق بالفعل. إن بومة منيرفا لا تطير إلا في الظلام. الدولة هي عقل المجتمع المدني وروحه وتجلي حياته الروحية أو الأخلاقية، هي عقل الأمة وروحها وتجلي حياتها الروحية، وهي بصفاتها هذه تقودنا إلى الله، أي إلى مبدأ وحدة العالم وضميره الأخلاقي، وإلى مبدأ وحدة المجتمع وضميره الأخلاقي، على الرغم من جميع الفروق والاختلافات الإثنية والدينية والمذهبية والطائفية، وعلى الرغم من جميع التعارضات الاجتماعية (الطبقية). الدولة السياسية هي مبدأ وحدة المجتمع وهي ضميره الأخلاقي، وهي لا تقوم إلا بالمجتمع المدني ولا تبقى إلا ببقائه، وسيادتها مطلقة على إقليمها وعلى شعبها، وليست شيئاً آخر سوى سيادة الشعب نفسه.

لسنا هنا بصدد إشكالية من ينتج الآخر، الأمة أم الدولة، فالإشكالية ذاتها تؤكد الطابع الضروري، العقلي أو الجدلي، للعلاقة بين الأمة والدولة، سواء قلنا إن الأمة تنتج الدولة أم إن الدولة تنتج الأمة، وحسبنا ذلك، ما دمنا بصدد وضع المقدمات والفرضيات، لا بصدد إنشاء عمارة نظرية قد لا يكون مصيرها أفضل من مصير العمارات النظرية التي انهارت أو من مصير العمارات العشوائية، التي تشوه جمال المدن في بلادنا. فإن غاية هذا البحث القلق وغير المتيقن من أي شيء هو إعادة التفكير في ما حسبناه من البديهيات ردحاً طويلاً من الزمن. ولست واثقاً بأي شيء سوى بالفرق بين التفكير والإيمان، بين السؤال المفتوح والإجابة القطعية الناجزة، ولست واثقاً بأي شيء سوى بمبدأ الفرق والاختلاف، في الصغائر والكبائر على السواء، وبأنه ليس للقانون فضل أعظم من فضل العشوائية والمصادفة اللتين تضعان القانون، وبأنه ليس للنظام العام أو القانون العام فضل أعظم من فضل الحرية التي تضع النظام العام وتفترضه ضرورة عقلية وأخلاقية وواقعية في آن معاً. فلا القوانين تبقى كما هي ولا الأنظمة تبقى كما هي، الأولى لا تبقى كما هي بفضل العشوائية والمصادفة والاحتمال، والثانية لا تبقى كما هي بفضل الحرية.

“يبدو أن الفلسفة تصل متأخرة أكثر مما ينبغي؛ فهي، بوصفها فكرة العالم، لا تظهر إلا حين يكتمل الواقع الفعلي وتنتهي عملية تطوره. إن الدرس الذي تعلمه لنا الفكرة الشاملة، وهو أيضاً درس يكشف التاريخ عن أنه ضروري ولا محيص عنه، هو أنه حين ينضج الواقع الفعلي، فقط، يبدأ المثل الأعلى في الظهور ليجابه عالم الواقع ويواجهه، وليبني لنفسه، في صورة مملكة عقلية، ذلك العالم الواقعي ذاته مدركاً في وجوده الجوهري. وحين ترسم الفلسفة لوحتها الرمادية، فتضع لوناً رمادياً فوق لون رمادي فإن ذلك يكون إيذاناً بأن صورة من صور الحياة قد شاخت (أو أن شكلاً من أشكال الحياة قد أصبح عتيقاً)، لكن ما تضعه الفلسفة من لون رمادي فوق لون رمادي لا يمكن أن يجدد شباب الحياة، بل يفهمها فحسب. إن بومة منيرفا لا تطير إلا في الظلام” (راجع مقدمة هيغل لكتاب “أصول فلسفة الحق”، ص 105 وما بعدها). النظرية رمادية؛ أما شجرة الحياة ففي اخضرار دائم.

إذا كان الواقع الذي وسمته الراديكالية، القومية والإسلامية والاشتراكية، بميسمها قد نضج حقاً وشاخ، فإن مدار البحث هو المثل الأعلى الذي سيجابه هذا الواقع ويواجهه، ويبني لنفسه، في صورة مملكة عقلية، هذا العالم الواقعي ذاته مدركاً في وجوده الجوهري. وإن السؤال اليوم لا بد أن يدور حول “الوجود الجوهري” لهذا العالم، عالم الإنسان، أعني المجتمع والدولة، والمجتمع الدولي. السؤال الفلسفي هنا هو نفسه سؤال السياسة. فإذا كانت الفلسفة هي خلاصة العالم الواقعي، في كل عصر، فإن السياسة هي مغامرة عقلية وعملية لمقاربة الوجود الجوهري للعالم والعمل بمقتضاه. فما هو جوهري في العالم الواقعي هو الإنسان الواقعي، العقل أو الروح والحرية والإرادة والعمل، أعني الفرد الطبيعي، الذي هو أساس المجتمع المدني، أساس الأمة، والمواطن، الذي هو أساس الدولة الوطنية/القومية، ولا فرق، والمواطن العالمي، الذي هو أساس المجتمع الدولي.

العالم بالتعريف هو عالم الإنسان، أي المجتمع والدولة؛ وصار من الضروري أن نضيف المجتمع الدولي، مجتمع الأمم والدول، لكي نؤسس لعلاقة منطقية بين الوطنية والكونية، وبين القوانين الوطنية والقانون الدولي والقانون الإنساني. المجتمع والدولة معاً هما الإنسان مموضعاً، بتعبير ماركس، الإنسان الذي ينتج ذاته، ويعيد إنتاجها، في العالم وفي التاريخ مجتمعاً ودولة ومجتمعاً دولياً، ويستعيد موضوعية العالم في ذاته مرة تلو مرة. ما هو جوهري في هذا العالم هو الإنسان، هو الفرد ببعديه المتلازمين: المادي والروحي، وما يتوفر عليه من ملكات واستعدادات ونوازع وقابليات. البعد المادي في الفرد هو ميدان الاختلاف في كل شيء، والبعد الروحي هو التشابه في عدة أشياء والتماثل في الحيثية الإنسانية. الإنسان في وجوده الواقعي هو الفرد، والفرد في وجوده الجوهري هو الإنسان. ذلكم هو المبدأ الأول لكل فكر وكل سياسة وكل منظومة أخلاقية. العالم مدركاً في وجوده الجوهري لا يحيد عن هذا المبدأ. ما هو متشابه في كثرة من الأفراد ومشترك فيما بينهم جميعاً هو الذي يجعل منهم أمة وجماعة مؤنسنة، وهو أساس المساواة فيما بينهم. ومن ثم فإن المساواة أمام القانون من أهم المبادئ التي نشأت وتنشأ عليها الأمم الحديثة والدول الحديثة. والمساواة مبدأ علماني بامتياز. العلمانية في هذا السياق هي تساوي أعضاء الأمة أو أعضاء الدولة/الأمة في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن اللغة أو العرق أو الدين، وعن أي اعتبار آخر. الأمة كائن علماني، لأنها كائن أخلاقي.

المثل الأعلى الذي يفترض أن يواجه الواقع ويجابهه لا يأتي من خارج الواقع ذاته، على أن بفهم الواقع على أنه الموجود بالقوة والموجود بالفعل معاً، أي على أنه جدلي واحتمالي وإمكاني ومتغير باستمرار. فلا يكفي، والحال كذلك، أن يفترض بعضنا الديمقراطية مثلاً أعلى، وكفى المؤمنين شر التفكير. فالديمقراطية ليست ما تحقق هنالك فحسب، ولا يمكن نقله أو استنساخه، ولا يمكن أن تأتي به قوة خارجية مهما حسنت نيتها ونبل قصدها، بل هي ما يمكن أن يتحقق هنا أيضاً مشروطاً بشروط الواقع ومقيداً بقيوده ومحدوداً بمعطياته وممكناته، وتلكم هي مهمة الفكر. ليس بوسع الفكر أن يجدد شباب الحياة ولا أن يصنع التاريخ ولا أن يغير الواقع، وليس بوسع الأدب والفن أن يفعلا ذلك أيضاً. الرسالة التغييرية التي تعوِّل على الإرادة الذاتية وحدها، كما تتجلى في المذاهب الخلاصية، هي بالأحرى رسالة أيديولوجية محكومة بهذيان الهدف، لا بمنطق الواقع. وظيفة الفكر تتلخص في اكتشاف منطق الواقع، واستعادة موضوعيته إلى الذات استعادة تنطوي على توقع الاحتمالات والممكنات، بقدر ما تنطوي على الإدراك والفهم والعقل، وفي هذا التوقع، فقط، يتجلى الطابع المستقبلي للفكر؛ فالمستقبل هو ممكنات الحاضر. لذلك بات لزاماً على الفكر أن يقوم بنقد النزعات الراديكالية، التي لابست جميع الحركات الاجتماعية والسياسية في التاريخ، ولا سيما في البلدان التي تشكو من نقص في تطورها الثقافي ونموها الروحي؛ إذ تقترن النزعات الراديكالية في هذه البلدان بظواهر استبدادية وفاشية ورعاعية متنوعة كانت جميعها ذات آثار تدميرية ونكوصية.

[1] – سيقول قائل إن ثمة نزوعاً غير مشروع إلى نوع من وضعية أخلاقية وقانونية ذات بطانة أيديولوجية تذهب إلى إضفاء مشروعية أخلاقية على الوضع القائم، ويمكن من ثم الحديث عن نزعة محافظة بل رجعية، وعن نزعة قطرية إذا استخدمنا قاموس القوميين الوحدويين. لذلك حرصت على أن يكون الاقتباس من هيغل طويلاً ومتضمناً ما يساعد على درء سوء التفاهم أو التخفيف من حدته. فلا أخفي أنني أتبنى تحديد هيغل للعقل على أنه الروح الواعي لذاته والعالم المتحقق أمام أعيننا في الوقت نفسه، في صيغة كلية عينية، يتحدد بموجبها مبدأ الهوية، على نحو مختلف جذرياً عن تحديده الصوري. وأتبنى من ثم أن الشكل في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعاً مادياً أو أخلاقياً. فإن هذه التحديدات لا تؤخذ في سياق البحث إلا تحت مقولة الديالكتيك، وأخذها كذلك يعني أن ما ينمو وينبسط في الواقع (المادي) هو الروح نفسه، وهذا الروح ليس سوى الروح الإنساني. فلا أتفق مع القائلين إن هيغل لجأ إلى الله من أجل أغراضه الخاصة وجعل منه متكأ لحججه المتهافتة. فالله عندي ليس سوى الإنسان ذاته. والعمل البشري الذي يغير أشكال الطبيعة هو ذاته فعل الخلق والإبداع. ولا أظن أنني أتأول هيغل على غير ما هو. إن ما يبدو أنه نوع من وضعية أخلاقية وقانونية في أصول فلسفة الحق لا يعدو كونه نقلة جدلية ضرورية في سير الديالكتيك، قوام هذه النقلة أن اللحظة الوضعية الإيجابية، لحظة الكينونة، هي لحظة ضرورية في مجرى الصيرورة، التي لا نستطيع تعرفها إلا إذا سكنا ما هو متحرك وقطعنا ما هو متصل ومستمر إجرائياً فقط.

بقلم : جاد الكريم الجباعي . مفكر سوري . نقلا عن موقع www.alawan.org