حوار مع جون جاك هوبلن. حاورته غواندولين دوس سانتوس
ترجمة حميد زنار
Jean-Jacques Hublin
من مواليد مدينة مستغانم على السّاحل الجزائري الغربي، يعتبر جون جاك هوبلن، عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، من أبرز المتخصّصين في مسألة التطوّر. هو اليوم مدير دائرة تطوّر النّوع الإنساني في معهد علم الإنسان في معهد ماكس بلانك بليبزيج (ألمانيا). من مؤلفاته “حينما كان بشر آخرون يسكنون الأرض” بالاشتراك مع برنار سيتر (2008)
الإنسان هو النّوع الأكثر تطوّرا على هذا الكوكب لماذا؟
جون جاك هوبلان:
يعود الفضل إلى دماغه… فمقارنة بالرّئيسيّات الأخرى ونسبة إلى كتلته الجسميّة، يملك الإنسان دماغاً أكبر ممّا ينبغي، فبدلاً عن 400 أو 500 سنتمتر مكعبة، يزن دماغه ثلاثة أضعاف ذلك! إنّ ضغط الانتخاب الطبيعي المستمرّ هو الذي أدّى إلى تطوّر هذا الدّماغ الكبير.
هل كان تطوّر دماغنا ضروريّا؟
اختصاصنا في الطبيعة هو تكوين مجموعات اجتماعيّة معقّدة تستعمل تكنولوجيات متطوّرة ودقيقة وذلك يتطلب أداء عصبيّاً عالياً. وباستمرار أعطى الانتخاب الطبيعي دفعات صغيرة ليصبح دماغنا كبيراً وعالي الأداء أكثر فأكثر.
ولماذا استغرق ذلك كلّ هذا الوقت؟
يجلب المخ حينما يكون كبير الحجم فوائد كثيرة ولكنّه يكون سبباً لبعض المساوئ وهو الثّمن الذي يجب دفعه. واستغرق الأمر 2.5 مليون سنة للمرور من دماغ بحجم دماغ الشمبانزي إلى دماغنا الحالي. وقد تطلّب الأمر لإتمام ذلك تعديلات كثيرة.
وما هي التحدّيات التي كان يجب تجاوزها؟
أوّلاً الدّماغ شيء مُربك، تطرح عمليّة الوضع لدى الإنسان مشاكل طب -توليديّة جديّة إذ ضيق هو بالأحرى حوض المرأة. وهش دماغنا من ناحية أخرى. فمثلا تتحمّل اليدان أو الرّجلان تغيرات درجات الحرارة القويّة جيداً، ولكن إذا ما ارتفعت حرارة الدّماغ 5 إلى أو 6 درجات فسيكون الموت أكيداً. وتبقى مشكلة تنظيمه الذاتي الحراري قضيّة ملحة. ولكن الشّاغل الأكبر هو وجوب تغذيته باستمرار. فهو لا يمثل سوى 2 بالمائة من حجم جسمنا ولكنّه يستهلك 20 بالمائة من الطاقة المُنتًجة. ولذلك يعتقد أن انجذاب البشر نحو اللحوم والدّهون وكل الأغذية التي تعطي كثيراً من الطاقة تهدف إلى تلبية حاجات هذا الدّماغ الكبير. وطبخ المواد الغذائيّة هو كذلك من أجل تحويلها إلى عناصر حيّة مغذّية.
وكيف حُلت مشاكل الطب – توليديّة التي كنت تتحدّث عنها منذ حين؟
من بين كلّ الرئيسيّات، نحن نملك أكبر دماغ ولكنّنا نولد بأصغر دماغ بالنّسبة إلى حجم الإنسان الرّاشد – حوالي 25 بالمائة، وهو ما يسهّل المرور عبر الحوض. وفي المقابل فهذا الدّماغ يكون غير تام التّكوين عند الولادة. ويتطوّر مع مرور الزّمن وعلى الخصوص خلال السّنوات الأربع أو الخمس الأولى في حين يكون قد اكتمل نهائيّا بعد سنة أو سنتين لدى الرئيسيّات الأخرى.
نضع كثيراً من الوقت لنكبر ونصبح مستقلين، هل هذا ثمن آخر ندفعه…
نعم، ولكن نعمل على أن يدفع الجميع معنا هذا الثمن. فمدة إرضاعنا قصيرة فبالنسبة إلى الشمبانزي أو إنسان الغاب* ولكن بمجرد أن يصل الصغير إلى مرحلة معينة يمكن أن يغذى بغير حليبها، تستطيع الأم أن تجعل الأب والجد والجدة والكبار الآخرين يساهمون في إطعامه. فلكي نحصل على هذا الدّماغ الكبير الحجم والمكلف من حيث الطاقة، فلا نستلف قرضاً طويل المدى فقط وإنّما نصل في لحظة إلى جعل آخرين يسدّدونه مكاننا. لقد طوّرت الجماعات البشريّة درجة من الإيثار غير معهود لدى الرئيسيّات الأخرى وجزئيّا يعود ذلك بسبب بقاء الأطفال مدّة طويلة معتمدين على الرّاشدين.
كيف استطاع دماغ الإنسان، وهو أقل اكتمالا عند الولادة ، أن يصبح أكثر تطوّراً؟
بما أنّنا نولد بدماغ غير مكتمل، فهو يواصل تطوّره خارج جسم الأم ومن هنا يتفاعل مع محيطه. باختصار، يتصرّف هذا العضو البالغ المرونة كالكومبيوتر الذي نطور قدراته ونحن نستخدمه في نفس الوقت. بعد الولادة، نستمرّ في صناعة ارتباطات متشابكة ونوعاً ما، كأنّنا نشتغل على أحبال الكومبيوتر، ويصبح هذا الجهاز الحبلي معقداً جداً جرّاء التكيفات المتواصلة. ما كان في البداية إجابة على مشكلة أصبح ميزة. فلكي نربي أطفالاً ذوي أدمغة غير ناضجة لمدة طويلة، ينبغي وجود قدرات إدراكيّة معقّدة لدى البالغين. ويتمّ اكتسابها جزئيّاً بسبب أن دماغهم هم كذلك لم يكن مكتملاً لدى الولادة أيضاً.
وهل استفاد دماغنا من أمور أخرى غير متوقّعة؟
نعم مثلاً أنثى الشمبانزي تهتمّ بصغيرها مدّة أربع سنوات دون أن يقترب منه أحد، وحتّى يتمكّن تقريبا من تدبير أموره بنفسه ويمكنها أن تلد غيره. لدى الإنسان حينما يأتي الأخوة والأخوات يكون الطفل قد لا يزال معتمدا جدّا على الوالدين. وينتج عن هذه الظاهرة صفات بسيكولوجيّة خاصة. وهكذا فمن الحيوي بالنسبة إلى الصغير أن يواصل الكبار الاهتمام به رغم وصول رضع جدد وبالتّالي يدخل معهم في منافسة مُقوية. يجب علينا أن نتعلم مبكّرا بناء علاقات اجتماعيّة معقّدة إذ ذلك أمر حيوي لبقائنا على قيد الحياة.
وهل يستمرّ دماغنا في التطور؟
طبعاً وبشكل رائع. بل وبلا شك فهو الشّيء الذي تطوّر أكثر لدينا حديثاً. فما نطلبه من دماغ إنساني اليوم لا علاقة له بما كنا نطلبه منه قبل 100000 أو 50000 سنة. ويستمرّ دماغنا في تحمّل ضغط الانتخاب نظراً لتعقّدنا، التقني والاجتماعي، المتصاعد. عوض التكيف التقني أكثر فأكثر، التكيّف البيولوجي دون أن يختفي هذا الأخير حتى الآن. وبطريقة ما، يعتبر تطوّر الإعلاميّة واحد من آخر دلالات هذه الظاهرة. ودخلنا الآن مرحلة بدأ فيه دماغنا يستعين بوسائل خارجيّة في تخزين ذاكرته وترك أقصى ما يمكنه من الوظائف إلى الآلات.
وما هي الخطوة التّالية؟
بدأ الإنسان يتدخّل في تطوّره لذاته، فيستطيع اليوم تغيير جينومه الخاص (نوعية خِلقته). وهو ما لم يتمكّن من القيام به أي نوع من الأنواع قبله. يقال إنّ ذلك شرّ ولكن لا مفر منه. ليس هناك مثل تكنولوجي واحد في تطوّر الإنسان تم اكتشافه ولم يرغب الإنسان في استخدامه.
المصدر
Le Point ,19/07/2012
المصدر : www.assuaal.net