(هذا موضوع إنشاء كتبه تلميذ في الصف الخامس من مدرسة الدرباسية الموحدة في وصف رحلة قامت بها المدرسة إلى عين ديوار).
استيقظنا في الخامسة صباحاً وركضنا نحو باص “الهوب هوب” الواقف أمام باب المدرسة، وكان ملوناً وجميلاً وقد كُتب عليه “سكانيا يتكلم والفولفو
يتألم”. وكان التلاميذ يقفون في الطابور بانتظام منتظم وهم يصعدون إلى الباص، وكان الأستاذ يحمل عصا مصنوعة من قضيب الرمان أهداه إياها ابن مدير الناحية، وكان كسلاناً، ولكن ترتيبه كان الأول دائماً، وكان الشيخ خضر السائق يشطف الباص، فكان التلميذ الذي يصعد يطرّش التلميذ الذي خلفه بالماء .ثم قال لنا الأستاذ: “اجلسوا في الخلف”، فجلسنا وقال لنا: “تكتفوا”، فتكتفنا، وجلس أصدقاء الأستاذ والآنسات في الأمام بينما جلس الأستاذ والآنسة ريما في “الجيم”(1) وانطلق الباص.. فصفقنا جميعاً، فقال لنا الأستاذ: “اخرسوا.. شو مفكرين حالكم بالطيارة؟”. ووضع الشيخ خضر شريطاً للمطرب “صلاحو”(2) وكان يغني أغنية كروانو، وكان الباص يطير طيراناً.
انزعج الأستاذ من أغنية كروانو، وطلب تغيير الشريط، ولكن الشيخ خضر لم يقبل، فأخرج الأستاذ الشريط من المسجلة، فانزعج الشيخ خضر، وضرب “فريناً”(3) قوياً، فتوقف الباص، وارتطمت رؤوسنا بالمساند الحديدية، وسالت الدماء من أنوفنا، ومسحناها بثيابنا، وعاد الشيخ خضر بالباص إلى الدرباسية، وكان الباص يطير طيراناً.
أوقف الشيخ خضر الباص أمام باب منزله، وشد حبل الزمور، فخرجت زوجته أمينة، وصنعتْ له إبريق شاي أكرك عجم، فجلس على الكرسي الصغير وهو يدخن سيجارة الحمراء الطويلة، وجاء أصدقاء الأستاذ، وتوسلوا إلى الشيخ خضر أن يصعد إلى الباص، ولكنه لم يقبل، وكانت زوجته أمينة واقفة بجانبه فخورة به، ثم جاءت الآنسات وطلبن منه أن يصعد كي نذهب إلى الرحلة، فرفض أيضاً، ثم اعتذر منه الأستاذ، وطلب منه أن يصعد كي نذهب إلى عين ديوار، ولكن الشيخ خضر انزعج وقال : “لن أذهب إلى عين ديوار إلا على جثتي”، وتذكرنا جميعاً درس البطل يوسف العظمة ومعركة ميسلون.
ثم جاءت الآنسة ريما وقالت له : “أنت أحسن سائق في العالم.. هيا نذهب إلى عين ديوار من أجل التلاميذ”، فنهض الشيخ خضر، وضرب زوجته أمينة، ورفس إبريق الشاي، وصعد إلى الباص.. وانطلق الباص من جديد، فقرصته الآنسة ريما من خده، وقالت له : “شكراً يا خضر”، فضحك الشيخ خضر، ولمحنا سنه الذهبي، ورمى شريط صلاحو من النافذة، وكان الباص يطير طيراناً.
وبدأ أستاذ الرياضيات يغني “كنا ستة على النبعة”، وكنا نرد وراءه “أجا المحبوب صرنا سبعة”، وكان الأستاذ يصفق والآنسة ريما ترقص بعد أن خلعت إشاربها وربطته على خصرها، وكان صديق الأستاذ دربكجياً بعد أن ظنناه أستاذاً، وشاهدنا المناظر الطبيعية على الطريق، وشاهدنا الأنهار الجميلة والينابيع، وشاهدنا الزهور التي على شكل ساعات، وشاهدنا الجبال الخضراء والسهول الجميلة، وشاهدنا البقرة التي تسابق القطار ولم نشاهد القطار، وشاهدنا السدود التي تمنع الفيضانات وتولد الكهرباء، وشاهدنا الفلاح النشيط وهو يطرد الإقطاعي البغيض، وشاهدنا الفلاح النشيط وهو يحرث بالمحراث الحديث والفلاح العادي يحرث بالمحراث القديم، وكان المحراث الحديث أفضل بكثير، وشاهدنا رئيس الجمعية يدافع عن الفلاحين، وشاهدنا الصهيوني الجبان يهرب من أمام الجندي العربي، وكان الباص يطير طيرانأ.
ثم وصلنا إلى عين ديوار فقال لنا الأستاذ : “اجلسوا تحت شجرة التوت”، فقال له حلّزو: “ولكنها شجرة تين”، فقال له الأستاذ : “اجلسوا تحت شجرة التين يا حمار”، وجلسنا، وكانت شجرة توت، ثم قال لنا الأستاذ: “تكتفوا ولا تتحركوا، أريدكم تلاميذ شاطرين في الرحلة”، وبدأ يلعب لعبة الغميضة مع أصدقائه والآنسات بينما كان الشيخ خضر يصنع الجمر لأركيلته، وكنا نبكي ونسعل من الدخان ما عدا حمو ومامو لأن أباهم قصّاب.
وكان الأستاذ يختبئ مع الآنسة ريما بين الأشجار، وعندما كانا يظهران كان فم الآنسة ريما يصبح أحمر مثل جمر أركيلة الشيخ خضر.
ثم قال لنا الأستاذ: “لا تسبحوا في النهر لأن فيه برّامات” وسبح هو والآنسات وأصدقاؤه، وكان الأستاذ يغطس تحت الآنسة ريما ويختفي، وكانت الآنسة ريما تصرخ ضاحكة :”آي”، ولكن آرتين لم يسمع كلام الأستاذ، وسبح في النهر، فغرق، فضربه الأستاذ ثم أنقذه، وصنع له التنفس الاصطناعي، وقال للآنسة ريما: “هيا اغرقي بسرعة”.
ثم قال لنا الأستاذ : “هيا لنلعب بالكرة الطائرة”. قسّمنا ثلاثة فرق، فريق خلف الأستاذ ليجلب الكرة، وفريق خلف فريق أعداء الأستاذ ليجلب الكرة، وفريق في المنتصف مكان الشباك، وكان الأستاذ يضرب الإرسال القوي، فترتطم الكرة برؤوسنا وكان يقول لنا: “وطّوا رؤوسكم يا عرصات”، ثم خسر الأستاذ، فمزق الكرة، وسمعنا صوت انفجارها العظيم، وضربنا جميعاً، وجلس يلعب بالطرنيب الـ 41. وفجأة قال الأستاذ :”14″، فصفقنا له جميعاًَ، وقلنا له عدد الطرنيبات التي في ورق خصومه، ولكنه لم يربح من الـ 14 سوى اثنين، فضربنا جميعاً، ومزق الورق، وقال لنا :”حضروا الطعام يا كلاب”، فهرعنا نحضر الطعام، وكان حمو ومامو يشويان اللحم لأن أباهم قصاب، وكان جاكو يغسل الصحون ورستم ينشفها، وكان ولاتو ينقل الصحون مع سلامو وشارو ويضعانها أمام الأستاذ وأصدقائه والآنسات، وقال لنا الأستاذ: أخرجوا صندويشاتكم لأن اللحم يوسخ أيدي التلاميذ، فأخرجنا صندويشاتنا، وبدأنا نأكل الزيت والزعتر، وكان صندويشاً لذيذاً، وكان الأستاذ وأصدقاؤه يأكلون الشقف والكباب والشيش طاووس.
ثم بدأ الأستاذ يصب الماء في الكؤوس حتى منتصفها ثم يصب الماء فوق الماء فيصبح حليباً، ثم شرب الأستاذ كأسين من الحليب، فبدأ يغني “لماذا يا بنفسج”، ثم شرب كأساً ثالثة، فمد يده على شعر الآنسة ريما، ثم شرب كأساً رابعة، فمد يده على شعر الآنسة سلوى، فصفعته صفعة قوية، وقالت له :”شو أنت أحول يا حقير”، فنهض الأستاذ غاضباً، ورفس كؤوس الحليب والصحون، وضربنا جميعاً، وقال : “اصعدوا إلى الباص فقد انتهت الرحلة يا حيوانات”.
وانطلق الباص من جديد، ولم يدق صديق الأستاذ على الدربكة، ولم ترقص الآنسة ريما، ولم يغن أستاذ الرياضيات “كنا ستة على النبعة” ولم نرد وراءه “أجا المحبوب صرنا سبعة”، ولم يصفق الأستاذ، ولم نشاهد المناظر الطبيعية، ولا الأنهار، ولم نشاهد السدود التي تولد الكهرباء وتمنع الفيضانات ولا الينابيع، وشاهدنا الإقطاعي البغيض يضرب الفلاح النشيط الذي كان يستنجد برئيس الجمعية، ولكنه كان لا يردّ عليه، ولم نشاهد البقرة التي تسابق القطار، ولم نشاهد القطار، ولم نشاهد الفلاح النشيط وهو يحرث على المحراث الحديث، وكان المحراث القديم أفضل بكثير، ولم نشاهد الجبال ولا البحيرات ولا السهول الخضراء، ولم نشاهد شيئاً..
ثم عدنا مسرورين.
حلب تشرين أول 1993
من سيرة الهر المنزلي
لقمان ديركي . كاتب سوري